عن تكذيب حقيقة التغيّر المناخي
قد يكون التغيّر المناخي هو التهديد الوجودي الأول الذي تتساوى أمامه البشرية جمعاء.
نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" مراجعة لكتاب "أرض لا تصلح للعيش" The Uninhabitable Earth للكاتب ديفيد والاس ويلس نقلها إلى العربية إبراهيم عبد الله العلو. والآتي نص المراجعة:
يتحدث كتاب "أرض لا تصلح للعيش" The Uninhabitable Earth للكاتب ديفيد والاس ويلس عن تأثير التغيّر المناخي على الحياة البشرية ويبدأ بالقول "إنه أسوأ بكثير مما تظن". ففي المدن الفائقة الحرارة ستذوب الطرقات وتتقوس السكك الحديدية. وعند ارتفاع درجات الحرارة بمقدار خمسة درجات سيعاني معظم الكوكب من جفاف مستديم. وعند إرتفاع مستوى سطح البحر بمقدار ستة أمتار- وهو توقع متفائل - ستغرق أراضي تأوي اليوم أكثر من 375 مليون إنسان.
ولا تأتي بعض قصص الكوارث تلك من التنبؤات المستقبلية بل من الماضي القريب. ففي حريق كامب بارادايز في أواخر عام 2018 وُجد الناس الهاربون من ألسنة اللهب "يرتطمون بالسيارات المتفجرة وذابت أحذيتهم على الأسفلت وهم يتراكضون".
وبالنسبة للمتابعين في هذا الشأن فإن الإطار العريض لهذا الكتاب لا يفاجئ أحداً.
فنحن نتسارع نحو –وقد دخلنا بالفعل- حقبة من نقص المياه وحرائق الغابات وارتفاع منسوب سطح البحر وتطرف الطقس. وتثير قراءة الكتاب أسئلة حادة حول مستقبل الإنسان. متى ستغرق مدينتي؟ وأين سأعيش عندما يحدث ذلك؟ وأين سيقطن أولادي في المستقبل؟ وهل يتحتم علي إنجاب أطفال في المقام الأول؟
ومع ذلك يشدد والاس على عدم وجود أي مكان للإجبار. وذكر في مقابلة له أن "كل بوصة من الإحترار تحدث فرقاً ما. لا نستطيع إيقاف عملة التسخن بالكامل ولكننا نستطيع التحكم بمستقبل التغيّر المناخي سواء أكان كارثياً أو قاتماً فحسب."
سألت قبل سنوات عديدة الناشط المناخي والكاتب بيل ماكبين عن سبب عدم وقوعه ضحية للإكتئاب نظراً للوقت الذي خصصه للتفكير بالتغيّر المناخي. وأجابني بأن الكفاح هو المهم وأن القنوط يتسرب إلى النفس عندما يقتنع المرء أنه لا يستطيع معالجة المشكلة. "إنها أعظم معركة في التاريخ الإنساني والتي سيتردد صداها لأزمان جيولوجية ويجب أن تحدث الآن."
شكلت جمعية علم النفس الأميركية في عامي 2008 و2009 لجنة لتفحص العلاقة بين علم النفس والتغيّر المناخي. وتبين لها أنه مع إعتراف الناس بأهمية التغيّر المناخي فإنهم لم يشعروا "بالحاجة للعمل الفوري". وحددت اللجنة عوائق ذهنية عدة أفضت إلى هذا الموقف اللامبالي، ومنها عدم التأكد من التغيّر المناخي في المقام الأول وعدم ثقتهم بالأساس العلمي لهذا التغيّر ونكران ارتباطه بالنشاط البشري، ونزعوا إلى التقليل من المخاطر واعتقدوا بوجود وقت كافٍ لإحداث التغيّرات اللازمة قبل الشعور بالآثار الحقيقية. وبعد عشر سنوات تبدو هذه النزعات نحو المناخ مثل آثار عتيقة.
حددت اللجنة عاملين أساسيين ساهما في الحيلولة دون إتخاذ الأفراد لأي فعل جاد مع مرور الوقت: الأول العادة والثاني فقدان السيطرة. وأضافت اللجنة: "تقاوم السلوكيات المتأصلة التغيّر المستديم ويعتقد الأفراد أن أفعالهم ستكون صغيرة للغاية بحيث لا تحدث فرقاً وبالتالي يختارون عدم فعل أي شيء."
أشار والاس إلى هذه النقطة في كتابه. وأضاف" نشعر بالراحة للتكيّف مع وضعية العجز المكتسبة". ومع تلاشي الإلتباس والنكران للتغيّر المناخي حلّت محلها مشاعر مماثلة معوقة تتمثل في الهلع والإضطراب والإستكانة.
