لماذا تتلكأ أوروبا عن تنفيذ التزاماتها تجاه إيران؟

التباطؤ الأوروبي في إطلاق آلية الالتفاف على العقوبات الأميركية ضد طهران يطرح تساؤلاتٍ كبرى حول المعنى السياسي له، فهل أوروبا بحاجة لقدر أكبر من الشجاعة؟ أم انها تشارك الأميركيين النوايا ذاتها لكن بأسلوب آخر؟

تتزايد الضغوط الأميركية على إيران مع تقدم ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب، كما وعد في حملته الرئاسية التي بناها –في الشق المتعلق بإيران- على قاعدة ضرورة الانسحاب من الاتفاق النووي. وتتنوع هذه الضغوط بين ما هو ديبلوماسي وسياسي متمثل بالضغط الذي تمارسه واشنطن وحلفاؤها مباشرة ضد طهران، وما هو عسكري متمثل بتحركات أميركية في دول الخليج، وتسليح متطور لهذه الدول، وما هو اقتصادي ومالي متمثل بحصار موارد الاقتصاد الإيراني والنظام المالي للدولة.
ومع تنفيذ ترامب وعده الانسحاب الفعلي من الاتفاق بعد وصوله إلى الرئاسة، استمرت الدول الأوروبية بعزمها على مواصلة الالتزام بالاتفاق، لما له من فوائد تراها على اقتصاداتها التي تعاني من أزمات متتالية، والتي ترى أن بوسع التعاون مع إيران مساعدتها على تحسين بعض تلك الظروف.
من جهتها، تمسكت إيران رغم انزعاجها من الانسحاب الأميركي، بالآلية الأوروبية للالتفاف على العقوبات الأميركية، ورأت أنه من المفيد لها التعاون مع الأوروبيين، الأمر الذي يضمن لها موارد اقتصادية مهمة من جهة، ويحرج موقف الأميركيين ورئيسهم ترامب الذي سيبدو خارج الإجماع الدولي، حول اتفاقٍ تبدو فوائده واضحة للجميع.
لكن هذه الآلية لا تسير وفق ما يرام، والأوروبيون يبدون أقل قدرةً على الوفاء بالتزاماتهم، الأمر الذي يطرح مرةً جديدة أسئلةً كبرى حول مدى استقلالية سياستهم الخارجية، وما إذا كانت شعوبهم فعلاً هي التي تقرر وجهة علاقاتهم، خصوصاً وأننا بصدد الحديث عن علاقتهم مع دولة هي واحدة من ثلاث دول تشكل ركيزة منتجي الغاز الطبيعي في العالم، وواحدة من الدول الكبرى في إقليم الشرق الأوسط وأكثرها تأثيراً، فضلاً عن موقعها الاستراتيجي على الرواق الواصل بين بابي أوروبا وآسيا، شمالاً إلى قزوين باب الاتحاد الروسي، وجنوباً إلى الخليج باب منطقة الصراعات التاريخية والقضايا الكبرى.
خلال الأسابيع الأولى من العام الحالي، أكد نائب وزير الخارجية الإيراني للشؤون السياسية عباس عراجي أن إيران تريد التزود بالآلية المالية التي تسمح لها بالتجارة مع الأوروبيين بحلول نهاية الشهر الأول من السنة، وتشدد على فتح القناة المالية من أجل الحفاظ على الاتفاق النووي. هذا التصريح كان بمثابة تعبير عن الرغبة الشديدة بالتمسك بالاتفاق النووي مع الأوروبيين تحديداً من جهة، ومتضمناً لمهلة زمنية لهم من جهةٍ ثانية.
الأسابيع التالية لم تشهد تقدماً ملموساً، بل تباطأ سير الآلية تلك، ووجدت إيران أن صعوبات خافية كانت تظهر في طريق تطبيقها يوماً بعد آخر.
ويوم الثلاثاء الماضي، وعلى وقع تهديدات المسؤولين الأميركيين بأنهم قد يفرضون عقوبات على سلطات الدول المشاركة في تنفيذ هذه الآلية، عقدت في طهران مفاوضات بين مسؤولين إيرانيين والممثلين عن الدول الثلاث الموقعة على الاتفاق النووي، فرنسا وبريطانيا وألمانيا إلى جانب ممثلي الاتحاد الأوروبي بهدف بحث الآلية المالية الأوروبية "إينستكس" للتعامل التجاري مع إيران. وناقش الاجتماع، مستجدات الآلية المالية إلى جانب طريقة التعاون والتعامل الثنائي وآلية إفادة النشطاء الاقتصاديين والتجاريين من الآلية، والخطوات القادمة من أجل لتطويرها بالمجالات التجارية. وجد الإيرانيون في هذا الاجتماع عزماً أوروبياً على مواصلة الطريق كما صرح نائب رئيس مجلس الشورى علي مطهري.

