هل يمكن التوفيق بين الإسلام والعلمانية؟

يتناول الكتاب العلاقة الملتبسة والشائكة ما بين تصاعد الإسلام والعلمانية في الغرب عموماً، وفي فرنسا على وجه الخصوص.

كتاب "الإسلام والعلمانية" للباحث الفرنسي أوليفييه روا

أوليفييه روا Olivier Roy هو باحث وأستاذ جامعي فرنسي، ولد في عام 1949، وهو مهتم ومتخصص في شؤون الحركات السياسية الإسلامية عموماً، والأصولية الراديكالية منها على وجه الخصوص، وله عدد من الكتب المهمة في ذلك المجال منها (الجهل المقدس، عولمة الإسلام، نحو إسلام أوروبي، تجربة الإسلام السياسي، الجهاد والموت).

يتناول روا في كتابه "الإسلام والعلمانية" مسألة العلاقة الملتبسة والشائكة ما بين تصاعد الإسلام والعلمانية في الغرب عموماً، وفي فرنسا على وجه الخصوص.

فالعلاقة بين الإسلام والهوية العلمانية للغرب قد أضحت علاقة جدلية تصادمية إلى أبعد حد، وهو ما يظهر بشكل واضح وصريح في عدد من تجليات تلك العلاقة، مثل وجود بعض الشباب المسلمين الملتحين أو في ارتداء الفتيات المسلمات للزي الإسلامي (الحجاب)، ذلك أن تلك التجليات لا تعبّر عن دين فحسب، بل إنها في الحالة الفرنسية، تعبّر عن عناصر عرقية وعنصرية ترتبط بالهجرات والديموغرافيا السكانية في المجتمع.

ويوضح روا أن الأحزاب السياسية في أوروبا والغرب تتعامل مع الظاهرة الإسلامية بأشكال مختلفة، فهناك عدد من الأحزاب اليمينية التي ترى استحالة التوفيق ما بين النزعة الإسلامية من جهة والنظام العلماني الذي يصبغ المجتمعات الغربية من جهة أخرى، بينما يوجد عدد من الأحزاب اليسارية التي ترى إمكانية تحقق ما يمكن أن يوصف بأنه (إسلام ليبرالي علماني فرنسي).

وبحسب رؤية روا، فإن من أهم النقاط التي تعمق من الهوة الفاصلة ما بين الإسلام والعلمانية في الغرب، أن المسلمين المهاجرين إلى تلك القارة العجوز، لا يقدمون إلى بلادهم الجديدة بدينهم فحسب، بل أنهم يأتون بوجهة نظر كاملة لكل ما يدور في الحياة. فهم على سبيل المثال، يثقون في عدالة القضية الفلسطينية، كما أنهم يتبنون معتقدات ووجهات نظر العالم الثالث الذين قدموا منه.

ويلفت المؤلف أنظار القراء إلى حجم الصراع الذي يحدث ما بين الهوية الإسلامية للمهاجرين والرؤية العامة للدولة الفرنسية، فتقليد بسيط مثل ذبح الخراف في عيد الأضحى من الممكن أن يثير صخباً كبيراً. كما إن إعلان مطعم معين عن تقديمه لوجبات حلال للمسلمين، من الممكن أن يجعل من هذا المطعم مكان مستهدف. ويضرب المؤلف مثالاً على ذلك بمحلات (فران بري) التي كانت تبيع وجبات للمسلمين، وازدادت الضغوط عليها إلى الحد الذي أجبر أصحابها على إغلاق المحل، بعد تعرضهم للكثير من النقد من جانب الأطراف اليمينية التي ترى أن ممارسة الهوية الإسلامية والتعبير عنها بحرية في فرنسا من شأنه أن يضر الهوية العامة الفرنسية المتمثلة في العلمانية.

وعلى الجانب الأخر يتناول روا بعض الأمثلة من المعسكر اليساري، التي ترى في الأفعال السابقة نوعاً من أنواع (الإسلاموفوبيا)، ولذلك تراهم يدافعون عن المسلمين ويعطون لهم الحق في ممارسة شعائرهم وطقوسهم بحرية، ويرحبون بأن ترتدي الفتيات المسلمات الحجاب في المدارس الحكومية، وكل ذلك بموجب شعار أن العلمانية الفرنسية تستطيع أن تستوعب داخلها الهويات والأفكار الجزئية، مثل الطقوس والشعائر المرتبطة بالإسلام.

