الولادة القاسية لعالم مُتعدِّد الأقطاب.. روسيا لم تغفُ طويلاً

مع انهيار المنظومة الاشتراكية في العالم، تحكّمت الولايات المتحدة الأميركية لعقود في صيوغ النظام العالمي، والنظام العالمي هذا لا يشمل ما هو اقتصادي فقط؛ أسعار الصرف، وربط العمليات التجارية بالدولار، والتصنيع، وقوانين التجارة، والعقوبات. بل يشمل هذا النظام كذلك، ما هو ثقافي واجتماعي، ومنها محاولات إعادة صوغ التراث في كل بلد، وإعادة نظرة الشعوب لتراثها وتاريخها وفنونها وعاداتها، ونظرتها لذاتها، وتشكيل هويتها في حال صدِام دائم ونزاع ذاتي خالص بين ما تعرفه هي، وما عايشته من جهة، وما دخل عليها من بوابة العالمي من جهة أخرى.

عقدان بعد انهيار المنظومة الاشتراكية لم تكن تعني فقط نظام القطب الواحد، كانت تعني أيضاً نظام القاموس الواحد، الذي احتكر التعريفات الخاصة بالمصطلحات والمفاهيم الكبرى، الحرية والديمقراطية، والعدالة والمساواة والتنمية، بنسخة واحدة غير قابلة للتأويل، ما يعني محاولة النظام الجديد آنذاك فرض حالته الأصولية على شعوب العالم أجمع من جهة فهمها لمعاني ودلالات هذه العناوين الكبرى.

في ظل هذا التفرّد عانت شعوب العالم الإفقار والتهميش، وحوّلها النظام العالمي إلى مختبرات تجارب في الزراعة والجينات والبيئة والسلاح والعمليات المالية وخطط إعادة الهيكلة.

الدول المستقلة التي تشكّل جوهر تعددّية الأقطاب اليوم، دخلت بدايات التسعينات متعبة، فالصين كانت ما تزال تعالج نفسها من التغييرات الفجائية في نمطها الاقتصادي والتي أحدثها دينغ شياو بينغ منذ 1978م، وأميركا اللاتينية تعيش أواخر حقبة اليمين والديكتاتوريات ككارلوس بيريز في فنزويلا، وإيران التي ما إن أنجزت ثورتها عام 1979م حتى أشغلتها الحرب. هذه المحاور التي دفعت العالم باتجاه تعدّد القطبية، عانت الكثير داخلياً قبل أن تغيّر شكل العالم، ومن تلك الدول طبعاً، كانت روسيا، التي خرجت عارية من منظومة ضخمة تفكّكت.

بعد هذا الانهيار الكبير تنبّأت كل من اللوموند والإيكونومست ومجلة الشؤون الخارجية الأميركية، أن روسيا الممزّقة تحتاج إلى 25 سنة، كي تزيل الضرر الذي أحدثه يلتسين، وكذلك توقّع بيل كلينتون.

قلق الغرب (2000- 2009)

يمكن القول أن ثمة ترميمات روسية ملحوظة حدثت في هذه الفترة على مستويات الاقتصاد والسياسية والاجتماع، وقد تكون هذه الترميمات هي التعبير عن "الاستثناء الروسي" في النهوض من الانتكاسات العميقة، وبسرعة...

وفي هذا السياق، أنجزت مؤسّسة راند RAND  عام 2009م دراسة بعنوان  " السياسة الخارجية الروسية، المصادر والتأثيرات"، وقد أعدّت هذه الدراسة كي يستفيد منها صنّاع القرار في الولايات المتحدة، وقدمّت بشكل رسمي لسلاح الجو الأميركي.

ثلاث إشارات أرسلتها مؤسّسة راند آنذاك للرئاسة الأميركية وسلاح الجو، واحدة اقتصادية، وثانية سياسية داخلية، وثالثة ديمغرافية؛ درست راند حال الاقتصاد الروسي آنذاك، والوضع السياسي المُتمثّل في إعادة هيكلة الحياة السياسية المُبعثرة بين عدد كبير من الأحزاب والبرامج، والوضع الديمغرافي من جهة تناقص عدد الروس، وبالذات الرجال.

