نيتشه قارئاً الأزمة السورية؟
عرفت قراءة المشهد السوري "تشكل طبقات وشهد تراكمات وأدلجات فائقة، اختلط فيها الحقيقي بالكاذب، والواقعي بالافتراضي؛ بل إن الصورة حلّت محل الواقع، وأنتجت واقعاً، وفي غمرة الحدث والاحتدام حوله، انكسرت العلاقة بين الأصل والصورة، بين الحقيقي والافتراضي، ولم يعد من السهل التوصل إلى "الحقيقة الحقيقية" للأمور.
صدرت دراسة "ضفدع نيتشه؟ مقاربات معرفية في قراءة الأزمة السورية"، للباحث السوري عقيل سعيد محفوض، عن مركز دمشق للأبحاث والدراسات. تتألف الدراسة من مقدمة وثمانية محاور هي: أولاً: معنى القراءة، وثانياً: نقطة ارتكاز أرخميدية أو أركيولوجيا الحدث، وثالثاً: قراءة على قراءة، ورابعاً: التفكيك، وخامساً: الخلق بالملاحظة، وسادساً: السينما والقطار، وسابعاً: ضفدع نيتشه، وثامناً: عقبات باشلار (العقلانية التقريبية، العقلانية المحلية)، وتاسعاً: إفصاح الحدث، وأخيراً خاتمة.
أدت الجهود المبذولة لقراءة المشهد السوري والإضاءة عليه وتفكيكه، وإعادة إنتاجه، إلى "ضخ" الكثير من المعلومات والأفكار والآراء والصور والمدارك، وقد أدت أحياناً إلى نوع من "التعقيل" للمشهد السوري، ولكنها غالباً ما قامت بالعكس، أي "التضليل" و"التزييف". والواقع أن ذلك "يخلّف نقاطاً مظلمة"، أو "غامضة" قد لا يسهل "فضحها" أو "تفكيكها".
يبدو أنَّ ثمة نوعاً من "النكوص" في ديناميات القراءة والتلقي للحدث، بالميل إلى التفسيرات السطحية والسببية البسيطة، والتفسيرات الميتافيزيقية، والخرافية، والإيديولوجيات النمطية التي تقسّم العالم إلى دارين أو فسطاطين، الخ.. وأن الحرب في سورية هي حرب "نهاية العالم"، كما يرد في السرديات الدينية والقراءات المذهبية المختلفة، ذلك بالتوازي مع نكوص من نوع آخر، تمثل ببروز اتجاهات إحيائية لمنطق "الاحتواء" و"الحرب الباردة"، واستخدام القوة التقليدية في الحرب، وغير ذلك، إلى جانب تقنيات وأدوات ما بعد الحداثة.
في الوقت الذي كشف فيه الحدث السوري عن إخفاق في قراءة ما يجري، فإنه عزَّزَ بعض أنماط القراءة التي ظَنَّ العالم أنه تجاوزها، من ذلك مثلاً نمط قراءة ما يصدر عن الحدث بالنظر إلى أصحابه أو أصحاب المصلحة فيه. وهكذا فما أن تعلم أولويات هؤلاء حتى تستطيع أن تقدر سلفاً مضمون ما يصدر عنهم، بتحيزاته الصريحة والمضمرة. ولن تكون القراءة في هذه الحالة مفيدة، إلا إذا كان الهدف منها تتبع المواقف وتقصّي إن كانت ثمة تلميحات أو مقدمات لتحوُّلٍ ما في الموقف، لأنك سوف تتمكن من مقارنة ما تقرأ، بما تعرفه عن المواقف السابقة لأصحابها.
هنا تبرز "ذاتيةُ" قارئِ الحدثِ السوريِّ أو أيِّ حدثٍ آخر، من خلال ما ينتجه من نصوص أو أفلام أو صور أو تقارير أو مذكرات، الخ،، سواء أكان القارئ فرداً، أم مركز أبحاث، أم منظمة أم دولة، "ذاتيّةٌ" هي التي أنتجت نصوصاً ومقاربات، ويكاد كلُّ نصٍّ يفصح عن كاتبهِ، وعن الأسس والرهانات التي أنتجته.
تتمثل إشكالية القراءة هنا بمحاولتها العمل على المشهد السوري في مستويين: الأول، هو التمييز-ما أمكن، قُلْ: إن أمكن-بين الحدثِ من جهة، والمعرفةِ به أو التعبير عنه من جهة أخرى؛ والثاني، يتجلّى في عملية معكوسة، وتتمثل بـ"إعادة الارتباط" بين الحدث والتعبير عنه، أي بين الوقائع وارتداداتها من منظورٍ، ونتائجها السياسية والثقافية من منظورٍ آخر.
إذا كان الحدث السوري مُثقلاً بـعناوين ومفردات واستعارات كثيرة، تصطف إلى هذا الجانب أو ذاك من الحرب، إلا أن ذلك يجب ألا يثنينا عن البداهة الأساسية الكامنة في القلب منه، وفي قلب أي صراع أو مواجهة سياسية، وهي القوة والمصلحة، أو بمعنى آخر المعنى والقوة. وهذا يتصل بالأطراف السورية وغير السورية.
تخلص الدراسة إلى أنَّ من أولى المهام والتحديات أمام قراءة معرفية وتفكيكية للحدث السوري، هي الانطلاق من مبدأ مقاومة الأقوال المتداولة، على حد تعبير بيير بورديو، والحفر عميقاً في طبقات الخطاب والسلوك حول الحدث، وتفكيك العقبات الرؤيوية والمعرفية/الإبستمولوجية، بما يساعد على تجاوز أو احتواء العقد والأوهام والأضاليل والرهانات المعقدة حول الحدث.
