75 عاماً على تأسيس "جائحة الدول العربية".. أي فرص مهدورة؟

في يوبيلها الماسي تغيب جامعة الدول العربية بشكل تام عن التأثير والفاعلية، وتنكفئ عن الدور اللازم في مواجهة الأزمات والمخاطر على الأمن القومي العربي، لكن وصول جائحة كورونا إلى بلاد العرب يتطلب أداءً مختلفاً، فأي أداء للمنظمة؟ وأية فرص مهدورة يمكن التفكير فيها؟

  • 75 عاماً على تأسيس "جائحة الدول العربية".. أي فرص مهدورة؟
    يسأل المواطن العربي اليوم: أين العمل العربي المشترك في هذه المحنة؟

إنّ انتشار جائحة "كوفيد 19" التي باتت معروفة بفيروس كورونا المستجد أحدث مفاعيل هائلة في كل دول العالم من دون استثناء. ورغم أن هذه التأثيرات أتت متفاوتة بين دولةٍ وأخرى، فإن ضرورة المواجهة وخطر المناسبة فرضاً على دول العالم ومنظماته وهيئاته، بل حتى أفراده، اتخاذ إجرءاتٍ طارئة واستثنائية وصلت إلى إعلان الحرب على الفيروس الخطر، ورفع درجة التأهب إلى أقصاها في معظم الدول التي سجلت إصابات مرتفعة بين مواطنيها.

وحدها جامعة الدول العربية تفردت بنوعية استجابتها للفيروس وآثاره الصحية والاقتصادية والاجتماعية في الدول العربية.

الأمين العام للجامعة، أحمد أبو الغيط، استجاب لنداءات العرب وحاجاتهم الملحَّة، فكتب مقالاً خصّ فيه جريدة "الشرق الأوسط"، في الذكرى الـ75 لتأسيس الجامعة، عالج من خلاله الأزمات التي يعاني منها العربي هذه الأيام. 

أبو الغيط طلب "سكوت المدافع" حتى نتمكن من مكافحة الفيروس التاجي المتفلت. طبعاً، بعد صدور مقاله وتعليق الصحف عليه، سكتت مدافع العالم، لا مدافع المنطقة العربية فقط. 

وإذا كان التهكّم مزعجاً في سياق الحديث عن موقع عربي عالي المقام كان من المفترض أن يكون له الدور الأبرز في صياغة نظام إقليمي عربي فاعل ومنتج على المستويات كافة، فإن الأكثر إزعاجاً، بل الأكثر إجراماً، هو أن تغيب الجامعة العربية عن حياة المواطنين العرب في كل تفاصيلها، ثم تنخرط في مشاريع سياسية خارجية دمرت المنطقة العربية في سوريا والعراق واليمن وليبيا وغيرها الكثير من الدول.

والآن، يتساءل المواطن العربي عن مدى علم أمين عام الجامعة بأن العمليات الإرهابية توقفت بصورةٍ مريبة حول العالم، وأن ما من شيء يمنع من في موقعه من مواجهة الفيروس المستجد. 

وهذا المواطن يريد إخبار الأمين العام بأن الكثيرين من العرب باتوا لا يريدون من الجامعة العربية أية مساعدة، بل إن جل ما يريدونه هو أن تكف شرها عنهم فقط، وأن لا تتعاون مع أعدائهم عليهم.

إن المواطن العربي اليوم يسأل: أين العمل العربي المشترك في هذه المحنة؟ كيف أمكن وجود كل هذه الموارد والأزمات في آن واحد؟ وهو يريد أن يحصل على إجابات لا يستند فيها إلى ذاكرته المثقلة بالإنجازات الغائبة للجامعة العربية.

المنظمة الغائبة

لقد شكَّلت الدول العربية منظَّمتها الإقليمية والقومية سريعاً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتحديداً في العام 1945. جاء ذلك مواكباً للاتجاه العالمي لنشأة المنظمات الإقليمية والدولية. 

ربما سبق العرب غيرهم في هذا الإطار، لكن من تأخر عنهم أسس في ما بعد الاتحادات الأكثر فاعلية منها، وذلك على الرغم من أهمية المشتركات اللاحمة للوحدة العربية، والتي كان من الممكن أن تشكل أساساً لكيانٍ سياسي اتحادي رائد في العالم.

لقد بدأت الجامعة نشاطها بنبضٍ عالٍ من الوحدة بين أعضائها، وبرغبة كبيرة في مواجهة الأخطار وتحرير الأرض التي احتُلت. وتم التعبير عن هذه الرغبة وذلك النبض باللاءات الثلاث الشهيرة: لا صلح، لا تفاوض، ولا اعتراف.

ومنذ ذلك اليوم وحتى الآن، عقدت الجامعة أكثر من 40 قمة، منها ما كان قمماً عادية دورية، ومنها ما أتى تحت سطوة العجلة والحالات الاستثنائية والاعتداءات التي طالت دولها، وهي كثيرة بما لا يقاس بعدد الاجتماعات الحاصل فعلياً.

