"الدرونز" الانتحاريّة.. المستقبل القديم للحروب الحديثة

خطأ كبير يقع فيه من يعتقد أن فكرة "الدرونز الانتحارية" هي فكرة حديثة العهد أو نتاج للتطوّر التكنولوجيّ خلال السنوات الماضية، فالفكرة تعود إلى أوائل القرن الماضي.

  • فكرة
    فكرة "الدرونز الانتحارية" تعود إلى حقبة الحرب العالمية الأولى

ألقى تجدّد المعارك مؤخراً بين أذربيجان وأرمينيا في إقليم ناغورنو كاراباخ الضوء مجدداً على التطور المطّرد في مجال "الدرونز القتالية"، وتحديداً ما يصطلح على تسميته "الدرونز الانتحارية"، التي حقَّقت خسائر كبيرة في عديد القوات الأرمينية المدافعة عن الإقليم وعتادها.

المفارقة هنا أنَّ الاعتقاد السائد بأن فكرة "الدرونز الانتحارية" التي يطلق عليها أيضاً "الذخائر الجوالة" هي فكرة حديثة العهد هو اعتقاد خاطئ للغاية، ففي نظرة خاطفة إلى التاريخ العسكري خلال القرن الماضي، سنكتشف أن فكرة "الدرونز الانتحارية" تعود إلى حقبة الحرب العالمية الأولى.

الحرب العالميّة الأولى.. مهد "الدرونز الانتحارية"

  • طوّر سلاح الجو الأميركي الطوربيد الطائر
    طوّر سلاح الجو الأميركي الطوربيد الطائر "ليبرتي إيغل" الَّذي أُنتج بضع عشرات منه

كان الطوربيدان الأميركيان "كيرتس سبيري" و"ليبرتي إيغل" البداية الحقيقية لتطبيق فكرة "الدرونز الانتحارية" على أرض الواقع، فقد اختبرت البحرية الأميركية الطوربيد الأول في العام 1917، بعد أن قامت بتعديلات على الطوربيدات المضادة للغواصات، وحوّلتها إلى ما يشبه "الدرونز" المزودة بشحنات متفجّرة داخل بدنها وأجنحة مزدوجة. 

من جانبه، طوّر سلاح الجو الأميركي، بناءً على هذا النموذج، الطوربيد الطائر "ليبرتي إيغل"، الَّذي أُنتج بضع عشرات منه، إلا أنه لم يستخدم ميدانياً خلال الحرب العالمية الثانية، وتوقَّف برنامج تطويره وإنتاجه بحلول العام 1920، نتيجة مشاكل في التمويل.

تطوّر لافت في الحرب العالمية الثانية

  • شرع سلاح الجو الأميركي مطلع العام 1941 في برنامج أطلق عليه اسم
    شرع سلاح الجو الأميركي مطلع العام 1941 في برنامج أطلق عليه اسم "أفروديت"

عاد الاهتمام العسكري الأميركي بتطوير "الدرونز الانتحارية" مرة أخرى خلال الحرب العالمية الثانية، إذ شرع سلاح الجو الأميركي مطلع العام 1941 في برنامج أطلق عليه اسم "أفروديت"، بهدف تحويل القاذفات الثقيلة المتقادمة في ترسانته من نوع "بي-17 فورتريس" إلى "درونز انتحارية" تحمل داخل بدنها نحو 10 أطنان من المتفجرات.

 وقد طوَّر الجيش الأميركي حينها تقنية تعتمد على التحكّم باللاسلكي، من أجل التحكّم بالقاذفة عن بعد، وتوجيهها إلى أهدافها عبر طائرة مرافقة، بعد أن يقوم الطيار والمهندس المساعد له بالإقلاع بالقاذفة وتوجيهها في الاتجاه الذي يتواجد فيه الهدف، ومن ثم القفز من الطائرة بعد ضبط أجهزة الطائرة وتفعيل المتفجرات الموجودة على متنها.

  • طوَّر الجيش الأميركي عام 1941 تقنية تعتمد على التحكّم باللاسلكي
    طوَّر الجيش الأميركي عام 1941 تقنية تعتمد على التحكّم باللاسلكي

نسخة من دون طيار من القاذفة الثقيلة "بي-24 ليبراتور"

رغم محاولات عديدة تمت من أجل تنفيذ هجمات ناجحة بهذه القاذفات المعدلة، ولكنَّها لم تنجح إلا في مهمّة واحدة من ضمن 15 مهمة تم تكليفها بها خلال فترة الحرب. وفي بعض الأحيان، أدى استخدام هذه القاذفات إلى خسائر في أرواح الطواقم التي كانت تعمل على إيصالها إلى أقرب أهدافها، وهذا هو الحال نفسه في ما يتعلق بالتعديلات التي قامت بها البحرية الأميركية ضمن مشروعها المسمى "أنفيل"، لتعديل بعض القاذفات الثقيلة من نوع "بي-24 ليبراتور"، إذ كانت النتائج مقاربة لنتائج استخدام قاذفات "بي-17" المعدلة.

