قلق يسود العالم.. بانتظار "بائع زيت الثعابين"
تشهد الحياة السياسيَّة الأميركيَّة توتّراً غير مسبوق مع انطلاق القطار المؤدّي إلى البيت الأبيض. وفي حين أن بطاقة الحزب "الجمهوري" شبه مضمونة لمصلحة ترامب، فإنَّ الأنظار تتَّجه إلى الحزب "الديمقراطي" الذي يحاول إنتاج مُرشّحٍ قادرٍ على هزيمة ترامب والعودة بالحزب إلى المكتب البيضاوي.
إنها سنة الانتخابات في الولايات المتحدة الأميركية. حدثٌ لا يشغل الأميركيين في كلّ الولايات فحسب، بل يلفت أنظار العالم كله إلى أقصى الغرب، ذلك أن وصول الرئيس الأميركي الجديد إلى سدَّة الرئاسة سيحدث تأثيراتٍ مُتفاوتة في كلِّ دولةٍ من دول العالم.
أما على المستوى الداخلي، فإنّ الأميركيين ينتظرون تشرين الثاني/نوفمبر المقبل ليُحدِّدوا بأصواتهم مدى رضاهم عن أداء إدارة الرئيس وحزبه خلال الولاية المُنصرِمة، أو حاجتهم إلى رئيسٍ جديد يُضيف إليهم ما لم يجدوه مع دونالد ترامب.
بدأت الانتخابات التمهيدية في 3 شباط/فبراير في ولاية "أيوا"، على أن تُستكمَل بسلسلةٍ من المؤتمرات الحزبية والانتخابات التمهيدية في الولايات الأخرى. وستشهد "بورتوريكو" نهاية المرحلة التمهيدية في أوائل حزيران/يونيو المقبل.
تعتبر "أيوا" ولايةً زراعية صغيرة، أغلبيّة سكانها من البيض، ولكنها تُعدّ مؤشّراً مهماً على اتجاه الانتخابات، وخصوصاً هذا العام، إذ شكّلت نتائجها مُفاجأةً للديمقراطيين تحديداً. وعلى الرغم من أنّ تركيبتها السكانية من البيض لا تعكس كامل التنوّع الاجتماعي الأميركي، وبالتالي اتجاهات الناخبين جميعهم، فإنَّ تاريخ الانتخابات فيها لا يحمل عادةً بُشرى جيّدة للجمهوريين.
لقد حصد تيد كروز انتخابات الولاية في السنوات الأخيرة، لكنه لم يصل إلى البيت الأبيض، شأنه شأن كلّ المُرشّحين الفائزين بهذه الولاية خلال السنوات العشرين الماضية.
ومع انطلاق المرحلة الأولى من الانتخابات، وانتهاء محطّة "أيوا"، فإنَّ 12 مُرشّحاً للرئاسة لا يزالون يتمسَّكون بالأمل في إكمال الطريق نحو البيت الأبيض، فيما لا تبدو فُرَص معظمهم واقعية، خصوصاً من ناحية الحزب الجمهوري.
لكنّ الانتخابات التمهيدية مُنفصلةٌ عن المؤتمرات الحزبية التي انطلقت بالتوازي في "أيوا" أيضاً، والمؤتمرات تُنظّم لاستنهاض جماهير الحزبين، وحثّهم على التصويت للمُرشَّحين، والاستفادة من تجمّعهم سوياً في لقاءاتٍ موسَّعة يتم التصويت فيها للمُرشّحين داخل كلٍّ من الحزبين المُتنافسين.
ولا تجري المؤتمرات الحزبية في كلّ الولايات، كما هو حال الانتخابات التمهيدية، بل إنها محطّات للتحشيد أكثر منها مناسبةً للانتخاب بحدّ ذاته.