فما هي هذه الآلية، وعلامَ تنص؟
تم إنشاء آلية "إنستكس" في كانون الثاني يناير الماضي، من قبل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، بعد انسحاب أميركا من الاتفاق النووي وعودة العقوبات وزيادتها على إيران، ولكنها لم تدخل حيز التنفيذ بعد. من جانبها أعلنت إيران عن شروعها بتأسيس نظام للتعاون مع الآلية المالية الأوروبية، مع تشديدها على عدم كفاية تلك الآلية، وامتعاضها من التراجع الأوروبي بدرجة الالتزام بالاتفاق النووي، كوسيلة ضغط أيضاً على الأوروبيين لمزيد من التعاون.
والآلية هذه تشكل نوعاً من المقاصة باليورو لإيران لتتمكن من التجارة مع الشركات الأوروبية، تعمل للمقايضة خارج النظام المالي العالمي، تركز على السلع غير الخاضعة للعقوبات، ولا تشمل المعاملات المتعلقة بالنفط، وهو المصدر الرئيس للعملة الأجنبية في إيران.
وفيما تبدو فرنسا وألمانيا أكثر حماسةً من بريطانياً لإطلاق هذه الآلية، سيكون ثقل إدارة الآلية موكلاً إلى باريس، على أن تشارك لندن وبرلين معها في الدعم المالي.
وفي حال تم تنفيذ الآلية، فإن الشركات الأوروبية ستتجنب العقوبات الأميركية نظرياً، لكن على المستوى العملي تبقى هذه الشركات أسيرة المخاوف التي تحاول واشنطن تعزيزها كرادعٍ لأية محاولة لإخراج إيران من حصارها.
تهدف الآلية إلى تسهيل التجارة مع إيران، التي تطالب من جابنها الأوروبيين بالتعويض عن خسائرها جراء انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق، وتمكينها من مواصلة التجارة مع العالم الخارجي.
وتلمس إيران ميلاً أوروبياً إلى التسويف والمماطلة في إجراءات بدء التنفيذ، حيث تكرر الدول الأوروبية حصر الآلية بتجارة المواد الغذائية والأدوية في المرحلة الأولى، وتربط بين تفعيل الآلية وأطر تنظيمية أخرى للعلاقة مع إيران، تفرض بدورها شروطاً (إصلاحات وتشريعات)على طهران للانضمام، والتلويح باستعادة اسطوانة "النفط مقابل الغذاء" التي كانت مقدمة لإضعاف العراق واجتياحه فيما بعد، ما يعني المزيد من تضييع الوقت، والرهان على تأثيرات الضغوط التي يواجهها الاقتصاد الإيراني، وحشر للقيادة الإيرانية بين مطالب الأوروبيين ومن ورائهم الأميركيين من جهة، وحاجات الاقتصاد المحلي الضاغطة من جهة أخرى.
هذا الواقع يطرح السؤال بجدية حول ما إذا كانت القوى الأوروبية الثلاث تتماهى مع الأهداف الأميركية من العقوبات، ولكن بأسلوب آخر. أم أنها تحاول ما بوسعها التعامل بصدق مع مصالحها، بصرف النظر عن الإرادة الأميركية؟

الخلفية الأميركية للعقوبات
منذ أربعين عاماً وحتى اليوم، تحاول الولايات المتحدة الأميركية تطويع إيران، وتغيير سلوكها، ومنعها من تحقيق إرادتها السياسية التي تعبر عنها في أدبيات الثورة التي تقود البلاد منذ عودة الإمام الخميني من منفاه الباريسي وإسقاطه حكم الحليف الأميركي الشاه محمد رضا بهلوي. تنوعت خلال تلك السنوات أساليب الأميركيين كثيراً، لكنها في السنوات الأخيرة ذهبت باتجاه الحصار الاقتصادي الممزوج بتهديدات عسكرية قاسية. لم تثنِ كلها القادة الإيرانيين عن مواصلة سياستهم الوطنية كما يريدونها. لكنها بالتأكيد وضعتهم تحت ضغوطٍ هائلة.
