تغيرات مركز القوة العالمي: عالم بلا قائد

تغيرات حقيقية وملموسة في موازين القوى العالمية شهدها العقد الأخير؛ تغيرات حملت مركز الثقل الاقتصادي إلى أقصى الشرق، وزخّمت الصراع المحموم على قمة العالم، ولا زالت تساهم في إضعاف قبضة واشنطن على حلفائها الأوروبيين.

  • سلسلة جبال كاراكورام التي تمتد على حدود الهند وباكستان والصين
    سلسلة جبال كاراكورام التي تمتد على حدود الهند وباكستان والصين

تتسارع بوتيرة عالية حركة التغييرات التي شهدها العالم في العقدين الأخيرين. بعد انتهاء الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفياتي السابق، انتصرت الولايات المتحدة في صراع المحورين الكبيرين، وانفلشت عبر العالم برأسمالية اقتصادية متوحشة، وأحادية قطبية سياسية ليست أقل توحشاً، طوّعت خلالها دولاً، وعاقبت دولاً أخرى، واجتاحت تلك التي بقيت على رفضها للهيمنة الأحادية.

لكن طبيعة النظام الدولي الناشئ ومتغيراته السريعة لم تعطِ واشنطن فرصة طويلة لفرض سيطرتها المطلقة. فشلت النظريات التي راهنت على نهاية الصراع والفوز النهائي للقوة العظمى الوحيدة بسرعة، وتساقطت الواحدة تلو الأخرى. لم تتحقق "نهاية التاريخ"، وفشلت أيضاً التوقعات الأخرى التي كثرت بعد توحد أوروبا ضمن الاتحاد الأوروبي، بعد أن كانت قبل ذلك سوقاً اقتصاديةً مشتركة، فلم تتقدم أوروبا إلى القمة الاقتصادية للعالم، وبقي الاستقرار السياسي والاقتصادي هو أقصى ما استطاع الاتحاد تحقيقه للأوروبيين، مع تأثيرٍ ضعيف على المستوى العالمي لدوله.

لكن حروب الأميركيين في السنوات العشر الأولى من الألفية، كانت لها معانٍ بالغة العمق في إشارتها إلى حال القوة العظمى وتراجعها الاستراتيجي، ففي الوقت الذي كانت أميركا منغمسة في العراق وأفغانستان واليمن وغيرها، كانت قوى أخرى تتسلق قمة العالم من دون إحداث ضجيج.

انتقال القوة

لقد تنامت المؤشرات التي كانت تشير إلى تحول مراكز القوة في العالم من الغرب إلى الشرق، ثم تبعت هذا التحول تغيرات جيوستراتيجية وجيوسياسية، مكتسبةً المزيد من الانعكاسات المهمة على القرار الدولي.

ولم يقتصر صعود القوة الآسيوية المتمثلة بدرجةٍ أساسية بالصين والهند على القوة الاقتصادية فقط، وإنما نمت قوتها العسكرية أيضاً، والأكثر دلالة على ذلك هو ما جاء في تقرير التوازن العسكري للعام 2012، الصادر عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن، والذي نشره في أبريل/نيسان 2012، وخلص فيه إلى أن الميزانيات العسكرية لدول القارة الآسيوية تتفوق للمرة الأولى في التاريخ الحديث والمعاصر على نظيرتها الأوروبية.

وقد ساهمت الأزمات المتتالية في العشرية الأولى من هذا القرن بهذا التحول، وخصوصاً الأزمة المالية الكبرى في العام 2008، إذ اشتدت وطأة الأزمة المالية العالمية على اقتصاديات الولايات المتحدة وأوروبا، ما أثر سلباً في الإنفاق العسكري لدى هاتين القوتين، في حين زاد حجم الاحتياطي من النقد والعملات الأجنبية في الدول الآسيوية، ما رفع مكانتها الدولية، وعزز قوتها على الصعيد العالمي.

إن الأهمية الاستراتيجية لقارة آسيا كانت على الدوام مرتفعة عند الحديث عن موازين القوى الدولية. هذه الأهمية تعود في جزء منها إلى المواقع الحيوية والمناطق الغنية بالطاقة، وكذلك الاقتصادات الحيوية والدينامية التي تضفي على هذه القارة أهمية جيوستراتيجية وجيوسياسية منقطعة النظير بين القوى العالمية، وبالتالي عندما تتحول مراكز الثقل الاقتصادية والسياسية العالمية إلى آسيا، فإن ذلك يعني على المسرح الدولي الكثير.

على المستوى الجيوستراتيجي، يمكن القول إن التحول العالمي للقوة إلى آسيا يتزامن ويؤثر ويتأثر بنهاية الهيمنة الشاملة للولايات المتحدة على الشؤون العالمية، بصفتها القطب الواحد، حيث سادت في السنوات الأخيرة توقعات عند خبراء الاستراتيجيا والعلاقات الدولية، تقول في مضامينها إن التعددية القطبية عائدة لتكون السمة الأساس في النظام الدولي الوارث للأحادية القطبية، مع صعود القوى الآسيوية الناشئة كأقطاب متعددة. 