منذ ذلك الوقت، تدهورت مواقف الجامعة العربية، ومعها دول عربية كثيرة، بدايةً من السلام الثنائي مع العدو الإسرائيلي الذي وقعته دول أعضاء، مروراً بالنكسات المتتالية للعمل العربي المشترك ولقدرة الجامعة على تأمين حدٍ أدنى من التضامن العربي في الحروب والأزمات والتهديدات التي طالت الدول العربية وشعوبها، ووصولاً إلى الحالة الراهنة منذ بداية الألفية الجديدة، حيث أصبحت الجامعة شريكاً في تدمير الدول العربية، وعامل ضغط على الدول المقاومة منها لمشروعات التطبيع والاستسلام التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، وتزخم مساراتها الدول العربية الكبرى التي أخذت على عاتقها تمويل المشروعات الخارجية ضد دول عربية أخرى وحركات مقاومة وشعوب متمسكة بالقضايا العربية التاريخية.

تكاد تجربة تمويل العرب لجهود غزوهم تكون ظاهرةً تستحق الدراسة والبحث، نظراً إلى غرابتها وتعارضها مع أبسط قواعد الانتماء والمنطق، وهي تطرح أسئلةً كبيرة حول حقيقة هذا الانتماء. كيف يمكن لدولٍ أن تساهم في ضرب أمنها القومي، ليس على المدى البعيد فقط - حتى يشفع لها العمى الاستراتيجي - بل على المدى القصير والآني، فالتهديد الإسرائيلي مثلاً على الدول العربية ماثل وواضحٌ وداهمٌ وآني، وهو يطال كل الدول العربية من دون استثناء!

دغدغت خطابات القادة العرب مشاعر المواطنين العرب في القمم المتتالية بالأدب والبلاغة والكلام، ثم أمعن القادة أنفسهم في خذلانهم بأفعالهم. لقد أغدقوا كلاماً كثيراً على الشعوب، حتى فقد الكلام قيمته، وخصوصاً أن أصحاب الكلام كانوا يحاربون كل فعلٍ مقاوم في كل مرةٍ علت فيها بندقية تعلن انتفاضةً على الواقع المحبط، وهو ما قاد الشعوب العربية إلى الانفجار، لكن حبكة المؤامرات الرابطة بين الدول العظمى والقوى الحاكمة عند العرب كانت على الدوام أقوى من قدرة الشعوب على تحقيق حريتها. 

ومؤخراً، كان الموقف الباهت للمنظمة وقلة حيلتها أمام الإرادة الأميركية- الإسرائيلية بسرقة القدس وحق العودة، سبباً جديداً لكفر الشعوب العربية بأنظمتها ومنظمتها الجامعة، قبل أن تصل الجائحة العالمية إليها بكل صخبها ووعيدها والموت الذي تلوح به.

الجامعة في زمن كورونا

يقول الأمين العام في مقالته المشار إليها آنفاً إن "الطموح لا يزال سابقاً للواقع، والمأمول أكبر بكثير من المتحقق"، وهو ينتظر أن تتوقف المدافع "حتى نواجه الجائحة"، لكن هذا القول لا يبدو قادراً على حمل الكثير من المنطق في متنه، فلماذا يجب انتظار توقف المدافع لتقوم الجامعة بجهودٍ تنسق من خلالها القدرات العربية لمواجهة الجائحة؟ من أين جاء هذا الربط بين المدفع والجائحة؟ ولأي غرض؟

 ألا يمكن أن يتم هذا العمل الجماعي الذي يطالب فيه أبو الغيط من دون أعذار تُساق في الخطابات؟ ولماذا يقتصر دور المنظمة دائماً على التذكير، بدلاً من وضع برنامج عملي لجمع الأموال وتوزيع القدرات على الدول التي تواجه الجائحة، طبياً وغذائياً، ولاحقاً إطلاق برنامج لإعادة إطلاق العدالة الاقتصادية أينما توقفت؟

لكن الأمين العام اختار الكلام مرةً جديدة بدلاً من الفعل. هو ارتأى إعادة التذكير بأن "هذه الأوضاع الإنسانية الخطيرة هي عَرَض للمرض الأصلي، وهو استمرار النزاعات. لقد آن للمدافع التي يقتل بها أبناء الوطن الواحد بعضهم البعض أن تسكت، وخصوصاً أن الوضع العالمي في مواجهة جائحة كورونا يجعل من استمرار مثل هذه النزاعات نوعاً من العبث".

وبدلاً من العمل أيضاً، اختارت الجامعة أن تقتصر إجراءاتها على اجتماعات "الفيديو كوفرنس" مع الصينيين ودول أخرى لفهم تجربتهم، وأخذ الدروس والعبر منها، وتبادل الكلام، والتصريح بالكلام. 