مع ترامب، تريد واشنطن من إيران تغيير معاني سياستها الخارجية في الشرق الأوسط بما يتناسب مع المصالح الأميركية. ومن أجل ذلك، تحاول واشنطن إخافة طهران إلى الحد الذي تزيد معه من إنفاقها العسكري لتعميق أزمتها الاقتصادية من جهة، ولاستخدام هذا الإنفاق في سبيل تخويف دول الخليج منها، سعياً لبيعهم الأسلحة، ودفعهم إلى إدامة الإنبطاح أمام الأميركي والإسرائيلي، من جهةٍ ثانية. وقد تكون المواقف الخليجية المستجدة من التقارب مع إسرائيل ثمرة لهذه السياسة الأميركية، وإن كانت جذور هذه المواقف ليست بجديدة في أقنية المخابرات وحول الطاولات السرية.
من جهة أخرى، تريد واشنطن تطويق نفوذ إيران الإقليمي، ومنعها من مد حركات المقاومة ومشروع مواجهة إسرائيل بالدعم اللازم، وهو الهدف الذي تعلنه واشنطن ليلاً ونهاراً، وتحشد حوله الدعم الدولي الممتد من استراليا إلى كندا، ومن وارسو إلى دول الخليج العربية.
أما على صعيد العلاقة مع الأوروبيين، فإن واشنطن لا تسمح للدول الأوروبية، وخصوصاً الدول الثلاث الركائز في البنية الأوروبية تاريخياً، ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، بأن ينتجوا موقفاً أوروبياً مستقلاً وناجحاً بالتعامل مع المسألة الإيرانية، وذلك لمجموعة من الاعتبارات.
أولها ما هو مرتبط بإيران، حيث لا يقبل ترامب برؤية الديبلوماسية الإيرانية وهي تحقق إنجازاً كبيراً يخرق الحصار، ويستبعد تأثيراته، ويضع الأميركيين في موقفٍ حرجٍ وضعيف، وبذلك تتمكن طهران من مواصلة سياستها الخارجية الخاصة كما تريد، ما يؤدي تالياً إلى مزيدٍ من الانتصارات لها ولحلفائها في الشرق الأوسط، ويعني بالمقابل هزائم جديدة لأميركا وحلفائها.
وثانيها ما هو مرتبط بخطورة أن يحقق الأوروبيون خرقاً ناجحاً خاصاً بهم لعادة التبعية للأميركي، وهي عادة أصبح عمرها عشرات السنوات، لم تنجح الدول الأوروبية في تحقيق خرقٍ فيها إلا في مراتٍ قليلة فقط، وفي قضايا ثانوية، وبدرجةٍ غير ذي تأثير كبير. الأمر الذي سيعني فيما لو تم، مزيداً من الرغبة الأوروبية بالاستقلال السياسي الخارجي، ومزيداً من الشجاعة للخروج عن طاعة الأميركيين وتحقيق مصالحهم الخاصة. وبالمناسبة، فإن ميلاً فرنسياً واضحاً بهذا الاتجاه يظهر بصورةٍ متزايدة عند الرئيس فرنسوا ماكرون.
على هذا الأساس، حذر البيت الأبيض المصارف والشركات الأوروبية من أنها قد تواجه غرامات وعقوبات صارمة إذا انتهكت العقوبات الأميركية، التي تستهدف تجارة الذهب والمعادن الثمينة، وتعيق مبيعات طائرات الركاب وتقييد شراء إيران للدولار الأميركي، ومنع مبيعات النفط الإيراني وأموراً أخرى.

أسلوب إيران في المواجهة
تواجه إيران الضغوط الأميركية والتلكؤ الأوروبي يمجموعة من الأساليب المختلفة، التي تبدو أحياناً متناقضة. فمن جهة تفتح طهران باب التفاهم الدائم مع الأوروبيين، وهي عبرت عن انرعاجها من انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، أي أنها تمسكت حتى اللحظة الأخيرة بالتفاهم مع الأميركيين.