بيلوسي وترامب
تمظهرت حدَّة الانتخابات الحالية خلال جلسة خطاب حال الاتحاد التي ألقى فيها ترامب خطاباً نارياً أشبه بالخطاب الانتخابي، لم يستعرض فيه حال البلاد خلال سنةٍ واحدة فحسب، بل ما يراه إنجازات ولايته الرئاسية أيضاً، من الاقتصاد إلى المجتمع والوظائف، وصولاً إلى اغتيال الفريق قاسم سليماني، إذ أراد الربط بينه وبين قتل زعيم "داعش" أبو بكر البغدادي، ليُصيب عصفورين بحجرٍ واحدٍ: الظهور بمظهر الرئيس القادِر على مُكافحة "الإرهاب" من جهةٍ، والتصويب على موقف "الديمقراطيين" من اغتيال جنرال عسكري في دولة أخرى من جهةٍ ثانية، إذ يُعدّ "الديمقراطيون" هذا الفعل مُخاطَرة بالأمن القومي الأميركي وبالمصالح الأميركية في الشرق الأوسط.
وكما في مضمون خطاب ترامب، أيضاً في شكل الأحداث، مارس الأخير فوقيَّته المعهودة وخروجه عن أصول البروتوكول السياسي المُتعارَف في الدولة التي تفخر كثيراً بتقاليدها الديمقراطية، فسلّم خطابه لرئيسة البرلمان نانسي بيلوسي. وعندما مدّت يدها لمُصافحته، استدار مُتجاهِلاً اليد الممدودة، ما حدا ببيلوسي إلى تمزيق الخطاب أمام الملأ، في صورةٍ سوف تبقى في خلفيّة الذاكرة الانتخابية الأميركية، كما في أرشيف السياسة الأميركية، لسنواتٍ طويلة.
بعد الجلسة، كثُرت التعليقات على الحادثة اللافِتة. وقالت بيلوسي لزملائها النواب "الديمقراطيين" إنها لم تكن تنوي تمزيق الخطاب، لكنها قرَّرت فعل ذلك عندما لم تجد فيه صفحةً "لا تضمّ كذبة"، مُفنّدةً كذب الرئيس في كلامه عن دعم التأمين الصحّي للأميركيين من جهة، في مقابل سعيه إلى إلغاء قانون يحمي المرضى من جهةٍ ثانية.
بيلوسي التي استفاضت في حديثها عن محاولة "العثور على صفحة واحدة لا تحوي كذبة"، وصفت الرئيس بأنه "يبيع مشروع قانون سلع مثل بائع زيت ثعابين"، ووجدت تعاطفاً كبيراً من ممثّلي حزبها "الديمقراطي" حيال ردّ فعلها، الأمر الذي ينذر بتصاعُد التوتّر بصورةٍ مُطّردة خلال الأشهر المُتبقيّة للانتخابات.
بطاقة الحزب "الجمهوري"
هذا الخروج الدائم عن النص، وعن الأصول، وعن التقاليد الديمقراطية كافة، لا يبدو أنه سيكون سبباً كافياً للتقليل من فُرَص ترامب في الفوز بالبطاقة "الجمهورية" للانتخابات الرئاسية، إذ يبدو منطلقاً بزخمٍ كبير نحو حسم هذه البطاقة، من دون أن يتمكّن أيٌّ من مُرشّحي حزبه من تنحيته عن مواجهة المُرشّح الديمقراطي المجهول حتى اللحظة في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.
ومع فشل مُحاكمته في مجلس الشيوخ، والتي يرى فيها مُجرَّد "مهزلة" مُدبَّرة من "الديمقراطيين"، ينطلق ترامب نحو تشرين الثاني/نوفمبر، مُعتمِداً على استعادة الاقتصاد الأميركي حيويّته، مع تمكّن الملياردير الرئاسي من استعادة شركات أميركية كبرى إلى الداخل، بعدما ابتعدت إلى شرق آسيا في السنوات السابقة، والوظائف الجديدة التي تولّدت للأميركيين جرّاء ذلك، كما كان يُخطّط خلال حملته الانتخابية في العام 2016، إضافةً إلى الاتفاقات التجارية التي أبرمها، والتي يؤكّد أنها عادت بفوائد جمَّة على الأميركيين، إلى جانب مواجهته خصوم الولايات المتحدة في الخارج، ومحاولاته المستمرة لعرقلة صعود الصين.