وتصرفت الجامعة كأية شركةٍ أخرى في هذه الظروف، فقامت، وفق توجيهات أبو الغيط (كما أعلنت)، بتقليص العمل في مقراتها إلى نصف قوة العمل العادية بالتناوب اليومي، وتعديل مواعيد العمل، ثم خفض قوة العمل إلى 15%، وتأجيل كل مواعيد الاجتماعات التي تنعقد في مقر الأمانة العامة وخارجها خلال شهري آذار/مارس ونيسان/أبريل، إضافة إلى ​نشر أجهزة التعقيم في جميع أرجاء مبنى الأمانة العامة، وتعقيم مبنى الأمانة العامة بالتنسيق مع وزارة الصحة المصرية، واستخدام وسائل تنظيف اليدين المعتمدة من الوزارة، وتوزيعها على جميع الأماكن في المبنى، تماماً كشركات ومؤسسات القطاع الخاص غير المسؤول عن مكافحة جائحة تهدد أمن البلاد وحياة مواطنيها. وقد كان بالإمكان أكثر مما كان بكثير.

الإمكانيات المهدورة

إن الإمكانيات الهائلة التي يختزنها العالم العربي تزيد من فداحة الخسارة التي يتم تضييعها يومياً، فلو لم تكن هذه القدرات موجودة لما كان الأسف والإحباط بالدرجة نفسها التي هي عليه اليوم. كنا حينها سنرضى بحالنا، ونقول إن هذا ما أعطانا الله إياه، وما باليد حيلة. 

لقد كان ممكناً أن تشكل الدول العربية اتحاداً سياسياً مهول الحجم والقدرات. وبمساحةٍ جغرافية تزيد على 13 مليون كيلومتر مربع، كان يمكن أن يكون هذا الاتحاد الثاني عالمياً من حيث المساحة بعد الاتحاد الروسي، وهي مساحة زاخرة بالثروات الطبيعية، فهي المنطقة الأولى عالمياً في إنتاج الطاقة، وتمتلك أوسع المساحات الزراعية المتنوعة بتنوع المناخ والطبيعة التي تحتويها. 

كما أن العالم العربي يتقدم على روسيا من ناحية المناخ المناسب ووجود المساحات التي يمكن الاستفادة منها للإنتاح الزراعي، إضافة إلى تفوقه عليها أيضاً من ناحية الموقع المناسب للتجارة البحرية، الأمر الذي يخفف الأكلاف، ويعزز أسعار المنتجات العربية، ويكسب البلاد العربية عائدات كبيرة من حركة الترانزيت، نظراً إلى وجود المنطقة العربية في منتصف خارطة العالم تماماً.

أما الثروة السكانية، والتي أظهرت السنوات الأخيرة أنها أفضلية للدول التي تمتلكها، بدلاً من أن تكون عبئاً عليها، فإن العالم العربي يختزن منها ما يقارب 400 مليون إنسان، وهم يزخرون بالقدرات المتنوعة والمبدعة.

وميزة هذه الكثافة السكانية أنها متناغمة ثقافياً ودينياً ولغوياً. ففي العالم العربي دين أغلبية، يضاف إليه تنوع ديني غني يساعد في إحداث تفاعل حضاري أكثر إنتاجاً.

 وإلى جانب الدين، هناك لغة جامعة تلغي أي عائق أمام التواصل، ويمكن مقارنة ذلك بحالة الاتحاد الأوروبي، ليتبين هذا المعطى كأفضلية حقيقية للعرب، ثم إن الثقافة والتاريخ المشتركين للمنطقة العربية يعززان الفائدة الإيجابية من مسألتي اللغة والدين. وفوق هذا وذاك، يقف العالم العربي أمام تهديداتٍ مشتركة مناسبة جداً لإحداث اتحاد قدرات يتحول إلى اتحادٍ سياسي.

هذا كله كان يمكن أن يكون دور جامعة الدول العربية، التي كان يمكنها أن تقرب الدول العربية من بعضها البعض خطوة في كل يوم منذ 75 عاماً وحتى اليوم، وكنا سنصل قبل هذا الوقت بكثير، لكنها اختارت الكلام وإيجاد الأعذار، ولم تتصرف كمؤسسة سياسية تسعى إلى دمج الشعوب تمهيداً لدمج الدول وتحقيق الاتحاد.

لقد أُضيف إلى سرطان "إسرائيل" الفتاك في الجسد العربي، فيروس الانقسامات الدائمة في الجامعة العربيّة، ولم يتوفر للمرضين أي علاج طوال 75 عاماً. 

ولم يتوفر حتى لقاحٌ يقي العرب من فيروسات أقل تطلباً للجهد وأكثر محدودية زمنياً، كالإرهاب والفساد والديكتاتورية وفشل السياسات والصراعات على الحكم.

واليوم، فإن كل الخوف من أن يشكّل فيروس كورونا في منطقتنا بيئة خصبة لنمو الفيروسات بطمأنينة وراحة، بحيث يقضي على ما تبقى من مناعتنا وقدرتنا على المقاومة.