العالم العربي بين الهوية القومية والإنتماءات المجهرية
قضايا هامة تطرحها الأحداث الجارية في العالم العربي منذ بداية العام الماضي، ولعل إحدى أهم تلك القضايا، موضوع الهوية القومية العربية، وكيفية الحفاظ على الإنتماء العربي الموحد في وجه مشروعات التفتيت.
شهدت المنطقة العربية منذ بداية القرن العشرين حالةً مستمرة من القلق الذي صاحب تطور مجتمعاتها التي انتقلت من العيش في ظل الحكم العثماني، إلى الإنتداب الغربي، ومن ثم إلى مرحلة ما بعد الإستقلال، مروراً باحتلال فلسطين وطرد شعبها وإقامة دولة "إسرائيل" على أرضها.
لقد أفرزت تقسيمات سايكس-بيكو مجموعةً من الدول التي تفصل بينها حدود لا تقوم على التمايز الحضاري، أو التاريخي، أو الثقافي.. بل إن هذه الحدود قامت أساساً على ضرورات تخطيط المصالح الغربية في تلك المرحلة. وقد حققت تلك الإتفاقية (سايكس-بيكو) نجاحاً باهراً أدى إلى استمرار تقسيماتها لعقودٍ طويلة، على الرغم من تعارضها مع البيئة السياسية والثقافية للمنطقة ذات المكونات المتناسقة بحكم التاريخ والجغرافيا.
وخلال مرحلة الإنتداب الغربي للدول العربية التي أنشأها، عانت هذه الدول مشكلات ساهمت في عدم استفادتها من ثرواتها الطبيعية والبشرية، وأدت إلى ضياع فرص التنمية الإقتصادية وتطوير البنى السياسية لأنظمة الحكم فيها، ما أدى إلى بقائها متأخرة في التصنيفات الدولية في مختلف المجالات. وبعد الإستقلال عن سلطة الإنتداب وصل إلى الحكم في عددٍ من الدول العربية التي كانت منتدبة رجالات المؤسسات العسكرية التي قامت بانقلابات على النخب السياسية التي كانت توالي الدول المنتدبة. وقد أتى هؤلاء القادة العسكريين إلى الميدان السياسي مدفوعين بمساندةٍ شعبية رأت فيهم رموز قوة سيخرجون البلاد من حال الضعف المتراكم منذ أيام الحكم العثماني، وعلقت الشعوب عليهم آمالاً ما لبثت أن بدأت تتلاشى بالتوازي مع تراجع الإهتمام الرسمي العربي بالقضية الفلسطينية ومسارعة دول عربية عدة إلى توقيع "اتفاقيات سلام" منفردة مع إسرائيل من جهة، يقابل ذلك من جهةٍ أخرى تحول النظم السياسية التي قادها هؤلاء إلى أنظمة توارث سياسي، في ظل تراجع المستوى المعيشي للشعوب نتيجة فشل السياسات الإقتصادية والإجتماعية واهتراء بنية الدولة وتفشي ظواهر الفساد وسوء الإدارة.
لقد أدت العقود المتتالية طوال القرن العشرين إلى تراجع الإيمان بالإنتماء للهوية العربية عند شرائح واسعة من العرب، وذلك نتيجة للشقاق الدائم في المواقف الرسمية العربية، وفشل جامعة الدول العربية والدول المنضوية في إطاره في بناء نظام أمن قومي عربي يحاكي تطلعات الشعوب.
ومن نافل القول أن للقوى الكبرى في العالم مصلحة في الإبقاء على الخلافات السياسية بين الدول العربية واللعب على تناقضاتها، لإحكام سيطرتها على المنطقة ذات الاهمية القصوى استراتيجياً بالنسبة لها. وفي هذا السياق بدأت الولايات المتحدة الاميركية وتحالفها الغربي بعد أحداث 11 أيلول-سبتمبر 2001 سياسة تتعمد ضرب الأفكار الوحدوية في الدول التي لم توقع إتفاقيات سلام مع إسرائيل، بداية من حرب العراق ووصولاً إلى "الثورات" و"الإحتجاجات" التي يشهدها العالم العربي منذ بداية عام 2011.
