قمة العلا.. آخر ألعاب كوشنير
خطوة جديدة لإدارة ترامب في الخليج. مصالحة سعوديّة إماراتيّة قطريّة مريبة في توقيتها ومقاصدها، فما الذي تطمح إليه واشنطن وحلفاؤها اليوم على وقع التهديدات والحشود العسكرية والتّهويل السياسيّ والدبلوماسيّ؟
-
ترك كوشنير كلّ الأحداث البالغة الخطورة التي تشهدها أميركا ليحضر في العلا زعيماً
ليس من قبيل المبالغة القول إنَّ جاريد كوشنير، صهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، تزعّم القمة الخليجيّة في مدينة العلا السّعودية. وقبل القمة وبعدها، أسئلة كثيرة باتت تطرح حول الحراك الجديد الّذي تشهده المنطقة الخليجية منذ أشهر.
حركة إعلان اتفاقيات التطبيع التحالفية بين بعض الدول العربية في الخليج والكيان الإسرائيلي رافقتها ضغوط من كل حدبٍ وصوب تعرضت لها حركات المقاومة الفلسطينية للسير في ركب التطبيع، ورفضتها مجتمعةً، ثم توالت الضغوط على حركات المقاومة الأخرى في لبنان والعراق، بالتزامن مع ضغوات مالية وسياسية وأمنية على المؤسسات الرسمية في كلٍ من إيران والعراق وسوريا ولبنان.
بعدها، تزايدت الضّغوط من خلال الحشودات العسكرية في غير مكان من المنطقة، وخصوصاً في الخليج، وما تزال التهديدات الدبلوماسية المتعاظمة تلوح بشنّ اعتداءاتٍ عسكرية على دول المنطقة المتمسكة بخيار المقاومة.
ومع انطلاقة العام الجديد، كانت القمة الخليجية في العلا مناسبةً ملائمة للأميركيين لتعزيز جهود توحيد الموقف الخليجي لاستثماره تالياً في خدمة المصالح الأميركية والإسرائيلية، لكن النقطة الأكثر بروزاً في هذا المشهد المستجدّ كانت عودة التواصل السعودي-القطري على أعلى المستويات، ومشاركة أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني في القمة، ولقاءه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، مع إخراجٍ مسرحي رافق هذا اللقاء من خلال عرض جولة لهما في سيارةٍ واحدة، فإلى أية مقاصد تشير التطورات المريبة التي تجري في الخليج؟ وكيف يمكن لها أن تتطور؟ ما هي السيناريوهات المنتظرة الآن؟ وكيف تستجيب قوى محور المقاومة لكل ما يجري؟
مبادرة كويتية أم أمر أميركي؟
بعد انفجار العلاقات السعودية الإماراتية مع قطر قبل سنوات، تدخَّلت الكويت في أكثر من مناسبة لمحاولة رأب الصدع الذي أحدثته الخلافات الخليجية في منظومة العمل في مجلس التعاون الخليجي من جهة، وفي ارتداداتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بين شعوب هذه الدول من جهةٍ ثانية، لكن هذه الجهود فشلت مرةً بعد أخرى في تطويق الخلافات أو في التوصل إلى لقاءاتٍ مباشرة على مستويات عليا بين مسؤولي هذه الدول على الأقل، بل إن التطورات التي رافقت هذا الفشل كانت تعمّق فجوة الخلاف شيئاً فشيئاً، حتى أوصلت إلى قطيعة كاملة وحصار متعدد الأوجه من قبل الإمارات والسعودية لإمارة قطر.
واليوم، لم تتغير المعطيات البينية الثنائية أو الثلاثية بين القوى المتناحرة، فالإمارات والسعودية لم تتراجعا عن مواقفهما المتوترة ضد الدوحة، بل تابعتا حتى اللحظة الأخيرة نهجهما المتمثل بالتقليل من قيمة الإمارة الصغيرة، ومحاولة عزلها عن المنظومة الخليجية، واتهامها بكل الاتهامات التي من شأنها استفزاز الأميركيين ودفعهم إلى التشكيك ببقاء قطر ضمن صفوف حلفاء أميركا في المنطقة.
في المقابل، لم تتراجع قطر عن أي من مواقفها تجاه الأزمة، وهي التي شعر قادتها بالمهانة طوال الأشهر الطويلة التي مرت من عمر الأزمة الخليجية. لقد تم التعاطي مع قطر وقادتها على أنهم من مرتبة أقل شأناً من بقية الخليجيين، وهذا ما دفعها إلى تعزيز آليات التأقلم مع الحصار والتعود على الضغوطات المصاحبة له.
إنَّ هذا الثبات العنيد من قبل الطرفين على موقفيهما يقود إلى الاستنتاج بصحّة استبعاد فاعلية المبادرة الكويتية عن التأثير في حدث المصالحة، الأمر الذي يدفع إلى البحث عن الأسباب الحقيقية التي أوصلت إلى الصورة الجامعة التي ضمَّت قادة الدول المتناحرة في قمة "العلا".
