هل يمكن حوسبة اللغة العربية؟
من الممكن حوسبة اللغة العربية بطريقة علمية ودقيقة شريطة تضافر الجهود بين الباحثين في اللسانيات العامة والحاسوبية والعلوم المعرفية وعلم البلاغة والإعلام.
بتنسيق مع الدكتورة فاطمة الحسيني أستاذة مادة ديداكتيك اللغة العربية في مركز تكوين مفتشي التعليم في الرباط، استضاف الطلبة المفتشون في مادة اللغة العربية يوم الخميس 29 كانون الأول - ديسمبر 2016 الدكتور طارق المالكي الباحث المغربي الشاب المتميز في مجال اللسانيات الحاسوبية والأستاذ في ماستر علم اللغة التطبيقي في كلية الآداب عين الشق التابعة لجامعة الحسن الثاني في الدار البيضاء. وقد قدم محاضرة تحت عنوان "حوسبة اللغة العربية". وبعد كلمة ترحيبية بالضيف قدمها الطالب المفتش رشيد ابن الفقيه باسم الطلبة المفتشين، قال المحاضر المالكي إن هناك تعاريف كثيرة لحوسبة اللغة تختلف باختلاف المرجعيات، لكنها تتفق جميعاً في كون هذه الحوسبة تعني تلك الدراسة الدقيقة لمشكلات التوليد والفهم الآلي للغات الإنسانية الطبيعية، أي تحويل عينات ونماذج اللغات الإنسانية إلى تمثيل شكلي صوري يسهّل على برامج الحاسب الآلي تطويعه والتعامل معه. ويرتكز هذا المجال البحثي الدقيق على نظريات الذكاء الاصطناعي وعلم اللغة الحاسوبي وعلم اللغة العام والإعلاميات والرياضيات والمنطق والعلوم المعرفية. وبيّن المالكي وجود نموذجين تتم بهما معالجة اللغة آلياً ألا وهما النموذج الخطي ذو المرجعية الأميركية والنموذج البنيوي ذو المرجعية الأوروبية. ويقصد بالنموذج الخطي طريقة آلية يفهم بها الحاسوب اللغة ويطوعها وينتجها. وهذه الطريقة الخطية ترتكز على النموذج اللساني التوليدي لرائد اللسانيات التوليدية نعوم تشومسكي والذي يسمى في أوساط اللسانيين بالنموذج التوليدي الأدنوي. وسجل الباحث أن هذا النموذج في معالجة اللغة آلياً قاصر ويُنتظر أن يتم الاستغناء عنه لأسباب عدة أبرزها أنه يتعامل مع مكونات الجملة كبنيات معزولة عن بعضها البعض. كما أنه ذو طبيعة معقدة في حين أننا نحتاج إلى الدقة المتناهية في التعامل لغوياً مع الحاسب الآلي. وقدم الباحث أمثلة توضيحية تدلل على مكامن القصور في هذا النموذج. أما النموذج البنيوي فهو طريقة جديدة بحيث أثبتت نجاعتها بحيث تجاوزت طابع التشتت والحدود بين مكونات الجملة في النموذج الأول إلى التعامل مع هذه المكونات في إطار علائقي، أي ناظرة إلى هذه المكونات من حيث كونها لا تخرج عن نمطين فهي إما "فئات" و إما "علاقات"، أي أن هذه الفئات تتعالق فيما بينها بواسطة علاقات نحوية مبنية على أساس منطقي. ويتأسس هذا النموذج في التحليل على نموذج ما يسمى بالنحو الاعتمادي. وقد أكد الباحث على ضرورة اختيار النموذج المناسب لمعالجة اللغة قبل كل شيء وبعد ذلك يجب صورنة النحو، أي تحويله إلى لغة رقمية قابلة للحساب بالآلة، مشيراً إلى أن الأبحاث في مجال حوسبة اللغة لا تزال جارية في العالم الغربي وحتى في المغرب نموذجاً، لكنه لا يزال ينتظر الباحثين المغاربة بذل المزيد من الجهود في هذا الصدد. وبيّن المالكي أنه من أحد أهداف وتطبيقات المعالجة الآلية للغة مساعدة الإنسان في عصر فيض وطغيان المعلومات على الوصول إلى المعلومات التي يريدها بسهولة وسرعة من خلال التلخيص الآلي والتحليل الآلي للنصوص، بالإضافة إلى البحث الذكي عن المعلومات في شبكة الإنترنت في أجيالها الجديدة التي تعرف باسم الويب الدلالية. وبعد ذلك دخل الطلبة المفتشون والدكتورة فاطمة الحسيني في حوار مع الضيف المحاضر حول بعض القضايا العالقة بخصوص المعالجة الآلية للغة وبصفة أخص ما اتصل باللغة العربية. وهكذا فقد أجمعت جل المداخلات على أنه في كل اللغات توجد بعض الكلمات التي تتعدد معانيها ويتحدد معناها بحسب موقعها في الجملة أو السياق إذ تعد مشكلة الغموض أو اللبس في المعنى والتي تسمى باسم اللبس الدلالي من أكبر التحديات التي تواجه معالجة اللغة العربية آلياً وتطبيقاتها وخاصة الترجمة الآلية، إلى جانب مشكلة الضمائر التي قد تعود على عاقل أو غير عاقل بعكس الإنجليزية التي تفرّق بين العاقل وغير العاقل في الضمائر سواء كانت ضمائر الفاعل أم المفعول أم الملكية. وهناك غموض آخر بسبب بناء أو تركيب الجملة يسمّى اللبس النحوي، حيث تعني الجملة أكثر من معنى أو يمكن تفسيرها بأكثر من طريقة مثل (شاعر النيل العظيم) حيث يمكن أن تعود صفة العظيم على النيل أو الشاعر. إن بعض الجمل لا تعني ما تقوله حرفياً ويتحدد معناها على الموقف الاجتماعي كأن تقول لشخص على سبيل المثال: هل من الممكن أن تعطيني الملح بجوارك؟ فهذا ليس سؤالاً يحتاج إلى إجابة ولكنه طلب. وكل أشباه هذه العبارات التي تعنى غير مدلولها الحرفي تمثل مشكلات وتحديات شديدة الصعوبة أمام عقل الحاسب الذي يصعب أن يفهم المواقف الاجتماعية أو يفسّرها أو يتصرف وفقاً لها. ناهيك عن ظاهرة التنازع والاشتغال في العربية والرتبة الحرة والإعراب والاشتقاق والانزياح وغيرها من القضايا التي لا بد من أخذها بعين الاعتبار إذا أردنا فعلاً أن نحوسب اللغة العربية بطريقة علمية ودقيقة. وهو أمر ممكن وليس مستحيلا ًكما يؤكد الباحث الدكتور طارق المالكي، ولكن شريطة تضافر الجهود بين الباحثين في هذه المجالات المعرفية كاللسانيات العامة والحاسوبية والعلوم المعرفية والإعلاميات وعلم البلاغة، ثم الرياضيات وكل مبحث معرفي من شأنه أن يقدم خدمة لهذه العملية العلمية الدقيقة. * د. لحسن الكيري مترجم وباحث في علوم الترجمة ومتخصص في ديداكتيك اللغات الأجنبية - الدار البيضاء -المغرب.