الصين وإيران: تقاطع استراتيجي لربع قرنٍ مقبل
الاتفاق الاستراتيجي بين الصين وإيران يمثل معطى مفصلياً في سياق مواجهة الدولتين مع الولايات المتحدة. كيف تنظر الأطراف المعنيّة إلى الاتفاق؟ وأين تكمن الفوائد والمخاطر؟
-
روحان يستقبل وزير الخارجية الصيني وانغ يي في القصر الرئاسي بالعاصمة طهران 27 آذار 2021 (أ ف ب).
في لحظةٍ فريدة من تاريخ الشرق الأوسط، تحكمها تطورات دراماتيكية متقابلة بين واشنطن وحلفائها من جهة، ومحور المقاومة بقيادة إيران من جهةٍ ثانية، وعلى وقع احتدام التنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، جاء الإعلان عن توقيع اتفاقية التعاون الاستراتيجي بين إيران والصين ليشكل حدثاً لافتاً ومهماً في سياق تطور العلاقات الدولية بصورة عامة، وتعمّق التقاطعات الاستراتيجية بين القوى المناهضة للهيمنة الأميركية على العالم بصورةٍ خاصة.
البيئة الاستراتيجية والإطار الجيوبوليتيكي
ومع تراكم المعطيات المتعلقة بتحولات التركيز الاستراتيجي الأميركي من ناحيتي مصادر التهديد وتوزّعها الجغرافي، تتعدد معاني الخطوات الأميركية المتتالية، لتتمحور بصورةٍ متزايدة حول محاولة تطويق الصين في شرق آسيا، للحد من قدراتها على إدارة سياسة عالمية أكثر نفوذاً، ستشكل عند اكتمالها تهديداً حقيقياً لنفوذ الولايات المتحدة العالمي.
في ظلّ هذه البيئة الدولية المتوترة، وبعد الانتكاسات المتكررة التي واجهتها سياسة "الضغوط القصوى" التي أطلقها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ضد إيران، أتى الإعلان عن اتفاقية التعاون الاستراتيجي بين إيران الصامدة في وجه حصار شديد والصين المواجهة لحرب تجارية لا تقل شدةً، وهي اتفاقية استراتيجية طويلة الأمد تصل إلى 25 عاماً، بقيمة تقديرية تبلغ حوالى 400 مليار دولار، ستكون بالضرورة مصدراً رئيساً لتولّد أحداثٍ ومواقف غير سارّة بالنسبة إلى واشنطن.
هذا من ناحية البيئة الحاكمة لولادة الاتفاقية. أما من ناحيتي التوقيت والشكل، فإن ورود الاتفاقية في سياق زيارة وزير الخارجية الصين يوانغ هيي لطهران في الأسبوع الأخير من آذار/مارس، شكّل تتويجاً للمسار الذي انطلق مع زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ لطهران في العام 2016، حين بدأ البحث في إطار استراتيجي للتعاون بين الدولتين، ضمن سياقين من المصالح مرتبطين بكل واحدة منهما.
في الجانب الصيني من الاتفاقية، تشكل النقلة الصينية الجديدة (توقيع الاتفاقية) على رقعة شطرنج الشرق الأوسط قفزة مهمة لضم قوة إقليمية شديدة التأثير قد تكون حاسمة في رفد مشروع "الحزام والطريق" (الجزء المتعلق بالطريق تحديداً) نحو أوروبا بأسباب إضافية للحياة. كما تشكل الاتفاقية انخراطاً صينياً متزايداً في مسائل الشرق الأوسط التي بقيت بعيدة عنها نسبياً لفترات طويلة على المستوى السياسي.
بهذا المعنى، يأتي اختيار إيران كشريكٍ مناسب، إذ تقف الأخيرة على كتف المنطقة الممتدة على خطٍ عريضٍ من الهند إلى المنطقة المغاربية، وبحزام تأثير يتقوس من الخليج وبحر العرب، ليدور محيطاً في مضيقي هرمز وباب المندب، وصولاً إلى دول شمال أفريقيا، شاملاً شرق المتوسط كله، وحاضناً في قلب تفاعلاته القضية الفلسطينية ومساحات الاشتباك المرتبطة بها.
وفي السياق الاستراتيجي نفسه، جاءت الاتفاقية في لحظة ومكان التوتر الأميركي السعودي من جهة، والتحفز الصيني لمزيدٍ من الشبك مع دول الخليج العربية المتحالفة تاريخياً مع واشنطن من جهة أخرى، وهو ما يعطي معاني إضافية لاستكمال وزير الخارجية الصيني زيارته الإيرانية التي وقّع خلالها الاتفاق، لتشمل عدة دول، بما في ذلك السعودية والإمارات والبحرين وعمان وتركيا.