وقد ترجمت نتائج "أيوا" تفوّق ترامب الساحِق على مُرشّحي حزبه، بنيله 39 مندوباً، في حين نال بيل ويلد مندوباً واحداً، ولم ينل المُرشّحون الآخرون أيَّ مندوبٍ. ويحتاج المُرشّح الجمهوري إلى 1276 مندوباً من كلِّ الولايات ليفوز ببطاقة الحزب المؤهّلة لمُنافسة المُرشَّح "الديمقراطي" الذي سيفوز بالانتخابات التمهيدية في حزبه.
بطاقة الحزب "الديمقراطي"
في المقابل، لا تنسحب سهولة معركة ترامب في حزبه على حال "الديمقراطيين"، فنتائج ولاية "أيوا" أظهرت تعادلاً في الصّدارة بين بيرني ساندرز (المُرشَّح الرئاسي السابق) وبيت بوتيدجييج (رئيس بلدية سابق لمدينة "ساوث بند" في ولاية "إنديانا") بـ11 مندوباً لكلٍّ منهما، ونال كل منهما ما يربو على 26% من الأصوات.
ونالت السيناتور إليزابيث وارن نحو 18,2% و5 مندوبين. وكانت المفاجأة الكُبرى في هذه الولاية بنيل جو بايدن (النائب السابق للرئيس باراك أوباما) حوالى 15,8% من الأصوات، الأمر الذي اعتبر نكسة كبيرة له في محاولته لنيل بطاقة الحزب لمواجهة ترامب.
وتكبر مُفاجأة نتائج الحزب "الديمقراطي" من خلال مُقارنتها بالاتجاهات التي أظهرتها استطلاعات الرأي قبل يوم "أيوا" الانتخابي، إذ كان بايدن يتصدَّر هذه الاستطلاعات بالتوازي مع ساندرز، ولم تكن حظوظ بوتيدجيدج كبيرة في التقدّم إلى صدارة الولاية، وهو مُرشّح شاب (38 عاماً) ومثليّ الجنس، الأمر الذي لم يكن يعطيه أفضلية على الورق قبل يوم الانتخابات التمهيدية في الولاية.
وربما يكون الجواب على فشل استطلاعات الرأي في تحديد هُوية المُتصدّر في الولاية بأنَّ حوالى 45% من الناخبين قالوا في الاستطلاعات إنهم قد يُغيّرون آراءهم في يوم الانتخاب، وهو ما يبدو أنّه حدث فعلياً.
لكن نتائج "أيوا" بالنسبة إلى الحزب "الديمقراطي" لا تعبِّر عن مُجمل المشهد الانتخابي للحزب على مستوى الولايات المتحدة ككلّ، فبايدن لا يزال، وفق كلّ الترشيحات، صاحب الحظوظ الأقوى لنيل بطاقة الحزب في النهاية. وينافسه في سبيل ذلك ساندرز ووارن، في حين يُركِّز الملياردير الديمقراطي - المُتحمّس لتكرار تجربة ترامب لكن من جهة الديمقراطيين - على يوم "الثلاثاء الكبير" في 3 آذار/مارس المقبل، إذ ستشهد 15 ولاية انتخابات في يومٍ واحد، عسى أن يستعيد زخم حملته.
ويستند بوتيدجيدج إلى مجموعةٍ من التوجّهات التي يعتقد أنها ستساعده في المحطّات المقبلة من الانتخابات التمهيدية، فهو أوَّل مُرشَّح رئاسي يُجاهِر بمثليته الجنسية ويُلمّح إليها في خطاباته، محاولاً الاستفادة من أصوات جزء من الناخبين المُتعاطفين مع قضايا الحرية الجنسية.
