القمم العربية.. كلام وحدوي وممارسات انقسامية
لكن العرب تعرضوا للطعنة الأكثر تأثيراً مباشرةً بُعيد تأسيس الجامعة العربية، عندما خسروا فلسطين بفعل تنفيذ بريطانيا لوعد بلفور المشؤوم، وإعطاء الأراضي الفلسطينية للإسرائيليين، الأمر الذي طبع أحدث تأثيراً عميقاً في الوجدان العربي، وانعكس في كل مندررجات العمل العربي المشترك.
كان العرب سبّاقون إلى التجمّع ضمن إطار إقليمي موحّد بعد الحرب العالمية الثانية، فأنشأوا "جامعة الدول العربية" في السنة نفسها لإعلان نهاية الحرب، وعقدوا أولى قممهم قبل أن يتأسس حلفا "شمال الأطلسي" و"وارسو" على سبيل المثال، وقبل أن تبدأ الدول المتحاربة بإعادة بناء أطرها المؤسّساتية بعد الحرب. لكن حال العرب اختلفت من ذلك الجين اختلافاً يبدو جذرياً عند استرجاع العناوين التي كانت مطروحة، ومواقف الدول الأعضاء منها، وقدرتهم على تحقيق التوافق حولها.
واستفاد العرب في تأسيس جامعتهم الموحّدة من الأجواء القومية التي كانت تسود العالم في تلك الفترة، مع رواج الأفكار المرتبطة بالقومية واللغة والروابط الثقافية، وازدهار حركات التحرّر في الدول النامية ضد دول الاستعمار القديم. ومع اقتراب نهاية الحرب العالمية الثانية كانت الدول العربية قد بدأت تتحرّر الواحدة تلو الأخرى، وصولاً إلى نجاح الثورة الجزائرية في تحرير الأرض والحصول على الاستقلال في واحدةٍ من ملاحم المقاومة البهية في التاريخ.
لكن العرب تعرضوا للطعنة الأكثر تأثيراً مباشرةً بُعيد تأسيس الجامعة العربية، عندما خسروا فلسطين بفعل تنفيذ بريطانيا لوعد بلفور المشؤوم، وإعطاء الأراضي الفلسطينية للإسرائيليين، الأمر الذي طبع أحدث تأثيراً عميقاً في الوجدان العربي، وانعكس في كل مندررجات العمل العربي المشترك. فتحوّلت القضية الفلسطينية بسرعة إلى محور النشاط العربي على المستويات السياسية والدبلوماسية، والعسكرية خلال فترة طويلة تلت احتلال فلسطين.
ومنذ اليوم الأول، اجتمع العرب على وقع المصيبة بدلاً من الالتقاء على أرضية التطلّع المشترك للمستقبل، وكان ذلك بفعل الأحداث الطارئة التي واجهت الدول العربية بعد تأسيس الجامعة. فعقدت أول قمّة طارئة في الإسكندرية في مايو-أيار عام 1946 وعرفت بقمّة "أنشاص"، وكان العنوان الأبرز لها هو مناصرة القضية الفلسطينية، حيث خرجت قراراتها لتؤكّد عروبة فلسطين وارتباط مصيرها بمصير كل العرب شعوباً ودولاً.
لكن العمل العربي المشترك لم يتّخذ مساره المنتظم بصورةٍ واضحة إلا بعد عشرين عاماً من انطلاق عمل الجامعة العربية، مدفوعاً بتكرار الاعتداءات الخارجية على الدول العربية، ومحاولة أطراف العدوان الثلاثي ثني مصر عن ممارسة سيادتها على أراضيها وعلى قناة السويس المصرية، فأكّد العرب في قمّة بيروت عام 1956 وقوفهم إلى جانب مصر، وسيادتها على القناة. وعلى وقع تصاعد الجرائم الإسرائيلية وبلوغها حداً لا يطاق، بدأت القمم العربية تشهد دعوات إلى إنشاء قيادة موحّدة للجيوش العربية، ومطالبات بتشكيل نظام أمن قومي عربي، ودعم القضية الفلسطينية بكل الوسائل المتاحة، الأمر الذي ساهم في ولادة منظمة التحرير الفلسطينية التي انطلق معها مسارٌ جديد من العمل المقاوم لاسترجاع فلسطين.
لكن النكسة التي أصابت العرب بعد حرب 1967 أحدثت شرخاً عميقاً داخل الجامعة العربية نفسها، فبدأت تبدو إلى العلن الخلافات التي كانت في السابق تتحرّك بخفاء تحت رماد القضايا المشتركة وضرورات الوحدة، فانفجر الخلاف الفلسطيني الأردني عام 1970، وكرّت سلسلة من الخلافات التي طبعت القمم العربية بطابعها منذ ذلك الحين.
ومع أن القضية الفلسطينية استمرت بسيطرتها على كل القمم العربية كقضيةٍ مركزية، غير أن العدوانية الإسرائيلية أشركت معها قضايا متتالية تخصّ دولاً عربية أخرى عند كل قمّة عادية أو طارئة. ففي القمّة العربية العادية السابعة في الرباط في أكتوبر-تشرين الأول 1974، أيّد العرب ضرورة الالتزام باستعادة كامل الأراضي العربية المحتلة في عدوان يونيو-حزيران 1967 وعدم القبول بأي وضع من شأنه المساس بالسيادة العربية على مدينة القدس، واعتمدت هذه القمّة منظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني. لكن القمّة التي تلتها كانت مصغّرة وعقدت في الرياض عام 1976 وشملت ست دول عربية بهدف وقف نزيف الدم في لبنان وإعادة الحياة الطبيعية إليه واحترام سيادة لبنان ورفض تقسيمه، وإعادة إعماره. ثم أتت قمّة بغداد بعدها لتعبّر عن رفض العرب لاتفاقية "كامب ديفيد" بين مصر والكيان الإسرائيلي لتعارضها مع قرارات مؤتمرات القمّة العربية، وفي هذا المؤتمر تم نقل مقرّ الجامعة العربية من مصر إلى تونس ومقاطعتها وتعليق عضويتها في الجامعة مؤقتا لحين زوال الأسباب.
