داء "طلاب الكرسي" في قصص طالب الرفاعي
نجح الرفاعي في الرواية والقصة بوصف مُعاناة المواطن العربي بطريقةٍ فنيةٍ ترسم الواقع بخيالٍ روائي مُدهِش.
عوَّدنا الروائي الكويتي طالب الرفاعي من خلالِ إنتاجه النوعي في عالم الرواية والقصة أن يُلامِس مُعاناة المواطن العربي وينجح في وصفها بطريقةٍ فنيةٍ ترسم الواقع بخيالٍ روائي مُدهِش يُتقِن فن اختيار الكلمات العربية ليسحر القارئ بنصّه الذي يُحاصرنا فور بدء قراءته ولا نقدر على الإفلات منه.
إن قصص "الكرسي" وسخريّتها من الزعماء تعبير عن مدى الغيْظ الذي وصلت إليه شعوبنا ، فقد أضحى الحديث عن حياتهم وحياة أُسَرِهم الذين غرقوا في بحور الطغيان هو الخبز اليومي للمجتمع العربي الذي ضاقَ بهم ذرعاً .
سبقَ لطالب الرفاعي كما يقول فيصل دراج في تقديمة لمجموعة "الكرسي" أن سخر في روايته " الثوب" من "وعي اجتماعي فقير يُساوي بين الإنسان وثوبه، وارتكن الكاتب إلى مجاز الثوب الذي ترى فيه العقول الفارِغة مرتبة إنسانية".
ويستعيد الرفاعي في "الكرسي" تصوّره السابق موازِناً بين الموضوع والمجاز. فالكتاب هو عن كراسي السلطة ، أو الكراسي المُتسلّطة، المختلفة الأحجام والأشكال العالية والأكثر علوّاً، والدامية والأشدّ دموية، والتي ينتظرها الزوال. ولأنها مختلفة في مصيرها وأشكالها، فإن لها حكاياتها ، التي تبدأ بكرسي جلاّدٍ يُحسِن التعذيب.
يتحدّث طالب الرفاعي في عمله الذي يضمّ أربع عشرة قصة حملت عنواناً واحداً هو "كرسي" وبأرقامٍ مختلفة عن صنميّة الكرسي السلطوي حيث المسؤول ينصاع إلى تعاليم كرسيه وحيث الكراسي تتصرّف بحياةِ البشر، وتحكي كل قصة عن كرسي من كراسي السلطة أو كرسي القمع أو كراسي التعذيب أو كراسي العِقاب.
وحسبما يقول الرفاعي" إن المجموعة "الكرسي" تُقارِب الحراك الشعبي العربي الذي انطلق 2011 وأحدث انعطافاً تاريخياً خطيراً ليس في تاريخ المنطقة وحدها، بل وفي نظرة العالم إلى الشعوب العربية".
المؤلّف ينطلق من كرسي يتكاثر في كراسي لاحقة. فيحدّثنا عن الكرسي الذي أكل صاحبه . والجلاّد الذي يقمع السجين ويقمعه مسؤوله، ولمسؤول له كرسي على مقاسه، وفوق الكرسييّن ثالث يأمر غيره ، ويأتمر بغيره وفوقها جميعاً كرسي " المُحرِّك الأول" الذي يُطلق النار على شعبه. تراتب في القمع على شعبه. يتم إلقاء القبض على الشاب المُقبل على الحياة وعلى التلميذة وعلى فقيرٍ يريد "إسقاط النظام". شيء يُذكِّر بما قاله عبد الرحمن الكوكبي في كتابه "طبائع الاستبداد" بأن كلب المُتسلّط مُتسلّط بدورهِ وأن في رحم الكرسي الكبير قافلة من الكراسي الصغيرة.