القضية الفلسطينية: بوصلة الشعوب الدائمة
إن القضية الفلسطينية على الرغم من كل المكائد التي تعرضت لها من كل صوب، بقيت تعبر على الدوام عن الهوية العربية الواحدة، حتى في ظل الأنظمة التي تخلت عن دعم المقاومة الفلسطينية وفتحت علاقات مع إسرائيل. لقد عبرت الشعوب في الدول العربية خلال الحراك الذي تشهده هذه الدول عن موقفها تجاه السياسة الخارجية لدولها، وتحديداً تجاه الصراع العربي-الإسرائيلي، وقد تجلى هذا التعبير من خلال الإحتجاجات التي قام بها شباب مصر للمطالبة بإقفال السفارة الإسرائيلية في مصر على سبيل المثال.
غير أن المطالب التي حازت الإهتمام الأبرز لدى القوى التي شاركت في الإحتجاجات في كل دول الحراك الشعبي، تركزت على الشؤون الداخلية. وقد ساهم في ذلك عوامل عدة، من أهمها الواقع الإقتصادي والإجتماعي السيء الناتج عن فشل السياسات الإقتصادية في هذه الدول، وهي سياسات لا تستوعب حاجات مجتمعاتها، الأمر الذي أنتج طبقة من الشباب الغاضبين العاطلين عن العمل، والذين شكلوا محركاً قوياً من محركات الحراك الذي يشهده العالم العربي، خاصة أن المجتمعات العربية هي مجتمعات فتية.
إن تعبئة الشارع العربي والدفع به إلى الميادين والساحات لإسقاط الأنظمة بدأ على خلفيات تتعلق بعدم حصول المواطن على الحقوق التي تتوجب على دولته من جهة، وعلى القبضة الأمنية المتشددة التي كانت تمارسها الدولة تجاه المواطن من جهة أخرى، بعيداً عن موضوع الهوية العربية الذي لم يكن مطروحاً على نطاقٍ واسع، ذلك أن الفهم الجماعي لشعوب الدول العربية ما زال يؤمن بانتمائه للهوية العربية بشكلٍ حاسم.
ومع نجاح ثورتي مصر وتونس بإزاحة نظامين كانا يوصفان بأنهما من أكثر الأنظمة الموالية للغرب في المنطقة، كان لا بد للدول الغربية صاحبة المصالح الدائمة في الشرق الأوسط من التحرك للحفاظ على مصالحها، وعليه فقد دخلت هذه الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية على خط الثورات العربية، في محاولة لاستيعاب التغيير الذي أطاح بحلفاء أساسيين في المنطقة. وقد كان الجهد الغربي منصباً على إظهار الدعم لعملية التحول الديموقراطي الجارية بغض النظر عن هوية القوى القادمة إلى الحكم في هذه الدول، وهو ما كان مستغرباً في البداية. وبعد أن بدأت الصورة بالإتضاح راسمة مشهداً جديداً تحوز أغلبيته القوى الإسلامية في مصر وتونس وليبيا، بدأت طموحات القوى الثورية والجماهير التي علقت آمالاً كبيرة عليها بالتراجع، وذلك نتيجة ظهور عقبات تتعلق بالإختلافات التي ظهرت بين هذه القوى حول النظرة إلى طبيعة النظام السياسي المزمع بناؤه، وبمطالبات دون وطنية لبعض هذه القوى، الأمر الذي سمح لدول خارجية أن تثير مخاوف لدى الأقليات الطائفية والعرقية في هذه الدول، كما ظهرت مطالبات جهوية أعادت النقاش السياسي في بعض البلدان إلى عقودٍ طويلة مضت.
قوى الإسلام السياسي: كل الخيارات صعبة
لقد استطاعت القوى الكبرى إدخال القوى السياسية الإسلامية التي صعد نجمها خلال الحراك وبعده في معركة محدودة الخيارات، حيث أرغمتها على الإختيار بين التماهي مع مشروعها السياسي في المنطقة، أو مواجهة المخاوف التي تعززها هذه الدول عند أصحاب الهويات الفرعية في دول الشرق الأوسط، وبالتالي إشغال الوافدين الجدد إلى السلطة بمجموعة من المسائل المستعصية التي لا تحل إلا بوجود راعٍ خارجي لها، ما يمنع عملية بناء الدولة من الداخل، ويستوجب رعاية أممية أو إقليمية عند كل تفصيل من تفصيلات الحياة السياسية الداخلية لهذه الدول.