ومع بداية عيشنا في مخاطر هائلة أحدثها التغيّر المناخي، وبحسب تعبير أحد علماء النفس، "نحن في نطاق سيكولوجي سواء رغبنا بذلك أم لم نرغب."
وهناك عالم النفس جون فريزر الذي درس الإنهاك والصدمة لدى الأفراد القائمين بدراسات البيئة. وأضاف: "يجب أن نتخطى مرحلة ترهيب الناس بحكايا الكوارث". يتم نقاش الإستجابات للتغيّر المناخي على هيئة طيف حيث يكوم النكران واللامبالاة من طرف والتحذير المكثف من جانب آخر. وبدأنا نحصل على تحذيرات بشكل متزايد يوماً إثر يوم.
قامت دراسة لجامعتي ييل وجورج ماسون في عام 2009 بتجميع ردود الأميركيين تجاه المناخ ضمن ستة مجموعات: المحذرون والمهتمون والحذرون واللامبالون والمشككون والرافضون.
وتبين في عام 2009 إن 18% كانوا من المحذرين وارتفع ذلك الرقم في عام 2018 إلى 29%.
يرغب فريزر أن لا يشعر الناس بالذعر بل بالتنشيط ويتخذ نظرة إيجابية بلا ريب ونزعة تتجه للعثور على حلول. ويقول: "يتعين علينا تدريب الناس على امتداد الولايات المتحدة خلال سنوات قلائل وربما الأفراد على سطح القمر في غضون سنوات".
وتتوافر أفكار عديدة لإقحام القمر في قضية المناخ: فالمصانع ذات التأثير السلبي لانبعاثات الكربون مكلفة بشكل يحول دون تطبيقها ولكنها متوفرة على أية حال وهناك من يناصر العودة إلى الطاقة النووية. ويدعو المشجعون للاتفاق الأخضر الجديد إلى إنهاء استخراج الوقود الأحفوري وحوافزه وتوسيع الاستخدام المتزايد للمواصلات العامة على نطاق واسع. وتظهر في وادي السيليكون أفكار تعتمد بشكل أقل على السياسة منها عن التكنولوجيا مثل تطويف بعض الصحارى لاستنبات طبقات طحالب تمتص الكربون أو استخدام الكيمياء الكهربية لتحفيز الصخور على امتصاص الكربون من الهواء.
يعتقد فريزر أن الطريقة الأنجع للتواصل حول المسائل البيئية هي التركيز على الحلول الإيجابية المتوافرة. ويقول: "نحن بحاجة إلى تشجيع الأمل والخطوة الأولى نحو استجابة صحية هي الشعور بأن المشكلة قابلة للحل." ويضيف "أن الشعور بالذعر والهلع أمر لا يليق بالوضع لأنه يفضي بالمرء إلى الاستسلام".
تتخذ مارغريت سالمون التي عملت كأخصائية علم النفس السريري قبل أن تؤسس منظمة مناصرة المناخ موقفاً معارضاً. فهي لا ترى الخوف عامل إحباط بل استجابة ضرورية تنشّط الأفراد لإدراك الخطر وتدفعهم للعمل. وتحاجج أنه نظراً لوضع الجو فإن الخوف المستديم أمر عقلاني. وتضيف: "من المهم الشعور بالخوف من الأشياء التي قد تقتلنا وذلك أمر صحي وطيب".
تعتقد أيضاً أن الإحاطة بمنظور الخطر أمر مطلوب لتحفيز السلوك المسؤول وقطاف منافع الصحة العقلية "للعيش في حقيقة المناخ".
نشأت سالمون في عائلة من المحللين النفسيين وتعتبر العلاج "شيئاً عائلياً محضاً" وتعكف على تأليف كتاب بعنوان "حوّل نفسك مع الحقيقة المناخية" وهو كتاب ذاتي التعليم يتمحور حول الموضوع.
تقول سالمون إنه من غير المستغرب رؤية الأفراد عاجزين عن معالحة الحقيقة حول أزمة المناخ، وبدلاً من ذلك يقومون ببناء آليات دفاعية ضدها. وفي غضون 20 سنة ستصبح درجة الحرارة المتطرفة اليوم شيئاً إعتيادياً. وبحلول عام 2045 ستفقد الولايات المتحدة أكثر من 300 ألف منزل بسبب تقدم المحيطات. وبحلول عام 2100 ستبلغ خسارة العقارات في الولايات المتحدة وحدها أكثر من تريليون دولار.
ومع ارتفاع مستويات الكربون الجوي ستقوم النباتات بإنتاج كميات أكبر من السكاكر وكميات أقل من الغذيات. وبحلول عام 2050 ستصبح الخضار أطعمة فقيرة بالقيمة الغذائية. وهناك تداخل كبير بين الأشياء التي تثير الذعر بشأن المناخ والأشياء التي تعمل كنسخة مادية من الحياة الرغيدة المريحة: تناول اللحوم وتكييف الهواء والسفر الجوي.