تتساءل القصّة "الكرسي" رقم 2 "كيف لإنسان أن يحيا من دون كرسي، على الخصوص حين يتخرّج من الكلية الحربية" ، هنا نرى صاحب المعارك الخاسِرة في عموم حروبنا العربية، في حال عجزٍ مَرَضي في عموده الفقري. إذاً، دعه يستبدل وَهمْ كرسي النصر بحقيقة الكرسي الطبّي المُتحرّك فيبقى يردّد وطوال هذه القصة الآسرة : " متى انعقدت صداقتكما أنت والكرسي ؟ تمسّكت بذراعي الكرسي أكثر وأكثر وأكثر. حضر طبيبك العالمي المُختصّ. دخل يتوكّأ على عصاه بالكاد، ينقل خطواته. تكرمش جلد وجهه، وعرى الصلع فروة رأسه، وبعث كلماته المُهتزّة : "سنصنع سريراً طبياً لكم".
يُظهِر الرفاعي للقارئ أشياء غريبة في قصصه: الأرواح المُحتشدة في الخشب وفي الكراسي الناطِقة بلغةٍ غريبةٍ وفي البشر الذين يلهثون أمام "قِطَع من خشب" تقودهم إلى مجزرة. يتحوّل مفهوم الكراسي في هذه المجموعة عند الرفاعي إلى معانٍ جديدة، فالطبيب يبقى داخل بذلته البيضاء، والعكسري يُحال إلى العجز، والكرسي الطبي استُبدِل بالكرسي الشاهِق جداً. هو كرسي المرض بالسلطة والتحكّم بالآخرين. "ربما أموت قبله ومن دون أن أصل إلى رئاسة الشركة".
ويسخر الرفاعي من أولوية الكرسي على الإنسان حيث انكماش الجسد أو تمدّده خاضعان لمُتطلّبات الكرسي، كما لو كان الكرسي أمراً مهيباً يُلقّن جسد المُتسلّط تعاليم لا تقبل بالمساءلة. ويسرد النصّ في قصصه أمثولة الاغتراب الكامل ، قائلاً بأن خشب الكرسي ينتقل إلى روح صاحبه ، وأن حياة المُتسلّطين من حكايات كراسيهم.
في القصة الكرسي رقم 4 تتجلّى قدرة القاصّ الرفاعي على إحياء قوّة القصّة القصيرة من جديد مع غيره من قصّاصين عرب وهي قصّة رمزية جميلة جداً. فالكرسي هو الرمز القاتِل حيث يحاول صاحب الكرسي يومياً زيادة ارتفاع الكرسي والطلب من النجّار عمل ذلك. وفي سخريةٍ لاذِعةٍ وهزءٍ نافِذٍ يُجيده الرفاعي لمَن يعرفه: "أريده عالياً كأقصى ما يمكنك. احضره ملفوفاً، لا أريد لأحد أن يراه". "ليس كافياً أن يكون أعلى. أنا الرئيس. يجب ان أكون فوق الجميع. يظل السؤال يخدش فكرك... غيّرت أرجله، جعلتها أطول فبدا غريباً وشاذّاً بارتفاعه مُقارنة بكراسي طاولة الاجتماعات... أترك مسافة صغيرة بين رأسك والسقف. تخيّل هيئته بجلسته : ستتدلّى قدماه فوق رؤوس الجالسين معه وسيلمع كعب حذائه في مواجهتهم".
الواضح في قصص "الكرسي" هو الفانتازيا أو الكوميديا السوداء التي جسّدها الكاتب في "حشود" من الكراسي تتطاير في الهواء، يركض وراءها "المُتكرّسون" نسبة للكرسي .
إن مجموعة قصص "الكرسي" للرفاعي التي أصدرتها دار الشروق (مصر) تكشف لنا عن أدبٍ من الضرورةِ بمكانٍ أن يتعرّف عليه القارئ العربي وهو "أدب الكرسي أو العرش" ، وهو أدب يُشكّل بحدِ ذاته عالماً لا بد من أن ندخل إليه ونتعرّف على حيله وفبركاته واستغبائه للإنسان العادي، كما أدب الطغيان أو المقاومة أو العشق أو المنفى.
يهدي الرفاعي عمله إلى "أرواح شهداء مشوا في دربِ الحريةِ حالمين بنهارٍ أجمل يهلّ على أوطانهم العربية.