وقد خسرت الولايات المتحدة خلال العامين 1944 و1945 عدداً من الطيارين أثناء تنفيذهم مهام توجيه القاذفات نحو أهدافها، ومنهم جوزيف كينيدي، شقيق الرئيس الأميركي الراحل جون كينيدي، الذي قتل ومساعده في آب/أغسطس 1944، بعد انفجار القاذفة التي كانا يستقلانها بعد خلل في آلية تفجير الشحنة المتفجّرة التي كانت تحملهما.

  • أدى استخدام هذه القاذفات إلى خسائر في أرواح الطواقم التي كانت تعمل على إيصالها إلى أقرب أهدافها
    أدى استخدام هذه القاذفات إلى خسائر في أرواح الطواقم التي كانت تعمل على إيصالها إلى أقرب أهدافها

"الدرون" الانتحاري "ميستيل"

الجدير بالذكر هنا أنّ ألمانيا النازية كانت لها تجربة مهمة في هذا الصدد، إذ أنتجت "الدرون" الانتحاري "ميستيل"، الذي كان عبارة عن قاذفات قنابل من أنواع مختلفة، وعلى رأسها قاذفات "يونكرز 88" تم تعديل مقدمتها لتسمح بحمل ما تصل زنته إلى طنَّين من المتفجرات، على أن يتم نقل هذه القاذفات إلى أهدافها عبر طائرات مقاتلة، ومن ثم تحررها في الجو كي تتوجّه إلى هدفها.

وكان الاستخدام الأول لهذه "الدرونز" في تموز/يوليو 1943 خلال معركة "نورماندي" في فرنسا. وبشكل عام، تم صنع 250 "دروناً" من هذا النوع، لكن لم يحمل سجلها العملياتي نجاحات تذكر، سوى في مواجهة تقدم قوات الاتحاد السوفياتي في الجبهة الشرقية.

النجاح الأول في المحيط الهادئ وكوريا الشمالية

  • ابتكار
    ابتكار "الدرون" الانتحاري "تي دي أر-1"، المصمّم لحمل قنبلة جوية تزن طناً

كان للبحرية الأميركية عدة برامج أخرى لتصنيع "الدرونز" الانتحارية، منها برنامج "أوبشن" الذي تم إطلاقه في العام 1942، بهدف تصنيع أكثر من 4 آلاف "درون" انتحاري، بتكلفة وصلت إلى مليار دولار، لكنَّ الخسائر الكبيرة الّتي تعرّضت لها القوات البحرية للحلفاء خلال معاركها مع اليابانيين والألمان في العامين 1943 و1944، دفعت إلى تقليص العدد المستهدف من هذه "الدرونز" والاستعجال في تصنيعها. وكانت النتيجة هي ابتكار "الدرون" الانتحاري "تي دي أر-1"، المصمّم لحمل قنبلة جوية تزن طناً، والذي تمَّ تصميمه للإقلاع عن متن حاملات الطائرات، ومن ثم توجيهه باللاسلكي عبر طائرة مرافقة إلى هدفه. 

بحلول أواخر العام 1943، تم نشر 50 "دروناً" من هذا النوع على متن حاملات الطائرات الموجودة في المحيط الهادئ. وقد تم تنفيذ أول هجوم ناجح بهذه "الدرونز" في أيلول/سبتمبر 1944، واستهدف سفينة تجارية يابانية. وتبع هذا الهجوم 30 عملية ناجحة أخرى بها.

  • أواخر العام 1943 تمّ نشر 50
    أواخر العام 1943 تمّ نشر 50 "دروناً" من هذا النوع على متن حاملات الطائرات في المحيط الهادئ

نسخة من المقاتلة "أف 6 أف – هيلكات"

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، توقّفت لفترة المساعي الأميركية لإنتاج "درونز" انتحارية بشكل كمّي، لكن تم اعتماد فكرة تحويل القاذفات والمقاتلات المتقادمة إلى "درونز" انتحاريّة. بعد اندلاع الحرب الكورية، بدأ سلاحا البحرية والجو الأميركيان باستخدام المقاتلات المعدّلة "أف 6 أف – هيلكات" كدرونز انتحاريّة تحمل قنابل زنتها طن منذ مطلع العام 1952، لكن كان الجديد في هذه "الدرونز" أنها كانت مزوّدة بأجهزة بث تلفزيوني تتيح للطيارين المتحكمين بها من منصّة مرافقة (سفينة أو طائرة) رؤية الأهداف من منظور "الدرون" نفسه، لكن لم تحقق هذه الطائرات نجاحاً يذكر سوى في مهمة واحدة، فتراجعت الخطط الأميركية لتطوير هذا النوع من "الدرونز"، وانتعشت بدلاً منها برامج إنتاج الصواريخ والقنابل الموجّهة.