ويلاحظ روا أن النزعة المعادية للإسلام في فرنسا تشهد تقدماً ملحوظاً في الفترة الأخيرة، ذلك أن العديد من اليساريين قد انتقلوا مع مرور الوقت ليصبحوا يمينيين متعصبين، وأن المعسكر اليساري يشهد ضعفاً متنامياً وهو ما يؤثر بطبيعة الحال على المسلمين في فرنسا.

ويتعرض روا إلى نقطة أخرى لها علاقة بالجانب الإسلامي نفسه، فمسلمو اليوم يختلفون بشكل كبير عن مسلمي الأمس. فإذا كانت الصورة النمطية عن المسلمين في الماضي، تراهم في صورة المهاجرين قليلي الحيلة الذين لا يجيدون الفرنسية ومستعدين للتخلي عن الإسلام في مقابل هويتهم الجديدة، فإن مسلمي اليوم لديهم العديد من النماذج المختلفة، من تلك النماذج الداعية الملتحي السلفي الذي يفتخر بانتماءاته العقدية والدينية، ومنها الشاب الوسيم الفصيح الذي يستطيع أن يمر إلى مناطق جديدة في المجتمع الفرنسي، وأن يطور خطابه الدعوي ليقنع مزيداً من الناس للانضمام إليه وتأييده.

 

لماذا فرنسا تحديداً؟

قد يثار سؤال حول العلمانية الفرنسية، لماذا هي تحديداً التي تشهد علاقة جدلية ومرتبكة مع الإسلام دون غيرها؟

يجاوب روا على ذلك السؤال، فهو يرى أن العلمانية الفرنسية مختلفة عن غيرها من الأشكال العلمانية الأخرى في الدول الغربية، فبحسب قوله: (العلمانية الفرنسية، هي خصوصية فرنسية جداً، غير مفهومة لا في بريطانيا العظمى حيث يمكن لموظفات الجمارك والشرطيات أن يرتدين الحجاب، ولا في الولايات المتحدة حيث لا يمكن لرئيس أن يُنتخب من دون أن يتكلم عن الله).

فالمؤلف يرى أن بريطانيا مثلاً هي دولة (دنيوية) وذلك لأنه مع كونها تفصل ما بين الدين والدولة، فإنه لا يزال هناك دين معترف به.

ويستخدم أوليفييه روا مصطلح الدنيوية للتعبير عن ذلك النظام الاجتماعي السياسي، الذي – وان كان يقوم على العلمانية- إلا أنه يسمح في الوقت نفسه بمجال حركي واسع للدين في كل ما يخص شؤون المجتمع.

أما الولايات المتحدة الأميركية فهي دولة علمانية بشكل معيّن، لأن الدين فيها يقع داخل دائرة السياسة.

أما العلمانية الفرنسية فهي تختلف عن النموذجين السابقين، فروا يرى أن موضوعها (يتعدى الفصل ما بين الدين والدولة، ويتطلب مفهوماً للقيم والمجتمع والأمة والجمهورية، يرتكز على فلسفة الأنوار وفكرة التقدم، وأخيراً الترسيخ لأخلاق ليست متجذرة في الديني وإنما تترسخ باعتبارها عقلانية).

ولذلك فإن روا يرى أن العلمانية الفرنسية قد نشأت في ظروف تاريخية محددة، وهي المحاولة المستمرة لفك الارتباط والسيطرة ما بين المجتمع والكنيسة الكاثوليكية التي كانت هي مصدر السلطة الدينية المسيحية في البلاد.

ويرى الباحث أن واحدة من أهم خصائص العلمانية، هي أنها تعمل لتحرير المجال السياسي من سيطرة الدين ومن مراقبة العامل الديني، وأن العلمانية لا تطمح لوضع أسس منظومة خلقية جديدة بديلة عن المنظومة الأخلاقية التي كانت قائمة وترتكز على الدين، وهو في ذلك يوضح الفرق عن بعض النماذج الأخرى، مثل النموذج الأتاتوركي في تركيا ما بعد الخلافة العثمانية، حيث جعل مصطفى كمال أتاتورك من الدولة رقيباً على الدين.

ويرى المؤلف أن ذلك النوع من العلمانية، التي يسمّيها بـ(العلمانية المناضلة) كانت قد استطاعت في مرحلة ما قبل الثمانينيات من القرن العشرين، أن تصل إلى تسوية مرضية مع الأديان الموجودة في الدولة، ولكن مع ظهور أنماط جديدة من التديّن، ومنها الأنماط الإسلامية السلفية، فإنه قد وقع الصدام مرة أخرى ما بين العلمانية والدين.