وتقول سالمون "إن تعامل أدمغتنا مع المصالح المتضاربة جزء أساسي من الطبيعة البشرية وتلك هي طريقة تشكيل الآليات الدفاعية".
تستضيف سالمون فصولاً هاتفية دورية يستطيع خلالها المتصلون مناقشة مشاعرهم حول التغيّر المناخي والنشاط المناخي كحركة. وتلقت الإتصالات جميع أنوع المشاعر: الذنب والعار والحزن والذعر والعجز وحتى "الابتهاج المدمر" من أشخاص غاضبين لأن تحذيراتهم لم تحظَ بالإحترام.
تشدد سالمون على أهمية معاملة التغيّر المناخي كظاهرة شخصية وعاطفية وليست علمية فقط. وتقول: "يحتاج الجميع إلى الحزن على مستقبلهم الذي لن يكون كما تخيلناه. بل سيكون أكثر عطشاً وازدحاماً وخطراً وتقشفاً".
وفي عام 2017 تحدث والاس أمام لجنة في المؤتمر السنوي لجمعية الصحافيين البيئين بعنوان "حكايا يوم القيامة: أخلاقيات وتأثير تقارير يوم القيامة" وتمحورت النقاشات التالية ما بين ترهيب القراء وتقديم الأمل لهم.
وأشار والاس آئنذاك إلى مقولة استقاها من الكاتب تانيهسي كوتس الذي قال: "يجب أن لا تحوّل حاجة البشر إلى الأمل من دون إخبار الحقيقة".
وقال والاس إن الخوف مفيد: "لقد دفع خطر التدمير المتبادل زعماء العالم إلى إنهاء الحرب الباردة ودفع خوف الناس من السرطان إلى التوقف عن التدخين". وأضاف: "التفكير بأن أي شيء مخيف محبط للعامة هو تبسيط مبالغ فيه وأعتقد أنه مفيد في هذا الشأن".
أشارت إحدى المشاركين في الندوة، وهي خبيرة الإتصالات وعلم النفس ريني ليرتزمان، إلى أنه من المهم "نسف الثنائية" بين الخوف والأمل أو الحقيقة والإيجابية. ولا تكمن مشكلة السرد في قصص الذعر في تخويفها بل في تقديمها بشكل سينمائي ووضعها للناس في موضع الحياد السياسي "مراقبين خائفين ومتوجسين".
تحاجج ليرتزمان في كتابها "الكآبة البيئية" بأن الحزن غير المعالج حول الدمار الإيكولوجي هو جزء كبير مما يمنع الناس من مساءلة التحديات البيئية. ويُحبس هذا النوع من الحزن الإبتدائي الناقص في حالة من العجز عن الفعل. وتحدثت ليرتزمان عن الحاجة إلى الحوار حول التغيّر المناخي الذي يمنح الناس مساحة للمعالجة أو على الأقل الاعتراف بمشاعرهم. وإلماحة بسيطة مثل إبتداء حوار وترك لحظات بسيطة للقول: "يا للهول. لقد كان ذلك حاداً". تحرر الكثير من الطاقة للإنتقال إلى وضعية حل المشكلة. وهذا الإدراك هو نقلة مألوفة في علم النفس: أولاً الإعتراف بأن موضوعاً ما صعب ومن ثم الخوض فيه. ويذكرني ذلك بالطريقة التي ينقل فيها الطبيب الحاذق نبأ تشخيص صعب ولكن ليرتزمان تقول إنه أكثر تعقيداً من ذلك: نظراً لذنبنا في أزمة المناخ فإن مناقشة الأمر يشبه الحصول على الأنباء حول قضية صحية مرتبطة بشكل مباشر بعادات المرء نفسه.
ولا يقتصر الأمر على مواجهة مستقبل مخيف ويتعداه إلى الإدراك بأنك ساعدت على خلقه. "ويجب أن نتعامل مع حقيقة أن ما نفعله لم يعد مستديماً بعد الآن. ويتحتم علينا النهوض بالمسؤولية."
وتضيف سالمون أن "الأمر الناجح هو شعور الأفراد بأنهم مدعوين ومحفزين ليكونوا طرفاً من شيء بناء بالتوازي مع أمان التعامل مع حجم الأشياء".
تعود طريقة التفكير تلك إلى نصيحة بيل ماكبين بأن العلاج الوحيد للقلق المناخي هو الفاعلية.
تشير الدكتورة في علم النفس الإجتماعي والدراسات البيئية سوزان كلايتون إلى نقطة مماثلة- على شكل الإشتراك في مجهود جماعي- هو أمر مفيد للنفس. "يشبه الأمر حركة الحقوق المدنية. فعل التآزر هو مدعاة للقوة والتصديق."
