"الكتاب الأسود" .. الجماعات والفرق الدينية في تركيا

تتمحور الفكرة الأساسية للكتاب حول رصد فكر الجماعات الدينية في تركيا، مستندةً إلى أسلوب نقدي يرى أن تفرع الجماعات الدينية بأفكار ومناهج مختلفة أدى إلى انتشار الفساد والجهل في أوساط الشريحة المحافظة في تركيا.

كتاب "الكتاب الأسود.. الجماعات والمذاهب"

التساؤل الأساس الذي يشكل الفكرة الأساسية للكتاب هو: "ما هي أسباب التفسير الخاطئ للدين الإسلامي في تركيا؟".

وإلى جانب هذا التساؤل، يهدف الكاتب إلى الإجابة عن أسئلة فرعية عدة أهمها:

ـ ما هي الجماعات الدينية الفاعلة في تركيا؟

ـ ما هو مستقبل الجماعات الدينية في تركيا؟

ـ ما الذي يجب على المسلمين القيام به من أجل استعادة أمجادهم الغابرة؟

يركن الكاتب عبد الله صاري في سرد تفاصيل الكتاب إلى منهج التفسير النقدي الذي يقوم على الجدل حول حقائق ومبادئ راسخة في نقطة ما، والذي يحاول تقديم حجج واضحة ومعقولة حول نقد المسألة البحثية، والذي يعمل على النظر في إمكانيات تغيير التعميمات المنتشرة في المجتمع.

في مقدمته، يُشير الكاتب إلى أنه في تركيا تفرعت المراجع الدينية، بعد القرآن والسنة، ما بين "مولانا" جلال الدين رومي، ويونس إيمري، والدراويش، والأولياء، ومناهج الجماعات والفرق، مضيفاً أن المراجع الدينية باتت تُقتبس أحياناً من الأنشطة السياسية أيضاً، وهذا ما أدى إلى انتشار الجهل والفساد، ونشوء أفكار دينية غربية كفكر "داعش".

وفي مطلع سرده لأفكار الكتاب، يتساءل الكاتب: أين موضع الخطأ؟

وفي معرض إجابته على هذا التساؤل، يقول الكاتب إن الأحاديث الشريفة تُحدثنا بأن الدين هو العلم، فإن غاب العلم غاب الدين، الدين هو الحياء، فإن غاب الحياء غاب الدين، الدين هو الأدب، فإن غاب الأدب غاب الدين، الدين هو الأخلاق والوجدان، فإن غابا غاب الدين، الدين هو المصداقية والمحبة والإخلاص والأمانة والسلام والأمن، الدين هو التفكر والتدبّر والعقلانية، فإن غابت هذه العناصر التي تنعدم في مريدي الجماعات الدينية الذين يؤمنون بتوجيهات شيوخهم من دون تفكر، غاب الدين. ويضيف أن بعض الأحاديث تقول إن "العلماء ورثة الأنبياء"، و"نوم العالم خير من صلاة أو عبادة الجاهل".

وأوضح الكاتب أن الأحاديث التي تحدثنا عن الأخلاق لم تُلقّن للمسلمين من قبل الجماعات الدينية التي اختزلت الدين في مجتمعنا على الصلاة والصيام والحج والدعاء والإيمان بالملائكة والجن الذي أرعب الناس ودفعهم للإيمان بالسحر والعمل به وما إلى هنالك.

ولم يقف الأمر على ذلك، بل امتد ليشمل تقديس الطقوس والشكليات على حساب الأساس والجوهر، إذ يبيّن الكاتب أن النظام الحاكم في تركيا، والأنظمة الحاكمة في الدول الإسلامية، تخشى من تعلّم الناس للدين الصحيح، لأن تعلّمهم الدين الصحيح يعني عملهم الجاد وتفكّرهم ومطالبتهم بحقوقهم العادلة، وهذا لا يصب في صالح تلك الأنظمة.

ومن هذا المنطلق، يوضح الصاري أن الأفضل في تقييم الشخصيات الحقيقية والاعتبارية ـ اعتبارية كالأحزاب السياسية مثلاً ـ أنها دينية أم غير ذلك من خلال النظر إلى حجم تناسق تحركها مع أوامر القرآن الكريم والسنة الشريفة، بعيداَ عن النظر إلى خطاباتها وشعاراتها التي قد تكون شكلية أكثر من كونها حقيقية. وبذلك يمكن اعتبار حزب العدالة والتنمية حزباً ليس إسلامياً أو دينياً لأنه حزب يقوم على معادلة التعاون بين التجارة والسياسة اللتين تفتحان الشهية النفسية لكل إنسان، ولم يتجنب رواد الحزب تجنب هذه الشهية، بل سقطوا خاضعين لها. ويزعم الكاتب أنه منذ قدوم حزب العدالة والتنمية إلى السلطة وتركيا تغرق في مستنقع الإرهاب وانعدام الحريات والفساد المؤسسي الحكومي والكذب والخداع.