ورغم أن المؤلف يسرد أنواعاً وأشكالاً مختلفة لعدد من الأديان مثل اليهودية والمسيحية، إلا أنه يؤكد أن التديّن الإسلامي هو أخطر تلك الأنواع وأشدها صداماً مع العلمانية، وذلك للعوامل الديموغرافية والتعداد البشري الكبير الذي يمتلكه المسلمون، وأيضاً للطابع الدعوي التبشيري الذي يوجد في الإسلام ويدفع به دفعاً للصدام مع الآخر الفكري الذي يختلف عنه.

ولذلك يرى المؤلف "أن الدفاع عن العلمانية اليوم هو أكثر من أي يوم مضى دفاعاً عن الهوية".

ويلفت روا أنظار القراء إلى أن في الكثير من الأحيان يتم التعامل مع المشكلة الإسلامية بشكل خاطئ، حيث تتم التخطئة في التفريق ما بين المرض والعرض. فهو يرى أن مشكلة ارتداء الفتيات للحجاب في المدارس هي مشكلة اجتماعية في الأساس، وأن منع ارتداء الحجاب هو قرار يستهدف القضاء على العرض دون توجيه الجهود للقضاء على المرض ذاته. ويؤكد المؤلف على أن الطريقة التي تتعامل بها كل دولة أوروبية مع الإسلام تختلف كثيراً من دولة إلى أخرى، والسبب في ذلك لا يكمن في وجود صيغ كثيرة ومتعددة من الإسلام فحسب، بل أيضاً في كون هناك اختلافات كبيرة في النظام العلماني الذي يوجد ويسود في كل دولة من تلك الدول.

يتعرض روا بعد ذلك للأجواء التي نشأت فيها العلمانية في الغرب، فيؤكد على كون (المجال السياسي في الغرب قد ولد من رحم ديني مسيحي)، فقد كان المنظرون الأوائل للفكر العلماني في أوروبا من معتنقي الديانة المسيحية التي تدعو أتباعها في أدبياتها الأصيلة إلى أن يعطوا لقيصر ما لقيصر، وأن يعطوا لله ما لله.

ولذلك يخلص المؤلف إلى أن الديانة المسيحية هي التي هيأت السبل وسمحت بنشوء وظهور العلمانية، رغم أن العدو الأول للعلمانية كان هو الكنيسة الكاثوليكية المسيحية.

 

الإسلام والعلمانية: جدلية التعايش

بعد ذلك يتناول المؤلف العلاقة ما بين الدين الإسلامي والعلمانية، ويطرح سؤالاً مهماً وهو هل يتفق الإسلام مع النظام العلماني؟ وهل يمكن أن يتعايش النسقان مع بعضهما البعض؟

يبدأ روا بتعداد الأسباب التي قد تقدح في تلك الرابطة، فيذكر منها مبدأ الحاكمية المطلقة لله وعدم الاعتراف بالديمقراطية والبعد عن التصديق على مبادئ حقوق الإنسان المعروفة لدى المجتمعات الحديثة، ولا سيما تلك الحقوق المتعلقة بالمرأة، ورفض حالة التماهي مع الكيانات السياسية التي تعتمد على مبدأ المواطنة والميل إلى التلاحم مع الوحدات المنبثقة من الوحدة الدينية.

ويبيّن روا أن الكثير من الرموز الإسلامية في العالم المعاصر قد عملت على رأب الصدع ما بين النموذج المثالي الإسلامي والواقع العلماني الغربي، عن طريق مواءمات ومقاربات وتكيّفات عملية، وبموجب تلك المواءمات أصبح من الممكن للمسلم الذي يعيش في أوروبا أن يحتفظ بصورته المثالية عن الدين الإسلامي القويم من جهة وأن يواكب التطور الذي يجري من حوله من جهة أخرى.

يضرب روا عدداً من الأمثلة على تلك المقاربات، فيذكر أن منها دعوة الداعية الإسلامي الفرنسي طارق رمضان لوقف العمل بنظام الحدود الإسلامية، التي تقتضي عقوبات جسدية، وكذلك إباحة المنظمات الإسلامية الخاضعة لنفوذ جماعة الإخوان المسلمين للاقتراض بغرض شراء وحدة سكنية على سبيل المثال، بدعوى أن ذلك إنما يتم من باب (فقه الأقليات).