كتبت ماري انايس هيغلر التي تشارك في لجنة الدفاع عن الموارد الطبيعية مقالة بليغة تقول إن حركة المناخ يجب أن تتعلم الكثير من حركة الحقوق المدنية. وقد يكون التغيّر المناخي هو التهديد الوجودي الأول الذي تتساوى أمامه البشرية جمعاء ولكن أميركا نفسها كانت تهديداً وجودياً للسود على مدى مئات السنين. وتصف العنف المحسوب لجيم كراو قائلة "أريدكم أن تفهموا أن الأمر كان طاغياً ومرهقاً بشكل لا يطاق. لم تكن من نهاية في الأفق... وارتعشوا من أجل كل طفل ولد في ذلك العالم."
ربما تكون الحرائق والفيضانات في مناخنا المتغير أمر غير مسبوق ولكن خطر التدمير ليس كذلك. ويشير والاس وسالمون في نقاشهما للتغيّر المناخي إلى أسلافهم الذين نجوا من الهولوكوست. وفي هذا الضوء تكون الإستجابة للتكذيب المناخي –ليس عدم تصديق الظاهرة بل خيار دفن الرأس في الرمل لأن التفكير بذلك لا يسر الخاطر- طفولية وواهنة. وكما كتب هيغلار: "لا تحارب شيئاً مثل ذلك لأنك تعتقد أنك ستفوز ولكنك تحارب لأنك مضطر لذلك".
يتوقف والاس في منتصف الكتاب ليمنح "قارئه الشجاع" ضربة خفية على الظهر لوصوله إلى ما قد يكون "رعباً كافياً لتحفيز هجوم مذعور حتى في الأكثر تفاؤلاً."
عندما بدأت بمطالعة كتاب ديفيد والاس، "أرض لا تصلح للعيش"، كانت التجربة واقعية وحادة. تسارعت دقات قلبي أثناء مطالعتي للكوارث القادمة واغرورقت عيناي بالدموع مع تتبعي للجدول الزمني الذي وضعه والاس للمناخ مع عقود عمري القادمة أو عقود أبنائي المستقبليين. ومع متابعتي للقراءة على مدى أيام عدة بدأت أتأقلم مع الوضع. تمكنت من القراءة بعقلي من دون اعتراض أنظمة الحرب أو الهروب لطريقي وأشعرني ذلك بالقوة.
يقول والاس إن القرن الماضي قد أوجد من استخراج الوقود الأحفوري والرأسمالية الصناعية نمط حياة نستمتع به، وأن هذه العملية قد أوجدت "الطبقة الوسطى" التي ضمت مليارات البشر. وفي الوقت ذاته كان نظاماً مرمماً بشكل جذري. ويضيف أن البشر المتقدمين يمتلكون نزعة لرؤية الأنظمة البشرية أكثر قداسة من الأنظمة الطبيعية.
وبالتالي "فإن تجديد الرأسمالية بحيث لا تكافئ استخراج الوقود الأحفوري قد يبدو أكثر بعداً من تعليق الكبريت في الهواء لتلوين السماء بالأحمر وتبريد الكوكب بدرجة أو إثنتين".
ولذلك يبدو أن إيجاد معامل عالمية لامتصاص الكربون من المناخ أسهل من إنهاء الدعم للوقود الأحفوري. ويضيف: تلك هي الحقائق التي يتعين علينا إدماجها: فالعالم القابل للعيش لا يتوافق مع الوقود الأحفوري كما أن الوقود الأحفوري هو الذي صنع العالم الذي نحيا فيه.
إن نزع الكربون من الاقتصاد أمر عسير المنال ولكن يتعين علينا القيام به. لا شك بأنه سيكون صعباً، ولكنه ليس بدرجة صعوبة كاتالوج الكوارث التي ستحيق بنا إذا لم نفعل. وهذا في رأيي القوة الأعظم لنهج والاس في قص القصص. وما يثير الحزن والكمد ليس مناخ الأرض القابل للعيش بل قرن من قيادة السيارات بلا إهتمام وإجتثاث الغابات وسنوات طوال من تناول اللحوم والسفر الجوي الرخيص والوفير حول العالم والنمو الاقتصادي المهول الذي حققه ذلك النظام.
سيمثل تجديد إقتصاد الوقود الأحفوري خسارة حقيقية ولكن تضحياته لن تكون قريبة من البديل. والعملية معرضة لشتى أنواع المصاعب: مسألة العمل الجماعي والتحيّر العلمي والتحديات التكنولوجية والتحشيد السياسي وغيرها كثير ولكن عدم القيام بشيء هو الجنون بعينه.
ترجمة: إبراهيم عبد الله العلو - الميادين نت