وفي القسم الأول من الكتاب، يرصد الكاتب الأسباب البنيوية الفلسفية المعرفية التي أدت إلى ظهور جماعات دينية تطبق الدين الإسلامي على نحو يخاطب الأهواء والأهداف التجارية والسياسية، بعيداً عن الهدف الأساس له، موضحاً أن السبب الأول هو النفس البشرية التي دفعت عدداً كبيراً من نخبة المجتمع التركي لتكييف الدين مع حياتهم، وليس تسيير حياتهم وفقاً للأحكام الدينية.

ويُضيف الصاري أن ربط الدين بمؤسسة أو مجموعة هو السبب الرئيس للتطبيق الخاطئ للدين، وهذا ما حدث في تركيا، حيث رُبط الدين بحزب العدالة والتنمية أو بجماعة الداعية فتح الله غولن أو غيرهما، وهو ما تمخض عنه الكثير من النتائج السلبية للحياة، مشيراً إلى أن تجزئة الدين أيضاً لعبت دوراً أساسياً في ذلك. فالدين كامل شامل، لكن كثير من النخبة الاقتصادية والسياسية يميلون إلى جزء من الدين، تاركين أجزاءً أخرى، لمخاطبة أهوائهم وأفكارهم.

وربما تبني كل جماعة دينية نهجاً معيّناً لتفسير الدين قد لعب دوراً مهماً في إخراج النتيجة الظاهرة أمامنا. فكل جماعة تفسّر الدين بشكل قريب إلى نهجها الفلسفي، بغرض كسب مشروعية مجتمعية تمنحها هيكلة بنيوية قوية، بحسب الكاتب الذي يستدل بمثال تفسير كلمة "تقوى". يقول الصاري إن كلمة تقوى تُفسر بمعنى "حماية النفس" أو "تجنيبها المهالك"، لكن التفاسير الدارجة في الأسواق التركية تحمل كماً هائلاً من التهويل لهذا الكلمة، حيث أولتها على أنها تعني "الخوف، والاحتراس الشديد"، وغيرها من التفسيرات المبالغ فيها أمام دين الله الرحيم، فضلاً عن الاختلاف الشديد في قضية الحجاب الذي يرى البعض أنه فرض، والبعض الآخر غير واجب.

وفي إستكمال شرحه عن جزئية اختيار النصوص الدينية، يُشير الكاتب إلى أن كل جماعة دينية أو فئة مجتمعية في تركيا تختار تفاسير معيّنة للقرآن تخاطب أهدافها، فعلى سبيل المثال:

ـ جماعة غولن: تفسيرا علي أونال وسعاد يلدريم.

ـ جماعة السليمانيين: تفسيرا حسن بصري جانتاي وإلمالي حمدي.

ـ جماعة أران كوي: تفسير حمدي دونداران.

ـ العلمانيون: تفسيرا ياشار نوري أوزتورك وسليمان أتيش اللذان يخاطبان الفكر العلماني في تبني الدين الإسلامي.

وهكذا فإن كل جماعة تقرأ تفسيراً للقرآن مختلفاً عن الآخر، وهناك تظهر تأويلات تخص أفكارهم بعيداً عن الأهداف السامية للدين.

وفي الفصل الثاني من الكتاب، يقسّم الكاتب الجماعات الدينية ما بين جماعات مقبولة وجماعات غير مقبولة في تركيا وغيرها من الدول الإسلامية، مستنداً إلى سرد الجماعات غير المقبولة، وتاركاً الجماعات أو الفرق الأخرى كفرق مقبولة وفقاً لأسس السنة والجماعة.

وتحت عنوان "تعلّموا إذا كنتم لا تعلمون"، يستكمل الكاتب طرحه بالإشارة إلى أن الجماعات الدينية تضر بالإسلام كثيراً عندما تلتحق بالفرقة المؤدية إلى العدمية، ولا تقبل بجميع المسلمين كإخوة، وترفض الاعتراف بأن المشارب الإسلامية ما هي إلا عنصر يُثري الجانب المعرفي للدين الإسلامي، وتجسّد ذاتها على أنها الجماعة الوحيدة الممثّلة للدين الإسلامي.

وفي نظر الكاتب لا بد من الإطلاع على الجماعات الدينية وفقاً للمعايير التالية:

  • جميع الجماعات والطرق والمذاهب الدينية هي جزء لا يتجزأ من المجتمع الإسلامي.
  • لا يحق لأي جماعة أن تختزل الدين الإسلامي في ذاتها.
  • لا يمنح الدين الإسلامي أي عذر لاستخدام سبل أو عرض رؤى تكون معارضة لروحه الطاهرة.
  • لا يحق لأي جماعة أن تنتهك حقوق وطقوس الجماعات الأخرى.
  • لا يحق لأي جماعة أن تُجري اتفاقاً أو حواراً دينياً مع أطراف أخرى باسم المسلمين ولكن من دون الرجوع إلى الجماعات الأخرى.