  • بعد اندلاع الحرب الكورية، بدأ سلاحا البحرية والجو الأميركيان باستخدام المقاتلات المعدّلة
    بعد اندلاع الحرب الكورية، بدأ سلاحا البحرية والجو الأميركيان باستخدام المقاتلات المعدّلة "أف 6 أف – هيلكات" كدرونز انتحاريّة

ظلَّت التوجهات العالمية في مجال صناعة "الدرونز" منصبّة على استخدامها كأهداف لتدريب الدفاع الجوي، أو تنفيذ عمليات الاستطلاع والمراقبة، لكن في منتصف التسعينيات، قصَّت "إسرائيل" شريط تطوير "الدرونز" القتالية عبر الذخيرة الجوالة "دليلة"، التي دخلت الخدمة في القوات الجوية الإسرائيلية في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وهي تطوير إسرائيلي للطائرة الهدفية الأميركية الصنع "شوكار".

وقد كان هذا التطوير في البداية مرتكزاً على أن يكون في اتجاه الطائرات الهدفية نفسه، لكن تم تعديل هذا التطوير ليتحول إلى صاروخ جوال يبلغ مداه الأقصى 250 كيلومتراً، ويوجّه إما بالتوجيه الداخلي وإما عن طريق الـ"جي بي أس"، ويتميز بهامش خطأ ضئيل يبلغ متراً واحداً فقط، وبرأس حربي يبلغ وزنه 30 كيلوغراماً. منذ ذلك التاريخ، بدأ العديد من الدول بإنتاج "الدرونز الانتحارية" بمختلف أحجامها، وتمتلك هذه الأنواعَ من "الدرونز" حالياً 16 دولة حول العالم.

تجربة "الدرونز الانتحارية" في ميادين القتال

  • آخر الذخائر الجوالة التي تمَّ رصدها في تسليح
    آخر الذخائر الجوالة التي تمَّ رصدها في تسليح "أنصار الله" في اليمن، هي "الدرون الانتحاري" (قاصف-تو كيه)

نستطيع حصر تجربة "الدرونز القتالية" في ميدانين أساسيين، الأول هو ميدان كاراباخ، والثاني هو الميدان اليمني. في كاراباخ، استخدم الجيش الأذربيجاني الذخائر الجوالة الإسرائيلية الصنع "أوربيتر- 1 كي"، التي استهدفت بشكل مركّز قطع المدفعية والدبابات التابعة لقوات الدفاع عن الإقليم.

خلال الفترة ما بين العامين 2016 و2019، تسلّم الجيش الأذربيجاني مائة ذخيرة جوالة من هذا النوع، وقام بتصنيع أعداد منها محلياً تحت اسم "زيربا". وتحمل كلّ ذخيرة جوالة من هذا النوع ما بين 1 و2 كيلوغرام من المواد المتفجرة. وقد استخدمها الجيش الأذربيجاني بصورة خاصّة لاستهداف شاحنات نقل الذخيرة وأكداس قذائف المدفعية التي تكون ملحقة بمرابض مدفعية الميدان. وقد حقّقت هذه الذخائر إصابات مباشرة، لكن تم إسقاط أعداد كبيرة منها خلال المعارك.

استخدم الجيش الأذربيجاني أيضاً الذخائر الجوالة الإسرائيلية "هاروب" التي حصل على دفعة أولى منها تقدّر بـ50 طائرة ما بين العامين 2015 و2016. وقد تمَّ استخدام هذا النوع من الذخائر الجوالة من جانب الجيش الأذربيجاني سابقاً ضد مواقع الوحدات المدافعة عن الإقليم، وذلك خلال معارك نيسان/أبريل 2016. وحينها، كما في الجولة الحالية من المعارك، تم إسقاط عدد منها قبل الوصول إلى أهدافها. 

يتميَّز هذا النوع عن الذخائر الجولة الإسرائيلية الصنع الأخرى بحمولة كبيرة من المواد المتفجرة تقدر بـ16 كيلوغراماً، ومدى تحليق أكبر يصل إلى 200 كيلومتر. ويمتلك هذا النوع القدرة على التحليق المتواصل لتسع ساعات، والهجوم بأي زاوية على الهدف المراد تدميره. 

في الميدان اليمني، امتلكت جماعة "أنصار الله" عدة أنواع من "الدرونز الانتحارية"، منها "الدرون الانتحاري" (قاصف -1)، وهو مزود بمحرّك يعمل بالبنزين، ويوفّر له مدى يصل إلى 100 كيلومتر ومدة تحليق متواصل تصل إلى ساعتين، وتم تسليحه برأس متفجّر تصل زنته إلى 30 كيلوغراماً.