لم تكن الإجابة عن ذلك صعبة لمتابعي التصريحات الأميركية في الآونة الأخيرة، إضافة إلى اللقاءات المكثفة التي تولاها كوشنير في المنطقة خلال التحضير للقمة. وعند انعقادها، اتخذ كوشنير لنفسه مقعداً مشرفاً من فوق على سلوكيات الأمراء المجتمعين، يمكّنه من مراقبة أي خلل في الالتزام من قبل أي من الأمراء المتوترين والضامرين الخصومة لبعضهم البعض، من خلال ما ظهر على الشاشات وفي الإعلام والوكالات المتناغمة مع مراد مستشار الرئيس الأميركي المقبل على نهاية ولايته في العشرين من كانون الثاني/يناير الحالي.
لماذا الآن؟ وما الأهداف الحقيقية من المصالحة؟
-
اتخذ كوشنير لنفسه مقعداً مشرفاً من فوق على سلوكيات الأمراء المجتمعين
لقد كان لافتاً حضور محمد بن سلمان القمة وترؤسها بدلاً من والده الملك سلمان بن عبد العزيز، الأمر الذي يعتبر خطوةً إضافية ذات مغذى في مسار تمكينه من السيطرة على مفاصل الحكم في المملكة. ويحمل هذا التطور معاني مرتبطة بالتوازنات السعودية الداخلية التي باتت ترجّح كفة ابن سلمان بشدة على منافسيه المتراجعين شيئاً فشيئاً خلف تقدمه إلى واجهة الأحداث، وخصوصاً بعد خسارة دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة وقرب رحيله من البيت الأبيض، وهو الرئيس الذي بنى معه ابن سلمان مشروعه لقيادة المملكة، بكل ما تضمنه ذلك من تنازلات وتقديمات سياسية ومالية وسيادية لتحقيقه.
لقد دفع ابن سلمان لترامب كل ما يستطيع مسؤول طامح للزعامة دفعه من مال السعوديين، ومما لا يملكه هو ولا تملكه بلاده حالياً، إذ إنَّ مبلغ نصف ترليون دولار الذي عكسته بلّورة سلمان وترامب الشهيرة لم تكن كلها أموالاً متوفرة في خزائن المملكة، بل إن أغلبها أموال وأصول مرتقبة في السنوات المقبلة. دفع الملك سلمان وابنه على طاولة البوكر الترامبية ما يمكن وصفه برهان "كل شيء" (All In)، ليصلا اليوم إلى خطر رحيل مدير الطاولة عن كازينو القمار الأميركي الذي أدار ترامب علاقاته الخليجية على وقعه وبعقليته.
من جانب آخر، وبمعنى مرتبط بالداخل الأميركي، ترك كوشنير كلّ الأحداث البالغة الخطورة التي تشهدها أميركا هذه الأيام ليحضر في العلا زعيماً وقائداً للتطورات الحالية في المنطقة. احتجاجاتٌ شعبية مناصرة لترامب في واشنطن، وكوشنير يدير دفة الخليج في اللحظة نفسها. إذاً، لا بد من وجود ما يستحق التبحّر فيه لسبر أغواره، ولا بد لذلك من أن يكون بالغ الأهمية للرئيس الأميركي، ولـ"إسرائيل" قبل ذلك وبعده.
ملفان لا ثالث لهما قد يستحقان هذا التخصيص وهذا الاهتمام الاستثنائي، أولهما توسيع مروحة التطبيع التحالفية بين الدول العربية و"إسرائيل" لتشمل قطر وبقية الدول الخليجية المترددة، وثانيهما زيادة الضغوط على إيران، وصولاً إلى إجبارها على التراجع أمام الضغوط المحيطة بها، وذلك من خلال تحويل الحصار من وجهته التي كانت تطوق قطر، إلى محاولة حصار إيران وتطويقها بتحالف خليجي-إسرائيلي ترعاه أميركا، ويفرض الرئيس المنتهية ولايته من خلاله شروط الأمر الواقع الجديد على خلفه الرئيس المنتخب.
كيف تستجيب إيران؟
إنَّ الهدف الأميركي الثاني يريد فكّ طوق قوى المقاومة عن "إسرائيل"، وذلك من خلال تطويق عمق هذه القوى المتثمل بإيران، وإلهائها بمحاولة الدفاع عن حدود مجتمعها، وهي التي ما تزال تصرف جلّ جهودها في دعم قوى التحرر العربية من هيمنة "إسرائيل" وطغيانها.
لقد عبّر ابن سلمان في خطابه عن هذه المقاربة المنطلقة بزخم، من خلال حديثه عن البرنامجين النّووي والصّاروخي لإيران، ووصفه مشاريع هذه الأخيرة في المنطقة بالمشاريع "التخريبيّة"، وإضافته أنَّ هذه المشاريع والبرنامجين المذكورين تُشَكِّل كلها تهديداً للأمن والسّلم الإقليمي والدولي، وإشارته الضمنية إلى ضرورات الاتحاد في مواجهة إيران.