الاتفاقيّة في سياق المواجهة الأميركيّة - الصينيّة
لقد أعقب الإعلان عن الاتفاقية لقاء أميركي صيني في ولاية ألاسكا، خرجت منه أجواء سلبية زادت من توتر العلاقات الثنائية التي تتعقد مركّباتها من إدارة أميركية إلى أخرى. وعلى الرغم من وصول هذه العلاقات إلى أسوأ ظروفها مع سياسة الحرب التجارية التي شنّها ترامب على الصين، لم يخفّف وصول بايدن إلى البيت الأبيض شراسة المواجهة بين الجانبين، بل زاد الرئيس الأميركي الجديد منسوب التوتر بأسلوبه الذي يستعيد استراتيجية الاحتواء ويعيد توجيهها، ليس نحو الصين فحسب، بل نحو روسيا أيضاً، وبصيغة غير جديدة، لكنها جادة تماماً.
من الناحية الصينيّة، إنَّ المشروع الاستراتيجي الكبير الذي تجري في مساراته الاتفاقيات المماثلة للاتفاقية مع إيران، وهو "الحزام والطريق"، يواجه تهديدات متنوعة من الجانب الأميركي. أبرز هذه التحديات يمكن تلخيصه ضمن عنوانين كبيرين: تحدٍ اقتصادي متمثل بمشروع طريق الحرير الأميركي في آسيا الوسطى، ومحاولات واشنطن زيادة نفوذها في دول تلك المنطقة، لتشكيل حاجز جيوسياسي يقطع أوصال مشروع "الحزام والطريق"، ويكون عازلاً بين موسكو وبكين من جهة، وطهران وبكين من جهة ثانية، وتحدٍ أمني يتمثل بوجود مشروع "الحزام والطريق" في فضاء أمني تحكمه واشنطن بنسبة تأثير عالية جداً، مع وجود حركة نفوذٍ وتأثير لقوى أخرى على مساره، تعد إيران أبرزها.
ومن محيط الصين في بحر الصين الجنوبي، إلى الحدود الصينية الهندية، مروراً بحركة التجارة في الخليج وبحر العرب، وصولاً إلى أمن الشرق الأوسط، ما تزال واشنطن الأكثر قدرة على زعزعة أمن الخط الذي سوف تقع فوقه مشروعات البنى التحتية والتقاطعات الاقتصادية المندرجة ضمن مشروع "الحزام والطريق".
بهذا المعنى، يمثل التعاون الاستراتيجي مع إيران شبكاً مفيداً جداً مع قوةٍ قادرة على طلب التوازن في وجه الهيمنة التاريخية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. إضافة إلى ذلك، تمثل واردات النفط والغاز الإيرانيين إلى الصين مصلحةً حيوية تضاف إلى الواردات المماثلة من روسيا، والمندرجة ضمن اتفاقية مماثلة وقعتها كل من موسكو وبكين قبل سنوات قليلة بقيمة 500 مليار دولار، لتشكل الاتفاقيتان معاً مصدر أمان طاقوي للمشروع الصيني الهائل المتوثّب نحو قمة العالم بحلول منتصف القرن الحالي.
ومع الأمن الطاقوي، تسعى الصين باتفاقياتها الاستراتيجية مع كل من طهران وموسكو إلى تعميق العلاقات بقوتين تتفوقان عليها في القدرة الواقعية على مواجهة الولايات المتحدة سياسياً وعسكرياً، وهما تفعلان ذلك منذ سنوات في جورجيا وأوكرانيا وسوريا والعراق ومواقع أخرى عديدة، وبنسب متفاوتة ومتقلّبة.
في هذا السياق المستمر في التفاعل، والباحث عن فرص كبيرة للمستقبل، وحماية من مخاطر الحاضر المتأتية من مرونة الولايات المتحدة وقدرتها على تنويع الأهداف والأساليب وتغييرها وابتكار الحيل والمؤامرات، وإبداعات واشنطن في الإشغال الداخلي وتحريك الساحات تحت عناوين قيميّة براقة، زار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بكين، وتبادل الرئيس الصيني الرسائل مع نظيره زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، وزار وزير الخارجية وانغ طهران في غضون أيام بعد اجتماع ألاسكا. هي إذاً حركة مصالح تتسارع لاستباق خطوات واشنطن التالية الطامعة في تفتيت أواصر هذه العلاقات، قبل أن تتحول إلى تحالف محوري متين وقوي.
لكن حتى الآن، ما تزال بكين غير ناشطةٍ بدور سياسي موازٍ لدورها الاقتصادي في الشرق الأوسط. لقد مثل ذلك على الدوام نقطة قوة، لكن مع محاولات واشنطن لتشديد الخناق حول الصين نفسها، فإن قصور الأخيرة عن أداء دور سياسيٍ فعال في قضايا ذات طابع عالمي سوف يتحول إلى معطى سلبي يمنعها من ذلك في ما بعد. وما لم تدافع الصين عن أمنها القومي بالسياسة والدبلوماسية والانخراط في أحداث العالم أكثر فأكثر، فستضطر إلى الدفاع عنه على حدودها وفي الداخل.
أما من ناحية الاستجابة الأميركية لحدث توقيع الاتفاقية بين بكين وطهران، فقد جاء التصريح الأول من المتحدثة الرسمية باسم البيت الأبيض، جاين ساكي، التي قالت: "سننظر ما إذا كانت هناك عقوبات يمكن تطبيقها بعد الشراكة بين الصين وإيران، لكننا لم نطّلع بعد على تفاصيل الاتفاقية بينهما".