كما أن الصعود العسكري للقوى الآسيوية الرائدة، وخصوصاً الصين والهند واليابان، ومعهم روسيا، القوة الأوراسية الهائلة اليوم، والذي يغذيه النمو الاقتصادي المستدام، يحد من الفوارق في القوة العسكرية مع الولايات المتحدة.

من حيث الأسلحة المتطورة والمعدات العسكرية، فإن قدرات آسيا العسكرية آخذة في الارتفاع، بينما تحد القيود المالية من القدرات العسكرية للولايات المتحدة وأوروبا، ففي آسيا اليوم، تمتلك 6 دول الأسلحة النووية مع ترسانات كبيرة من الصواريخ. 

وقد بات ملحوظاً آثار القوة العسكرية الآسيوية في غير مكان من العالم، وخصوصاً في مهمات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، فعلى سبيل المثال، هناك عدد من القوات البحرية الآسيوية التي تعمل منذ سنوات طويلة بعيداً من أراضيها، وتشارك في عمليات لمكافحة القرصنة البحرية وغيرها، وذلك، كما يبدو، هو البدايات الأولى لأدوار عسكرية أكبر للبلدان الآسيوية في مناطق أخرى من العالم.

ومن ناحية أخرى جيوسياسية، تتزايد الطموحات الآسيوية في أداء الدول الذي يليق بقوة هذه الدول على المستوى الدولي، حيث تتزايد منذ سنوات دعوات آسيوية قوية إلى إعادة هيكلة المؤسسات السياسية والمالية العالمية، مثل مجلس الأمن الدولي والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لتكون أكثر تعبيراً عن التحول العالمي للقوة، ولمكانة آسيا الجديدة في هذا التحول.

 ومما لا شك فيه أن قوة الصين والهند ستضع الهيمنة العالمية  للولايات المتحدة موضع تساؤل. ومع أخذ روسيا بالحسبان كقوة أوراسية، فالحديث يكتمل عن مثلث ذي قوة استراتيجية تؤهله لمنافسة جادة وحقيقية للولايات المتحدة. 

إن منطقة المحيط الهادئ الآسيوي هي المنطقة التي تحول إليها المركز الاقتصادي والسياسي للقوة العالمية في ما يسمى الآن التحول العالمي للقوة إلى آسيا. وباستثناء المرحلة الماضية، عندما كانت الولايات المتحدة مشتتة عسكرياً بين العراق وأفغانستان، فإن منطقة المحيط الهادئ الآسيوي كانت على الدوام مركز ثقل القوة العسكرية الأميركية، وكانت مسرحاً لحربين رئيسيتين للولايات المتحدة في كوريا وفييتنام خلال فترة الحرب الباردة. 

كما كانت منطقة المحيط الهادئ الآسيوي ذات أهمية استراتيجية للولايات المتحدة، لضرورة الاعتماد على حلفائها العسكريين في شرق آسيا، وهم كوريا الجنوبية واليابان وتايوان والفيليبين، في الدفاع عن أراضي الولايات المتحدة  من ناحية محيطها الخارجي الغربي.

 إن التحول العالمي للقوة إلى آسيا ينشأ إلى حد كبير من الصعود الاقتصادي الهائل للصين، والتحديث العسكري التقني المتقدم المقترن برفع كفاءة قواتها العسكرية. ويبدو الآن أنّ هذا الأمر من شأنه إطلاق العنان لحرب باردة جديدة تتمحور حول الصين من قبل الولايات المتحدة في المحيط الهادئ الآسيوي، حيث يمكن للصين أن تتحدى الولايات المتحدة عسكرياً في شرق آسيا.

تراخي القبضة على أوروبا

ومن النتائج العالمية للتحولات في موازين القوى الدولية، وخصوصاً بعد أزمة انتشار فيروس كورونا المستجد "كوفيد 19"، التراجع الواضح في قدرة الولايات المتحدة الأميركية على ضبط حلفائها الأوروبيين ضمن سقوف مواقفها تجاه قضايا عديدة على المسرح الدولي. 

ففي الأيام الماضية، شهد العالم كله فشل الولايات المتحدة في إعادة فرض حظرٍ على تصدير الأسلحة إلى إيران في مجلس الأمن الدولي. ولا تتمثل المفاجأة هنا في خسارة واشنطن للتصويت، بل في اصطفاف كل الأعضاء الآخرين ضد قرارها، باستثناء دولة واحدة، لتكون نتيجة التصويت 13 ضد تجديد حظر الأسلحة، و2 فقط ضده.