وبانتقاله إلى الفصل الثالث من الكتاب، والذي عنوّنه الكاتب تحت عنوان "الطرق والجماعات ـ السياسة والإنسان"، يوضح الكاتب أن بعض رجال الدين قد نشر الخرافات في تركيا، وبات عدد كبير من المواطنين كالإمعة التي تمارس حقها السياسي في الانتخاب، بناءً على توجيهات الشيخ.

وبرصده بعض الجمل التي تُردد أمام شيوخ الجماعات؛ "من رأى وجهك الكريم، حصل على قوة رؤية الحق"، "من لم يظهر له الاحترام، ومن لم ينحنِ أمامه، ذبلت شجرته"، متسائلاً: "ما حجم الشرك الذي تحمله هذه الجمل "العفنة"، لماذا لا يتدبر من يقولها في مضمونها؟"

وعن هيكلية ونشاط الجماعات الدينية في تركيا، يقول الكاتب إن هذه الجماعات تموّل ذاتها عبر الأوقاف وبعضها عبر الشركات الربحية الكبرى، وتنتقل إمارة الجماعة من الأب إلى الإبن أو الأخ، مبيّناً أن هذه الجماعات تلعب دوراً كبيراً في تحديد نوعية العلاقات بين المواطنين الأتراك، ويؤثّرون في مسار العملية السياسية، ولعل مشاهدتنا لزيارة الساسة لهذه الجماعات لكسب أصوات مريدهم، يؤكد ما يُدعى. وبالطبع يولد ذلك الأمر منافسة محتدمة بين هذه الجماعات، فجميعها يريد الوصول إلى الموقع الأكثر تأثيراً في المسار السياسي الذي يُشير إلى أن الساسة أيضاً يتسابقون لتقريب هذه الجماعات، وتأسيس علاقتهم النفعية مع هذه الجماعات بحسب الأكثر إخلاصاً منها لهم.

وبوصفه للخرافات التي تدور حول شخصية شيوخ الجماعات، كتلك التي تدعي أنهم يعلمون الغيب ويشفون المريض، بالشرك، يوجّه الكاتب إلى مريدين الجماعات تساؤلاً مفاده: "ألا يوجد عاقل يقول لذلك الشيخ "يا شيخ أأنت أكثر قوةً من النبي يعقوب عليه السلام الذي فقد بصره حزناً على ابنه، ولم يستطع إنقاذه، أم هل أنت أقوى من النبي يونس عليه السلام الذي قال عندما وقع في بطن الحوت "يا رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي؟".

ويخصّص الكاتب الفصل الأخير من الكتاب حول "موقف حزب العدالة والتنمية ـ الحزب الحاكم في تركيا ـ من الجماعات الدينية؟"، مشيراً إلى أن الكثير من الأنباء تداولت اتخاذ مجلس الأمن القومي التركي عام 2004، أي إبان حكم حزب العدالة والتنمية، قراراً حول ضرورة محاربة نفوذ الجماعات الدينية في الدولة، غير أن الحزب إلى اليوم لم يوضح مدى صحة الوثيقة التي خرجت حول هذا الأمر. وإن كانت صدرت فعلاً، فالسؤال الذي يطرح نفسه هو "لماذا لم تتخذ حكومة حزب العدالة والتنمية الإجراءات اللازمة قبل الوصول إلى أحداث انقلاب 16 تموز/يوليو 2016؟".

ختاماً، يدعو الكاتب المسلمين إلى الاتحاد عملاً بقوله تعالى "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا"، مبيّناً أن الاتحاد سيولد حضارة إسلامية قوية يرنو إليها جميع المسلمين.

تقييم الكتاب:

يكاد يكون الكاتب صائباً في كثير من الأمور التي طرحها، غير أن كتابه حملنا إلى الكثير من المآخذ عليه، لعل أهمها:

ـ اعتماده على أحاديث ضعيفة، كحديث "نوم العالم خير من صلاة أو عبادة الجاهل" الذي يُعتقد أنه ضعيف بل موضوع.

ـ انعدام الحلول العملية للتخلّص من الانقسام المذهبي الديني، وإنما يبقى طرحه في إطار مثالي لا يرقى إلى حد اعتباره كمنهج يمكن السير عليه من أجل بناء حضارة إسلامية يعبّر الكاتب عن رغبته في تأسيسها في الجغرافيا الإسلامية.

ـ في استخدامه لمصطلحات غير أكاديمية في وصف فترة حكم حزب العدالة والتنمية؛ كمصطلح "كاذب" أو "مخادع"، يبيّن تحامله غير الموضوعي في الطرح.

ـ لا يخلو الكتاب من التناقض في العرض، إذ يسرد الكاتب في البداية معايير تعريف الجماعات وكيف يجب أن تكون، ثم ينتقل إلى انتقاد وجودها، ويحث على ضرورة التخلص منها بالمجمل.