أما الاتجاه الإسلامي الثاني، الذي يتعرض له روا، فهو ذلك الاتجاه الذي يعمل على تحرير الإسلام من أسر وقيود النصوص التاريخية التي لطالما تم اعتبارها حاكمة له ومهيمنة عليه، فبتلك الطريقة سوف يستطيع الإسلام أن يجد إجابات مناسبة لأسئلة الحداثة والعلمانية، حيث لن يكون الدين الإسلام عندها خاضعاً للنص القرآني ولن يتم النظر إلى رسول الإسلام إلا في الإطار التاريخي والمعرفي فحسب، فلن يزيد عن كونه إبناً لعصره وزمنه فحسب، ولن تصبح تجربته في الحكم والتعامل والأخلاق نموذجاً للمسلمين في العصر الحاضر.

 

أي من النموذجين السابقين قد يكون أقرب للتحقق؟

يرى روا أن الإجابة على ذلك السؤال المستقبلي ترتبط بمصير الصراع ما بين الحركات الإسلامية الأصولية من جهة والحركات الليبرالية من جهة أخرى، وقدرة كل منهما على حشد المزيد من الأتباع والجمهور المؤيد لها.

ويؤكد الباحث أن، وعلى العكس مما هو شائع ومتعارف عليه، الدولة الإسلامية عبر تاريخها لم تكن دولة دينية ثيوقراطية بالمعنى الغربي، فالدين الإسلامي كان له دور صغير نسبياً في منظومة الحكم والسلطان، بينما كانت هناك عناصر إناسية أخرى مثل العصبيات والقرابة والتحالفات تشكّل أدواراً أخرى في معظم الأحيان، وأنه قد تم الاكتفاء بصبغ منظومة الحكم بالشكل الديني الشرعي الذي صبغه به الفقهاء.

ويلاحظ روا أن في الكثير من المجتمعات الإسلامية التي تنتشر فيها الحركات الأصولية، فإن الدور الأكبر في تلك المجتمعات يكون للعرف وليس للدين والشريعة كما هو متوقع.

ومن ذلك أن الصعيد في مصر - والذي هو مهد الجماعات السلفية الأصولية المتشددة - يشهد الكثير من حالات الثأر التي يراها المؤلف متعارضة مع أصول ومبادئ الشريعة الإسلامية، وكذلك فإن سيطرة حركة طالبان في المجتمع الأفغاني لم تفلح أبداً في تقليل النزعات العصبية الحادة المنتشرة بين قبائل البشتون.

كما أن من المتعارف عليه وسط الجماعات الإسلامية القبلية أن يقوم الرجل بزواج زوجة أخيه المتوفى، ورغم أن تلك العادة هي في الأساس عادة يهودية صرفة وليست لها أصول إسلامية، إلا أن العرف قد أعطى لها قوة لا يمكن تجاهلها.

 

الخيال السياسي للإسلاميين: أدلجة الدين

بعد ذلك يتعرض روا إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي المتخيل الإسلامي لشكل الدولة في العالم المعاصر، فيتطرق إلى وجهة نظر عدد من المفكرين الغربيين المختصين بدراسة الفكر السياسي الإسلامي، من أمثال صمويل هنتنغتون، والذين يعتقدون أن العقيدة الإسلامية ترتبط بشكل مباشر بشكل الدولة، فيفند روا ذلك الرأي وينتقده، ويؤكد على أن هناك فجوة كبيرة ومسافة واسعة تفصل ما بين العقيدة الإسلامية من جهة وشكل الدولة من جهة أخرى، وأن الرابط الوسيط ما بين الطرفين يتمثل في (الأيديولوجيا)، التي ستخلق قواعد قانونية وأخلاقية وسياسية تستطيع أن توائم ما بين المثال والواقع.

أدلجة الدين إذن هي السبيل الوحيد الذي يراه المؤلف كحل لأزمة الدولة في المتخيل الإسلامي، فهو يؤكد أن بلاد الإسلام، ومنذ انتهاء العصر الكولينيالي الاستعماري، قد وجدت نفسها مجبرة على التقوقع في شكل الدولة المستوردة من الثقافة الغربية، فتمت إعادة إنتاج تلك الدولة في البلاد العربية بصورة ديكتاتورية سلطوية بحتة تكرّس لحكم الفرد أو الحزب الواحد وتبتعد عن الديمقراطية وحرية الممارسة السياسية.

يضرب روا عدداً من الأمثلة لتلك الدولة، منها دولة محمد علي في مصر عقب رحيل الحملة الفرنسية، ومنها دولة الشاه بهلوي في إيران ومنها كذلك دولة جمال عبد الناصر التي كانت نبراساً ونموذجاً للعديد من الدول العربية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين.