إن الأزمات المتلاحقة التي تشهدها الدول الأوروبية على المستوى الداخلي، والتي يمكن تلخيصها بأزمات اقتصادية محلية أو بانعكاس لأزمات عالمية، كما حصل في العام 2008، وأزمات الأنظمة الديموقراطية التي بدأت في الأعوام الأخيرة تفقد ميزتها الأساس، وهي الاستقرار السياسي، ومطالبات الشعوب الأوروبية بالمزيد من الخصوصية في التعاطي مع بقية العالم، وخصوصاً مع الولايات المتحدة الأميركية، ورغبة هذه الشعوب في أن يخرج الاتحاد الأوروبي، أو الدول الأوروبية فرادى من عباءة الهيمنة الأميركية، كلها عوامل تدفع القادة الأوروبيين اليوم بعيداً من واشنطن وهيمنتها، وأكثر فأكثر باتجاه سياسات وطنية سياسياً، وحمائية اقتصادياً، وشعبوية انتخابياً. 

وقد أدى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى إضعاف الأخير من جهة، وزيادة الأعباء على الدول الغنية فيه من جهةٍ ثانية. لقد ساهمت هاتان الجهتان المذكورتان، إضافة إلى ارتدادات انتشار فيروس كورونا، في ارتفاع أصوات المواطنين الأوروبيين بصورةٍ ملموسة، ليطالبوا بالمزيد من الاستقلالية عن الأميركيين، حيث تتراخى القبضة الأميركية على أوروبا، وهو أمر يعبر عنه بوضوح في العلاقة المتشنجة دائماً بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والقادة الأوروبيين.

وعلى الأقل، إنّ فرنسا وألمانيا، بقيادة إيمانويل ماكرون وأنجيلا ميركل، متحفزتان لدور أوروبي أكثر استقلالية في النظام الدولي، وفي القضايا العالمية المطروحة اليوم، وهو ما يتم التعبير عنه بوضوح تام من خلال المبادرات الألمانية والفرنسية المتتالية في أوروبا وعلى المسرح الدولي.

عالمٌ بلا قائد

لكن هل تؤدي هذه التغيرات وغيرها إلى استعادة النظام الدولي تعدديته القطبية، أو أن شكلاً آخر من النظام ثنائي أو ثلاثي القطب سيتشكل؟

الحقيقة أن التوقع في مثل هذه المسألة لم يعد بالسهولة التي كان عليها في السابق. لقد كانت معايير تصنيف القوة على الدوام أكثر سهولة مما هي اليوم، فمقاييس القوة لم تعد محصورةً في المجالات العسكرية أو الاقتصادية، بل امتدت لتطال نواحي جديدة بالغة الحداثة وسريعة التحول، ولكنها في الوقت نفسه شديدة التأثير. 

فإذا وصفنا القطب العالمي بأنه الدولة التي تمتلك مقداراً من القوة يمكنها من التأثير بصورة حاسمة في القضايا الدولية، والدفاع عن نفسها وعن حلفائها من المخاطر الخارجية، وإدارة نظام اقتصادي رابح ومزدهر، فإننا سنجد دولاً عديدة تمتلك هذه المواصفات، فهل هي كلها أقطاب عالمية؟ 

لقد أثبتت تطورات العقود الثلاثة الأخيرة أن قياس القوى لا بد له من أن يشمل الإنتاج العلمي والتكنولوجي، وتطور النظام الطبي، والقدرة على إدارة نظام دولي، أو المشاركة في إدارته، بصورة تتناسب مع القيم والأهداف التي ترسمها القوى التي تطمح إلى أن تُنادى بالقوة العالمية. 

ولا يكفي أن تمتلك الدول قوة عسكريةً هائلة أو فوائض مالية ضخمة من عائدات النفط أو من الفوائض التجارية، حتى تصبح قوةً عالمية أو قطباً في النظام الدولي، بل إن ذلك يقتضي أن تكون هذه الدولة متكاملة القوة، فما فائدة الأساطيل العسكرية الضخمة والإنتاج الاقتصادي الهائل، إذا لم تتمكن الدولة من مكافحة فيروس يهدد حياة مواطنيها ومستقبل اقتصادها؟

إذاً، نحن نتحدث عن مقاييس جديد للقوة، ومحددات لم تكن مشمولة في السابق عند حساب موازين القوى الدولية. وعليه، فإن التحولات التي يشهدها العالم اليوم لا يمكن أن تسمح حتى الآن بتحديد قائد واحد للعالم، بل لا يمكن أن توفر مجالاً منطقياً مقبولاً لتحديد مجموعة محصورة من الدول التي يمكن أن نسميها أقطاباً.

إن عالم اليوم يعيش باختصار مرحلة فقدان القائد العالمي، وتضعضع النظام الدولي، والبحث عن نظام بديل وقائد بديل. إنه عالم بلا قائد، تقوده طموحات الطامحين لإعادة صياغة النظام الدولي، كل بحسب رغبته.