إن التحشيد العسكري المتصاعد منذ أسابيع في منطقة الخليج، من خلال حاملات الطائرات والغواصات وطائرات "B52" الأميركية ذائعة الصيت في تدمير الأحياء السكنية في العراق وأفغانستان، تحاول كلّها زيادة منسوب الضغط على طهران لتتراجع عن مواقفها السيادية، وعن نهجها المتمثل بالوقوف إلى جانب حركات المقاومة من العراق واليمن، وصولاً إلى سوريا ولبنان وفلسطين.
لحضور كوشنير في ظلّ هذه الظروف إشارات كبيرة، فهو عراب التحالفات الجديدة المعلنة بين "إسرائيل" وبعض الدول العربية، وهو مهندس العقوبات التي تلاحق كل المقاومين وحلفائهم عبر المنطقة، وهو عين "إسرائيل" في إدارة ترامب، والحريص على تحقيق أهداف تل أبيب من الإدارة الأميركية قبل رحيلها واستبدالها بإدارة تحمل مقاربات خاصة بها، وقد تكون مختلفة باختلاف مصالحها عن الإدارة الترامبية.
ومع تأكيد قدم التواصل الإسرائيلي العربي المستهدف لمحور المقاومة، لم يترك كوشنير أمام الأطراف المُشاركة في قمة العلا أيّة خيارات أخرى لاعتِمادها، لكن أبعد من ذلك، فقد تكون طموحات كوشنير مصوبةً على تحقيق هدف ضرب إيران في هذه اللحظة المصيرية من عمر المنطقة من جهة، ومن الصراع السياسي العميق الذي تشهده أميركا من جهة ثانية.
إنها لحظة يرى فيها كوشنير والإسرائيليون، ومعهم ترامب، فرصةً قد لا تعوض لاستهداف إيران من ناحية، وتمديد رئاسة ترامب تحت سطوة الحرب من ناحيةٍ ثانية، فالدستور الأميركي يتيح للرئيس صلاحيات استثنائية في حالة الحرب، وهي إن تمت ستؤجل رحيله عن البيت الأبيض تحت حجة الظروف الاستثنائية التي تستوجب بقاء الرئيس في مكتبه، وفي الوقت نفسه تجنّبه الحاجة إلى موافقة الكونغرس إذا ما تمت، كاستجابة لتعرّض الجنود أو المواطنين أو المصالح الأميركية للخطر، وهو ما يشكّل فرصة لإدارة ترامب لتحقيقه، من خلال الاستفزازات الخطرة التي تعرضت لها إيران في الأسابيع الأخيرة، وأبرزها اغتيال العالم النووي محسن فخري زادة.
لقد حاولت أميركا وحلفاؤها من خلال هذه الاستفزازت دفع إيران إلى الرد بما لا يتناسب مع توقيتها لإدارة مصالحها، ولتحقيق الحجة المبرئة لمسؤولية ترامب في أي اعتداءٍ ينوي عليه، أو يحاول الفريق الإسرائيلي في إدارته تزيينه له، وذلك من أجل فتح الأجواء والحُدود البريّة والبحريّة بين الدول الخليجية، لتسهيل تحرّكات الطّيران الأميركي وربّما الإسرائيلي فوق الجزيرة العربيّة، وانطِلاقاً من القواعد الأميركيّة، لضرب البرامج النوويّة والصاروخيّة والبنى التحتيّة الإيرانيّة في أيّ عدوانٍ جديد يُحَضِّر له ترامب ونتنياهو المأزومان داخلياً.
لقد كان الرد الإيراني على ذلك بالغ الدلالة وبعيد التبصّر، فبخلاف المأمول عند قوى الحصار الأميركية والإسرائيلية والخليجية، ذهبت إيران في خطوة بعيدة إلى الأمام، فزادت من نقاء تخصيب اليورانيوم حتى حدود 20%، أي إلى المستوى الأقصى الذي وصلت إليه قبيل التوصل إلى الاتفاق النووي مع الدول الست في العام 2015، في ظل رئاسة الرئيس الأميركي حينها باراك أوباما.
وعلى وقع ذلك، كان لافتاً وعميقاً في معناه إحياء الذكرى الأولى لاغتيال القائدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس في عواصم المقاومة الممتدة من بغداد واليمن وسوريا ولبنان والعراق وفلسطين، إلى الصحارى والقرى والمدن التي سار في جنباتها القائدان وهما يطاردان فلول الإرهاب التكفيري وعملاء أميركا و"إسرائيل" والقوى الحليفة لهما.
لقد كانت هذه استجابة محور المقاومة للتهديدات والظروف والضغوطات ومسارات التطبيع والتحالف من جهة، ولعملية الاغتيال بحد ذاتها من جهة ثانية. المزيد من علامات القوة والاستعداد والإصرار على الموقف والمشروع الذي تظلّله راية القضية الفلسطينية أولاً وأخيراً.