وفي السياق نفسه، تحاول إيران الدفاع عن نواياها الحسنة بخصوص الملف النووي، من خلال دفاعها عن فوائد الاتفاق النووي لجميع الأطراف الموقعة عليه. ولأنه يمنعها من إنتاج قنبلة نووية، فإن موافقتها عليه تثبت عدم نيتها امتلاك تلك القنبلة، وهو الأمر الذي أكده قادتها مراراً وعلى رأسهم قائد النظام السيد علي خامنئي. وفي المقابل، يرى الإيرانيون أن تحقيق الاتفاق هذه الغاية، يجب أن يعتبر مكسباً أميركياً، إلا إذا كانت الغاية الأميركية في مكان آخر، أي بمنع إيران من امتلاك القدرات التي تمكنها من الاكتفاء الذاتي داخلياً، وحفظ مصالحها في الإقليم.
وفي حين تراهن إيران على أن يعي الأوروبيون مصالحهم، ويمارسوا ما يتناسب معها، فإنها لا تفوت فرصةً للتذكير بضرورة الإسراع بتطبيق آلية الالتفاف على العقوبات، ذلك أن تفهمها لحاجة الاتحاد الأوروبي للوقت لا يلغي حاجتها الأكثر إلحاحاً له.
لذلك، فإن طهران، تضع أوروبا أمام مسؤولياتها، وتظهر التزامها المتواصل بالاتفاقات، مقابل تراجع الأوروبيين والأميركيين عنها، الأول من خلال تباطئه والثاني بصورةٍ مباشرة.
أسلوب آخر بدأت طهران استخدامه وهو التلويح بأوراق القوة واستخدام سياسة تحديد المهل بعدما كانت هي التي تتعرض في السابق لهذه السياسة.
وإلى جانب ذلك، تتطلع إيران إلى روسيا والصين، الموقعين أيضاً على الاتفاق النووي، للحفاظ على تعاملات تجارية تشكل بديلاً للأوروبيين، ومنفذاً لدخول العملة الصعبة إلى البلاد، إضافةً إلى كونها دول كبرى تكسر عزلة طهران.
وتتمسك إيران بموازاة ذلك بتطوير دقة الصواريخ بدلاً من مداها، ويشدد قادتها العسكريون على رفض التفاوض على البرنامج الباليستي، الأمر الذي يعرف الأميركيون خطره على مصالح حلفائهم في المنطقة، ويشكل عامل ضغط عليهم في مسألة العقوبات. ويمكن القول إن تصريح قائد الوحدة الصاروخية في "الحرس الثوري" أمير علي حاجي زاده، في ديسمبر-كانون الأول الماضي يحمل دلالات دقيقة بهذا الشأن، حيث قال إن إيران لديها القدرة على إنتاج صواريخ أبعد مدى من ألفي كيلومتر، لكن "ما أخذناه من قرارات حتى اليوم (حول مدى الصواريخ) يتناسب مع حاجاتنا". وتابع أن "أغلب قواعد الأعداء على بعد 300 إلى 400 كلم، والمرحلة الثانية على بعد 700 إلى 800 كلم"، لافتاً إلى أنه "لا قيود من الجانب التقني حول مدى الصواريخ".
وفي مقابل الضغوط الأوروبية لبدء مفاوضات ترفضها إيران حول برنامجها الصاروخي، تلوح هذه الأخيرة بتحويل استراتيجيتها العسكرية من "الدفاع" إلى "الهجوم"، بحسب ما صرح به رئيس الأركان الإيراني محمد باقري، حين رد على التهديدات الفرنسية بفرض مزيد من العقوبات على بلاده.
في المحصلة، إيران منزعجة من الوتيرة الأوروبية البطيئة لتطبيق الآلية المتفق عليها معها، وهي لن تتوانى عن استخدام أوراق قوتها للضغط على الأوروبيين. من جهتهم، يعاني الأوروبيون من عدم امتلاك الشجاعة اللازمة للخروج على التوجيه الأميركي. بالإضافة إلى خوفهم من تبعات صمود إيران أمام الحصار، واضطرارهم إلى مواجهة نتائج ذلك في الشرق الأوسط، وفي سوق النفط. وهم في حين يراهنون على الوقت لحل المعضلة، يواجهون في بلدانهم أزماتٍ سياسية واقتصادية تكاد تطيح بمنجزات عشرات السنوات، وتعيدهم إلى الفوضى السياسية. بالإضافة إلى معاناة ترامب نفسه من لكمات يومية من أجهزة القضاء والأمن والمؤسسات الدستورية.
في الوقت نفسه، تتأقلم إيران مع الصعوبات المستجدة، مع احتفاظها بإمكانية قلب الطاولة، وإعادة توزيع الورق من جديد، وإطلاق مسارٍ جديد من الأحداث.