وقد استخدمت الجماعة هذا النوع من "الدرونز" في استهداف عدد من المواقع في الحد الجنوبي السعودي، مثل مقر شركة "أرامكو" قرب مدينة جيزان، ومطار "أبها" الإقليمي في مدينة عسير، كما استخدمتها في معارك محافظة تعز، وخصوصاً في منطقتي المخا وموشج.

وفي تموز/يوليو 2019، استخدمت الجماعة نوعاً جديداً من "الدرونز الانتحارية"، تحت اسم "صماد 2"، في استهداف منشأة تابعة لشركة "أرامكو" النفطية في الرياض. وتبع ذلك هجوم على مطار أبو ظبي باستخدام "درونز انتحارية" أخرى تحمل اسم "صماد 3". ويبلغ مدى النوعين 1500 كيلومتر، وزنة رأسهما الحربي تتراوح بين 70 إلى 100 كيلوغرام.

آخر الذخائر الجوالة التي تمَّ رصدها في تسليح "أنصار الله" في اليمن، هي "الدرون الانتحاري" (قاصف-تو كيه)، الذي تم استخدامه للمرة الأولى في كانون الثاني/يناير 2019، لاستهداف قاعدة العند الجوية جنوبي اليمن، ويتميّز بأنه لا يصطدم بشكل مباشر بالهدف، كما حال "الدرونز الانتحارية" المماثلة، لكنه عوضاً عن ذلك ينفجر فوق الهدف بمسافة تتراوح بين 10 إلى 20 متراً، ما يساهم في نشر الموجة التدميرية بطريقة أكثر فعالية.

المخاوف الأميركيَّة من مستقبل "الدّرونز الانتحارية"

  • سرّع البنتاغون مؤخراً برنامجاً بدأ في العام 2016، لإيجاد آليات للوقاية من هجمات الأسراب المسيّرة
    سرّع البنتاغون مؤخراً برنامجاً بدأ في العام 2016، لإيجاد آليات للوقاية من هجمات الأسراب المسيّرة

تصاعدت المخاوف الأميركية مؤخراً من النشاط الصيني المتصاعد في مجال إنتاج "الدرونز الانتحارية"، ليس بسبب الأنواع التي تنتجها بكين فقط، بل أيضاً بسبب استراتيجية "الأسراب" التي تنتهجها الصين في تقنيات تشغيل هذه الدرونز، ففي أيلول/سبتمبر الماضي، أجرت بكين تجربة لإطلاق 48 "دروناً انتحارياً" من قاذفة مثبتة على عربة مدرعة، إلى جانب تجارب أخرى لإطلاق هذه "الدرونز" عن متن مروحيات.

هذه التّجارب هي الموجة الثالثة من سلسلة تجارب بدأتها شركة "كايت" الصينية في حزيران/يونيو 2017، لإطلاق أسراب من "الدرونز الانتحارية"، وهو ما تراه الولايات المتحدة خطراً جدياً، وخصوصاً لو تمَّ تطبيق هذه النظرية على متن القطع البحرية، لأنَّ التصدي لأسراب كبيرة من "الدرونز القتالية" سيكون أمراً بالغ الصّعوبة.

هذه المخاوف تزايدت أكثر في أوائل تشرين الأول/أكتوبر الماضي، حين أعلن مركز الأبحاث الروسي "زاسلون" عن بدء الاختبارات على إطلاق "درونز انتحارية" من حاويات إطلاق الصواريخ غير الموجهة، المثبتة على مروحيات النقل والمروحيات القتالية، من مثل "مي 17" و"كا 52" و"مي 35".

لهذا، سرّع البنتاغون مؤخراً برنامجاً بدأ في العام 2016، لإيجاد آليات للوقاية من هجمات الأسراب المسيّرة، سواء كانت "درونزاً انتحارية" بحرية أو جوية، إذ يستهدف البرنامج الخاصة بالبحرية حماية القطع البحرية الرئيسية، مثل حاملات الطائرات، من تهديدات "الدرونز الانتحارية" بجميع أنواعها، وذلك عن طريق اكتشاف وتحديد الخوارزميات التي يتم اتباعها للتنسيق بين "درونز" السرب الواحد، ومن ثم السيطرة عليها أو التشويش عليها، لتفقد التوجيه أو تفقد الاتصال بمحطات التحكم، وهو برنامج ما زال في مراحله الأولى، ولكن التطورات الأخيرة في التسليح الصيني والروسي في مجال "الدرونز"، والدروس المستفادة من الحرب البحرية والجوية في اليمن، تدقّ أكثر من ناقوس خطر أمام البحرية الأميركية.