تشير الدراسة إلى أن الاقتصاد الروسي نما بسرعة خلال الأعوام 2000م – 2008م، ووصلت نسبة النمو إلى 6.7 % على العيّنة الزمنية للدراسة، وقفز معدّل دخل الفرد إلى ما يُقارب 9070 دولاراً في بداية الألفية مقارنة ب 1320 دولاراً فقط عام 1993م. وتبحث الدراسة في عوامل النمو الاقتصادي الروسي، وتخلص إلى نتيجة مفادها أن الاقتصاد الروسي ليس اقتصاد طاقة بالمعنى الريعي الذي نعرفه، وأن عوائد النفط لم تساهم في الناتج المحلي الإجمالي بشكل رئيسي، بل تمّت الاستفادة منها في 3 محاور رئيسة: الوسادة المالية "الاحتياطات النقدية" التي اتّكأت عليها روسيا في ظلّ الأزمة المالية عام 2008م، وتسهيل قروض للسكن وتحسين الرعاية الصحية، ودعم الاستثمار الروسي خارج حدود روسيا، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الدراسة أيضاً أشارت إلى فساد داخل مؤسسة الحكم يمتصّ حصّة من هذه العوائد.  أما القطاعات الأخرى التي ساهمت في نِسَب النمو فكانت قطاعات البناء والاتصالات والتكنولوجيا والصناعة والزراعة والخدمات المالية والمواصلات، وبدأت تتأسّس شركات من رحم الجامعات التكنولوجية يديرها أكاديميون مختصّون.  تشير الدراسة إلى أن اختصار اقتصاد روسيا باقتصاد طاقة، أمر تبالغ فيه الصحافة العالمية، فهي لا تتوقّع صُراخ روسيا في حال تراجع اقتصاد النفط والغاز، الذي عملت الحكومة الروسية خلال فترة الدراسة على إعادة هيكلته، ومن ذلك تعديلات حسّاسة على عقود الشركات العاملة في القطاع، ومنها شيل. 

الرسم التوضيحي يشير إلى النمو التراكمي في مختلف القطاعات بين عامي 1998م وعام 2008م:

سياسياً، ترى الدراسة أن بوتين تمكّن من وقف حال التشتيت المتمثلة في انتشار عدد كبير من الأحزاب غير المؤطّرة في منظومة جامعة، أو خطة تحمل أوسع هامش من القواسم المشتركة، وقد تضمّن ذلك تعديل قوانين الانتخابات للتعبير عن الكتل الكبرى ابتداءً، ومع هذه التعديلات باتت أحزاب "روسيا الموحّدة"، والشيوعي، والليبرالي هي أكبر التعبيرات عن القواسم المشتركة، في منظومة من الوحدة والصراع. ورافق ذلك مركزة القضاء وإدارة الأقاليم، وتشكّلت مؤسّسة الحكم – حسب الدراسة- من تحالف البيروقراطية السلافية مع الكنيسة (التي اعتبرت بوتين هبة الرّب لإنقاذ الروس من أزمتهم)، والليبراليين، والتكنوقراط. تتباين آراء هذه الجهات في العلاقة بين مؤسّسة الحُكم والاقتصاد، ولكن الميل العام فيها يهدف إلى بناء دولة روسية سيادية وقوية، كما أنها تتباين في النظرة للغرب، إلا أن الميل العام فيها ينظر على أقل تقدير بكثير من الريبة والشك له. كانت الإنجازات السياسية هذه بمثابة إعادة روسيا إلى حال أعلى من المركزية، بعد الصدمة التي أشعلها يلتسين بعد الانهيار، والتي أفضت إلى أقصى حالات التشتيت.