ولا شك أن الفوضى التي تشهدها الدول التي حدثت فيها الثورات والإحتجاجات الشعبية تحتاج إلى وقتٍ طويل قبل أن يتم امتصاص آثارها، ويساهم الإعلام الموجه بشكلٍ كبير في تزكية الخلافات التي خرجت إلى العلن بعد سقوط الأنظمة، ذلك أنه يقوم بتحفيز الإنتماءات الفرعية على حساب الهوية الوطنية الجامعة. وفي ذلك مؤشرات تدل على تخطيط محكم لما يجري، فيتم إلهاء الرأي العام وقياداته عن الأهداف الاستراتيجية والحيوية لبلدانهم، بتوجيههم نحو أهداف ثانوية أو أقل أهمية، وتعزيز العقد الأقلوية على حساب الأفكار القومية، وحتى على حساب الهوية الوطنية.
إن المراقب للخطاب السياسي للقوى السياسية والهيئات الشعبية في الدول التي شهدت حراكاً شعبياً والذي رافق المرحلة الإنتقالية فيها، يرى بوضوح المسار الذي تأخذه هذه القوى في مطالبتها، نحو تفعيل الهويات الفرعية للديانات والمذاهب والأعراق والمناطق. خاصةً أن القوى التي شاركت بعملية قلب أنظمة الحكم السابقة تتألف من قوى المعارضة لتلك الأنظمة وبعضها عاش عشرات السنوات خارج بلاده، وليس لدى الشعوب معرفة تامة بوجهة المشروع السياسي لهذه المعارضات، كما يضاف إليها قوى عمالية ونقابات مصلحية يقتصر اهتمامها على الشؤون الحياتية الداخلية، وحركات إحتجاجية شبابية نشأت في أحضان شبكات التواصل الإجتماعي وتمت تغزيتها بعوامل البطالة والتهميش لسنوات عديدة، إضافةً إلى قوى سياسية ومجموعات ضغط ذات أرضية طائفية أو قبلية أو مناطقية، وهذه بالذات تشكل خطراً على تماسك الهوية الوطنية أمام سيل الفوضى الذي يعم بلاد العرب هذه الأيام.
الشعب أراد.. شيئاً مختلفاً
لقد انتظرت الشعوب عوائد مختلفة من نجاح الثورات والإحتجاجات ضد الأنظمة السابقة التي حالفت السياسات الأميركية أكثر من تحالفها مع مصالح الشعوب. كعودة الطاقات التي هاجرت أو هجرت إلى الخارج، وفيها الكثير من النخب العلمية والثقافية والشبابية، غير أن العوائد التي حصلوا عليها بالفعل كانت معاكسة في معظم الأحيان، لتتمثل بهجرة المزيد من هذه الطاقات، واستبدالها باجتذاب مجموعات من المقاتلين المتطرفين أصحاب الأفكار الإقصائية.
من هذا المنطلق، هناك مخاطر حقيقية مطروحة في المنطقة تهدد الإنتماء الوطني والقومي، كما تطال فرص النهوض بأفكار جامعة للأمة العربية مستقبلاً. وعلى الرغم من أن مثل هذه الأخطار التي قد تصل إلى تفتيت الكيانات السياسية القائمة وتحويلها إلى دول "ميكروسكوبية" تناصب بعضها البعض أشد العداء على خلفيات فئوية، غير أن الجهات التي تدفع بهذا الإتجاه تصطدم بدفاع شديد رافضٍ للتفتيت، في الوقت الذي تتجه فيه دول العالم إلى تشكيل تكتلات إقليمية أو عابرة للقارات.
مشروع التفتيت الذي يتزايد الحديث عنه، وتتزايد المؤشرات على جديته ليس محتوم التحقق. خاصة إذا ما تم القضاء على فرص حدوثه في سورية، وهذا بالتحديد ما يحدث هناك اليوم.