من هنا، وعلى الرغم من بقاء البنود التفصيلية للاتفاقية طيّ الكتمان في جعبة الدولتين المعنيتين، سارع الإعلام الأميركي إلى الحديث عن بنودها وادعاء كشفه لها، فنشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تفاصيل قالت فيها إن الاتفاقية الموقعة يمكن أن تعمّق نفوذ الصين في الشرق الأوسط، وتقوّض الجهود الأميركية لإبقاء إيران معزولة، وإنها تعكس طموح الصين المتزايد لأداء دور أكبر في منطقة كانت تمثل الشغل الشاغل للولايات المتحدة لعقود.
ونقلت عن "خبراء" قولهم إنها لم تتغير إلى حد كبير عن مسودة من 18 صفحة حصلت عليها الصحيفة نفسها العام الماضي، وهي تتحدث عن 400 مليار دولار من الاستثمارات الصينية في عشرات المجالات، بما في ذلك البنوك والاتصالات والموانئ والسكك الحديدية والرعاية الصحية وتكنولوجيا المعلومات على مدى السنوات الـ25 المقبلة، على أن تحصل الصين في المقابل على إمدادات منتظمة، وبأسعار مخفضة جداً، من النفط الإيراني، إضافة إلى تعميق التعاون العسكري، بما في ذلك التدريبات المشتركة، والبحوث المشتركة، وتطوير الأسلحة، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، على حد تعبير "نيويورك تايمز"، التي اعتبرت أن الصين مستعدة أيضاً لاستضافة المحادثات المباشرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، في تلميح إلى أن الهيمنة الأميركية في المنطقة أعاقت السلام والتنمية.
الكيان الإسرائيلي تحسس الخطورة التي ينطوي عليها الاتفاق بالنسبة إليه، فعبّرت الصحافة ومراكز الأبحاث عن هواجس المسؤولين والقيادة السياسية فيه، إذ أوصى "معهد أبحاث الأمن القومي" في تل أبيب بمجموعة خطوات رسمها رئيس دائرة التخطيط الاستراتيجي في شعبة التخطيط في "الجيش" الإسرائيلي، العميد أساف أوريون، ودعا إلى ضرورة الحفاظ على متابعة استخبارية منظّمة وممنهجة للعلاقات الصينية-الإيرانية، لما قد يترتّب عليها من تطوُّر للتهديدات على "إسرائيل". كما شدد على ضرورة إطلاق حوار رفيع المستوى مع الصين، للإعراب عن مخاوف الكيان من التهديد الذي تُمثّله إيران.
الاتفاقية بعيون إيرانية
بالنسبة إلى طهران، تمثل الاتفاقية الاستراتيجية مع الصين سبيلاً مناسباً لكسر الحصار الأميركي الذي طال وفرض ضرورات كثيرة لا يمكن تجاوزها من أجل تحقيق هدفها الأسمى، وهو تحقيق استمرارية مشروعها الرامي إلى بناء القدرات الوطنية على المستويات الاقتصادية والعلمية والدفاعية، وتطوير البنى التحتية التي تتأثر بظروف الحصار الأميركي.
وتستطيع طهران مع الاتفاق الجديد أن تتطلع إلى مرحلة جديدة مع بدء تنفيذ مندرجاته بنمط تصاعدي في الأشهر والسنوات القليلة المقبلة؛ مرحلة تستفيد فيها من التعاون مع الصين لتعزيز قدراتها التقنية والتكنولوجية، وهي حاجة ماسة بالنسبة إلى طهران اليوم، وخصوصاً لناحية تطوير قطاعاتها المختلفة بعد تقاعس الأوروبيين عن تنفيذ حصتهم من الالتزامات التي خرجت عن الاتفاق النووي الذي وقعته مع طهران في العام 2005. من ناحية أحرى، تستطيع إيران أن تستفيد أيضاً من عائدات النفط والغاز الذي ستصدّره إلى الصين بموجب الاتفاق الجديد.
على المستوى السياسي، سيشكّل دخول الصين المتحفظ إلى قضايا المنطقة، استناداً إلى تعمّق أواصر العلاقات مع طهران وموسكو، أسباباً إضافية لقوة موقف طهران التي تشكل رأس حربة القوتين الأُخريين البعيدتين في المنطقة، فطهران هي الدولة المضطلعة بدور المواجهة الفعلية في الميدان، وعلى صفحة مياه الخليج، وحول القواعد الأميركية في المنطقة، فضلاً عن طبيعة نظامها الذي يمكن الوثوق بثباته (من قبل الصين وروسيا) على الموقف المناهض للهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط بصورة خاصة، وعلى مستوى النظام الدولي بصورة أكثر شمولاً.
في المحصلة، لا بد من بقاء هواجس وطنية عند الطرفين من تفاعلات الاتفاق، لكن الفوائد المختزنة لكل منها في أوراقه، وطبيعة التهديدات الأميركية للأمن القومي للدولتين، يمثلان ركيزتين أساسيتين لتنفيذ ثابتٍ ومفيد لهما استراتيجياً.