ديمغرافياً، تنبّأ الغرب بأزمة روسيّة سببها اختلال النسبة بين الوفيات والمواليد، وانخفاض معدّل عُمر الرجل (59 سنة) مقارنة بالمرأة (72 عاماً)، ووجود عدد كبير من العائلات الروسية في الخارج، وتزايد الهجرات من غير السلاف من الخارج إلى روسيا ، وارتفاع نسبة الطلاق عند السلاف مقارنة بالمسلمين، وانخفاض نسبة الإنجاب أيضاً عند السلاف. تنبّأت الدراسة بتراجع عدد سكان روسيا إلى 126 مليوناً مع حلول عام 2025م، كان ذلك التنبوء عام 2009م، الأمر الذي يهمّ القوات الجوية الأميركية بتغير عقيدة الجنود الروس، واعتماد الجيش الروسي على المهاجرين في صفوفه ، ليعاني مشكلة الجيش الأميركي نفسه.

حقائق جديدة (2008- 2017)

استمر الاقتصاد الروسي في النمو، ولو بنِسَب أقل مما كانت عليه الحال في فترة الدراسة التي أجرتها راند. سبّبت اضطرابات سوق الطاقة في العالم إشكاليات في نمو الاقتصاد الروسي، فهو ليس اقتصاداً مستقلاً إلى حد كبير عن عوائد الطاقة، كما توقّعت راند، وهو في الوقت نفسه لن يصرخ بسهولة من دونه كما تبالغ الصحافة العالمية.

في كتاب "روسيا في عهد بوتين" للدكتور أحمد سيّد حسين، والصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية عام 2015م، يدرس المؤلّف معايير أكاديمية في قوّة الدولة الروسية، ويخلص في الشقّ الاقتصادي إلى أن روسيا احتلت عام 2012م المركز السابع عالمياً من ناحية القوة الشرائية للفرد، وأن معدّل البطالة حسب إحصائيات 2013م كان 5.2%، وهي نسبة أقل من نظيرتها في الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي في نفس الفترة.

تمكّن الاقتصاد الروسي من عام 1999م إلى عام 2015م من تخفيف ديون الدولة الخارجية والداخلية، فالدّين الخارجي الروسي لا يتجاوز 20% من ناتجها المحلي الإجمالي، ودَينها الداخلي الذي وصل إلى 99% عام 1999م، تراجع إلى 8.4% عام 2012م، مقارنة ب 72.5% في الولايات المتحدة الأميركية. لا يعني ذلك بالطبع أن حجم الاقتصاد الروسي تجاوز الاقتصاد الأميركي، ولكن ذلك يعني أن الدولة الروسية باتت تعرف متطلّباتها جيّداً، وتخطّط بما يناسب احتياجاتها، إضافة إلى أنها لم تنفق الأموال الطائلة في مشاريع امبريالية خارج حدودها، كما هي الحال مع الولايات المتحدة الأميركية.

ديمغرافياً، يمكن القول إن تنبوءاتها أو آمالها قد خابت، فبرامج الرعاية الصحية رفعت معدّل أعمار الذكور إلى 64 سنة، والإناث إلى 76سنة، مع الإشارة إلى أنها لم تتوسّع بما يكفي لتشمل الفئات الأوسع في روسيا. بلغ عدد المواليد مطلع عام 1999م في روسيا مليون و 214 ألف مقابل وفيات وصلت إلى مليونين و144 ألفاً، ووصل منحنى المواليد والوفيات إلى التماس "النمو الصفري" عام 2012م، ما يعني بدء التخلّص من الشبح الديمغرافي في روسيا. تناقصت أعداد المهاجرين من روسيا، وازدادت أعداد المغتربين العائدين إليها من عام 1999م إلى عام 2016م.

حقائق جديدة (2008- 2017)

صدقت توقّعات راند أن المجتمع الروسي قَبِلَ بمزيد من المركزية مقابل التحسينات في مستوى العيش، وتعزيز الأمن بعد حقبة المافيات ويلتسين، وخابت توقّعاتها في ما يتعلّق بالديمغرافيا التي حسب الإحصائيات الرسمية لروسيا الاتحادية لم تقل عن 143 مليون مواطن روسي عام 2013م.

وفي كل الأحوال فقد دخلت معادلات السياسة والديمغرافيا والاقتصاد معادلات جديدة بعد تحليق الطيران الروسي فوق سماء دمشق، معادلات ستخلط ما هو داخلي بما هو عالمي، في سياق الولادة القاسية لعالم متعدّد الأقطاب.