كما أنه يتبع أسلوباً مختلفاً في التعاطي مع ناخبي ترامب، فهو أقلّ حدّةً من المُرشّحين "الديمقراطيين" الآخرين تجاه الرئيس الأميركي الحالي. وبمُوازاة ذلك، وبخصوص ملفات الشرق الأوسط، يعارض بوتيدجيدج انسحاب الولايات المتحدة من سوريا، بينما يؤيِّد حلّ الدولتين في فلسطين المحتلة، ويرفض احتلال "إسرائيل" للضفّة الغربيّة والحلول التي يسوِّق لها ترامب.
وفي المُحصِّلة، إنَّ اتجاه الأحداث، بما تحمله حتى الآن، وبما هي مُرشَّحة إليه في الأشهر المقبلة، يشير إلى أنَّها ستكون إحدى أشرس المعارك الانتخابية في العقود الأخيرة. لا يعود ذلك إلى الموقف الاستراتيجي على المستوى الدولي الذي تقف فيه واشنطن اليوم فحسب، بل إلى مجموعةٍ كبيرةٍ من المُعطيات الداخلية التي تُنذِر بتفجّر صراعاتٍ مجتمعية لم تشهد البلاد لها مثيلاً في السابق، فأميركا لم تخرج حتى الآن من ارتدادات الأزمة المالية الهائِلة التي شهدتها في العام 2008.
وعلى الرغم من تأكيدات ترامب في خطاب "حال الاتحاد"، انتهاء الأزمة الاقتصادية إلى غير رجعة، فإنَّ الاقتصاد العالميّ مُهدَّدٌ في المستقبل القريب بالتباطؤ، وبأن يشهد أزمة أكثر شدَّة من أزمة العام 2008.
وفي حين أنَّ جميع القوى الكبرى تتحسّب مخاطر تباطؤ الاقتصاد العالمي، يخوض ترامب حرباً تجارية على الصين، وتعاني الأخيرة من انتشار فايروس "كورونا" الخطر، الأمر الذي يُهدِّد عجلة الاقتصاد العالمي بمزيدٍ من التعثّر، ذلك أن الصين تشكِّل رافِعةً أساسية وواحدة من أهم دعائم النمو العالمي اليوم وفي المستقبل المنظور.
على الرغم من ذلك كلّه، ينتهج ترامب منهجاً اقتصادياً انسحابياً يُخاطِر من خلاله بالنظام الاقتصادي العالمي الذي تؤدِّي أميركا فيه الدور المركزي، لمصلحة الحفاظ على اقتصاد داخلي قوي مدعومٍ بمكانة الدولار، الذي يحافظ على قيمته كعملةٍ مرجعيةٍ وحيدة عالمياً.
وبصرف النظر عن هذه المخاطر الكبيرة، فإنَّ وصول بيرني ساندرز إلى سدَّة الرئاسة، على سبيل المثال، قد يُغيِّر طبيعة النهج الاقتصاديّ الأميركيّ، وهو المُهتّم بالنواحي الاجتماعية على حساب التوحّش الرأسمالي، ما يجلب له اتهامات مُتكرِّرة بالاشتراكية، لكن فوز بايدن، مثلاً، قد يُعيد إلى البيت الأبيض أداءً شبيهاً بأداء الرئيس السابق باراك أوباما، الذي كان بايدن نائباً له خلال رئاسته.
وبين هذا وذاك، ينتظر العالم، إلى جانب الأميركيين، الأشهر المقبلة بقلقٍ، ذلك أنَّه لا يضمن طبيعة الانعكاسات التي قد تحملها أحداث هذه الأشهر، قبل تلك التي ستحملها النتائج النهائية، والسياسات التي ستُصنع في واشنطن بعد وصول الرئيس الجديد إلى مكتبه.
وفي كلِّ الأحوال، فإنَّ لازمةً دائمة أثبتت صحَّتها بالنسبة إلى قضايا الشرق الأوسط. كائناً مَن كان الفائز، فإنَّ العرب يتألّمون من سياساته.