ويؤكد روا على صحة نظريته في ضرورة أدلجة الدين الإسلامي، بالدولة الخمينية التي أعقبت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، فهو يعتبر أن تلك الدولة نموذج للدولة الإسلامية المؤدلجة التي أخضعت ما هو ديني إلى ما هو سياسي، حتى لو ظهر غير ذلك.

 

الإسلام والعلمانية: هل من أمل في التلاقي؟

يرجح روا أن العالم الإسلامي قد يشهد مستقبلاً حدوث حالة من حالات (الدنيوة) على النمط الأنغلوسكسوني لا على النمط العلماني الفرنسي، بحيث يستطيع الدين أن يستثمر فرصة العمل في مجتمع تتضاءل فيه سيطرة الدولة.

 ويبرّر روا استنتاجه وتوقعه، بكون صعود الإسلام الحالي يندرج في واقعة أوسع نطاقاً، فقد عرف الغرب منذ عشرين عاماً تقريباً، ما يسميه المؤلف (بعودة الديني)، وهي بحسب تعريفه حالة تعريفية ترتبط بالهوية، بموجبها (يرفض المؤمن الاحتفاظ بإيمانه الخاص بل يبتغي أن يُعرف به كبعد كامل لكينونته العامة، معتبراً أن الدين يجب أن يحكم مجمل تصرفاته الشخصية).

ويلاحظ الكاتب أن تلك النزعة لا تستلزم بالضرورة زيادة في الممارسات الدينية والطقوسية، فهي في الأصل نزعة تريد إعادة تعريف الشخص وربطه بالنطاق الخارجي له على أسس منبثقة من الدين الذي يؤمن به.

وفي أخر مباحث الكتاب، وتحت عنوان (الدنيوة بالفعل)، يبحث روا حدود العلاقة ما بين المجال الديني والمجال السياسي، وكيف يمكن أن يحدث توافقاً مستقبلياً ما بين الإسلام والعلمانية في المجتمعات الغربية، حيث يؤكد على أن هذا التوافق سوف يختلف من مكان إلى أخر بحسب طبيعة وخصائص كل دولة، فسوف يلاقي هذا التوافق ترحيباً أنغلوسكسونياً وفي نفس الوقت سوف يشهد توتراً وقلقاً في النموذج الفرنسي.

ويرى الباحث أنه لا يمكن أن نطمح في القضاء علي تصاعد النزعة الإسلامية في الغرب، بل إن كل ما نرغب فيه أن تسير تلك النزعة بالتوازي مع المناخ العلماني السائد وألا تتعارض معها. على سبيل المثال، يرى روا أن من الطبيعي أن نجد أن الإسلاميين في الغرب يعترضون بقوة على عمليات الإجهاض، لا مشكلة في ذلك، بشرط ألا تحدث دعوات للهجوم على العيادات الطبية والمستشفيات التي تتم فيها تلك العمليات.

ويعتقد روا أن اتحاد مسلمي فرنسا هو نموذج جيد لمحاولة التوفيق ما بين النزعة الإسلامية المتصاعدة والعلمانية التي تشكل الإطار العام والحاكم للدولة الفرنسية، فهو (يريد الاعتراف بمواطن مسلم، أي مواطن يعيش كمسلم قبل كل شيء، لكنه يقبل ويعترف بقوانين الجمهورية).

وقد جرت بعض الحوادث التي يرى فيها روا شواهد قوية على صحة ما ذهب إليه.

ففي سبتمبر – أيلول من عام 2004، قام عدد من المسلحين في العراق باختطاف رهينتين فرنسيتين، وطالبوا الحكومة الفرنسية بإلغاء القانون الذي يحظر ارتداء الطالبات للحجاب في المدارس، عندها رفض مسلمو فرنسا ذلك التدخل الخارجي وهاجموا ذلك العمل الإرهابي.

وينهي روا كتابه بالتأكيد على كون مشكلة العلمانية الغربية ليست في الإسلام تحديداً، ولكنها في الدين بشكل عام، أو بالأحرى في الأشكال المعاصرة في عودة الديني، ولذلك فإنه يجب (أن ننظر إلى الإسلام في الإطار نفسه الذي ننظر فيه للأديان الأخرى والظاهرة الدينية في ذاتها، هذا هو الاحترام الصادق للآخر والحس النقدي الحقيقي).