هذا يفسّر حجم المخاطرة في قراءة أحداث من نمط الحدث السوري، ولماذا تُخفق الكتابات السياسية والاجتماعية وغيرها، في الكشف عن حقيقة ما يجري؛ بل التنبؤ بمساراتها المحتملة، ولو أن هذا التحدي يجب أن يمثّل حافزاً إضافياً لتخليق أو اجتراح فضاءات عمل وأدوات تحليل ومقاربات فعالة، لأن وقت الأزمات الكبرى هو وقت طرح الأسئلة الكبرى، وفيه تبرز المحاولات والرهانات الكبرى أيضاً.
تقتضي قراءة حدث "مليء بالمخاطر" في مشهد يزداد تعقيداً وغموضاً، من الكاتب/القارئ المزيد من التدقيق والتأني فيما يختاره، وما لا يختاره، هذا يتطلب من قارئ الحدث أو الذي يكتب عنه أن يختار الموضوع، ويتخيّر العدة المنهجية المناسبة، وقبل ذلك أن يتسلح بأخلاق القراءة/الكتابة، وأن يتحسب لخصم أساس وهو "أناه" هو قبل "أنا" قارئه؛ وأن يفصح ما أمكن عن قواعد اللعبة التي حكمت "تأليف" ما ألفه.
مثّل الحدث السوري حتى اليوم تحدياً عميقاً للمشتغلين بالتحليل السياسي، ذلك أنّ تقصي الحدث لا يحيل إلى أسبابه "الداخلية" أو "الدولتية" فحسب، وإنما إلى التدافع الإقليمي والدولي حوله أيضاً، كما أن الخطاب حوله لا يساعد على التوصل إلى وقائعه وحيثياته، وهو في جانب كبير منه خطاب سياسات ورهانات واستهدافات أكثر منه خطاب واقع وأحداث.
ثمة تعارضات نشطة بين تحليل الظاهرة السورية والكلام حولها، وأكثره لا يشكل تراكماً من النوع القابل للإفادة العلمية منه، وإنما من النوع الذي يحجب الكثير من "الحقيقة"، ولحسن الحظ وربما لسوءه، أن العلوم السياسية والتحليل السياسي والثقافي، لا تجتهد في الفصل بين "الواقعي" و"الافتراضي" في الشأن السياسي وغيره، ومن ثم فإن السياسة والتحليل المرتبط بها مُلزمان بالتعامل مع الأمور أو الأشياء الحقيقية والافتراضية، والوقائع والاحتمالات ربما على قدم المساواة.
"القارئ جزء مما يقرأ، جزء من المشهد، ومن ثم فإن استعداداته وإمكاناته وتقديراته ورؤاه ورهاناته، تلعب دوراً في "القراءة" و"التلقي" كما تلعب دوراً في "الاستجابة". وهذا يفسر اختلاف وتعدد القراءات وتفاوتها بشكل كبير، كما لو أننا أمام واقع أو وقائع مختلفة بالكلية."
لعل من أولى المهام والتحديات أمام قراءة معرفية وتفكيكية للحدث السوري، هي الانطلاق من مبدأ مقاومة الأقوال المتداولة، على حد تعبير بيير بورديو،(بورديو، أسئلة علم الاجتماع، ص 13)، والحفر عميقاً في طبقات الخطاب والسلوك حول الحدث، وتفكيك العقبات الرؤيوية والمعرفية/الإبستمولوجية، بما يساعد على تجاوز أو احتواء العقد والأوهام والأضاليل والرهانات المعقدة حول الحدث، ذلك أنَّ الكثير من المخرجات الكتابية والرقمية والسلوكية حول الحدث جاء تحت زيادة الطلب المرتفع نسبياً في سوق السياسة والميديا، ما جعل من قراءة الحدث نوعاً من ظاهرة ريعية فائقة.
غير أننا لا بد أن نأخذ في الحسبان تحذيرين هامين: الأول، من فريدريك نيتشه، يقول فيه: إنَّ الأحداث الكبرى، لا تُفصِح لمعاصريها عن مكنوناتها؛ والثاني، من كارل فون كلاوزفيتز، يقول فيه: إنه لا يمكن تعرّف طبيعة الموقف في وقت لا يزال "ضباب الحرب" يحجب الرؤية؛ بكل ما يعنيه ذلك من ضرورة توخي الحذر المنهجي والمعرفي، في التعاطي مع الحدث، وألا يكون سقف التوقعات مرتفعاً، ذلك أن التعقيد والغموض وصعوبة الإمساك بالموضوع، كلّه يجعل تقدير الملامح العامة أو تقديم تقديرات متوازنة أو مستقرة، أموراً في غاية الصعوبة.
هذا يفسّر حجم المخاطرة في قراءة أحداث من نمط الحدث السوري، ولماذا تُخفق الكتابة السياسية والاجتماعية وغيرها في الكشف عن حقيقة ما يجري، بل التنبؤ بمساراتها المحتملة، ولو أن هذا التحدي يجب أن يمثّل حافزاً إضافياً لتخليق أو اجتراح فضاءات عمل وأدوات تحليل ومقاربات فعالة، لأن وقت الأزمات الكبرى هو وقت طرح الأسئلة الكبرى، وفيه تبرز المحاولات والرهانات الكبرى أيضاً.