وفي القمّة الثانية عشر في فاس بالمغرب، أقرّ مشروع السلام العربي في الشرق الأوسط والذي طرحه الملك فهد بن عبدالعزيز على مرحلتين الأولى في نوفمبر-تشرين الثاني 1981، والثانية في عام 1982. حيث أدان العرب خلال هذه القمّة الاجتياح الإسرائيلي للبنان والعدوان على أرضه وشعبه، وقرروا دعم لبنان في كل ما يؤدي إلى تنفيذ قرارات مجلس الأمن القاضية بانسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية حتى الحدود الدولية المعترف بها.
وبين "كامب ديفيد" ولبنان، كانت القمم المتتالية تبتعد شيئاً فشيئاً عن فلسطين، لتتعمّق الخلافات العربية، وينزاح الاهتمام شرقاً إلى الحرب العراقية-الإيرانية بين عامي 1980 و1988، والتي اتفق العرب حولها في قمّة عمّان عام 1987، فدانوا إيران، وأعلنوا عن تضامنهم مع العراق "للدفاع عن أرضه وسيادته"، كما دانوا ما وصفوه بـ"الاعتداءات الإيرانية على دولة الكويت، داعين إلى ضمان حرية الملاحة الدولية في الخليج العربي وفقاً لقواعد القانون الدولي."
وتراجعت القضية الفلسطينية في التسعينات مرةً جديدة في اهتمامات العرب، مع توقيع اتفاقية أوسلو للسلام بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، واتفاقية وادي عربة مع الأردن، والمصافحة الشهيرة بين إسحق رابين وياسر عرفات برعاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون في البيت الأبيض. ومع رفض سوريا التوقيع على اتفاق سلامٍ منقوص، كان الأميركيون يمارسون ضغوطاً هائلة لفصل المسارات العربية بعضها عن البعض الآخر، الأمر الذي عمّق الخلافات العربية المشتركة.
القمم العربية في الألفية الجديدة
ظلت القضية الفلسطينية حاضرةً كعنوانٍ أساسي في القمم العربية التي انعقدت في الألفية الجديدة، وذلك بفعل استمرار مقاومة الشعب الفلسطيني، والدفعة المعنوية الكبيرة التي أحدثها تحرير الجنوب اللبناني عام 2000، الأمر الذي أعطى مثالاً قوياً على فاعلية خيار المقاومة العسكرية لاسترجاع الأرض من دون مفاوضات. فانعقدت قمّة عام 2011 في العاصمة الأردنية عّمان وأكدت تضامنها التام مع الشعب الفلسطيني لاستعادة حقوقه المشروعة. كما أكّدت سيادة دولة الإمارات العربية المتحدة على الجزر الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، ودعت إلى تعزيز التضامن العربي وتفعيل مؤسّسات العمل العربي المشترك.
ثم أتت قمّة بيروت عام 2002، لتتبنّى ما عرف بـ"المبادرة العربية للسلام" والتي اقترحتها المملكة العربية السعودية.
وفي قمّة شرم الشيخ في مارس-آذار عام 2003، كان التهديد الأميركي باجتياح العراق هو الحدث الأبرز عربياً، حيث رفض القادة العرب رفضاً مطلقاً "ضرب العراق أو تهديد أمن وسلامة أية دولة عربية ودعم صمود الشعب الفلسطيني". لكن ذلك لم يمنع من حدوث الاجتياح فعلاً، ومن دون قرارٍ من مجلس الأمن حتى، فدخل الجيشان الأميركي والبريطاني إلى العراق، فاحتلوه وفكّكوا جيشه ومؤسّساته، وعيّنوا حاكماً عسكرياً أميركياً عليه، من دون أن يتمكن العرب من فعل أي شيء حيال ذلك، سوى الاستعاضة عن قلّة حيلتهم بالحديث عن فظائع صدّام حسين وتسبّبه بقدوم الأميركيين إلى المنطقة العربية، علماً أن القوات الأميركية استخدمت القواعد العسكرية التي تقيمها في الدول العربية الخليجية من أجل اجتياح العراق وتدميره.
عادت القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمام خلال قمتيّ 2004 و2005 في تونس والجزائر، حيث جدّد القادة العرب الالتزام بمبادرة السلام العربية، ودانوا استمرار إسرائيل في بناء الجدار التوسّعي، واستعادوا القرارات الدولية ذات الصلة، وقرارات محكمة العدل الدولية، ودخل موضوع مكافحة الإرهاب الأدبيات العربية تماشياً مع الموجة العالمية الدارجة مذّاك. فأكّد القادة العرب أهمية ما توصّل إليه المؤتمر الدولي للإرهاب الذي عقد في الرياض في فبراير-شباط عام 2005، حيث تقرّر إنشاء مركز دولي لمكافحة الإرهاب. ثم أكّدت قمّة السودان في العام التالي على المواقف نفسها، مكافحة الإرهاب، فلسطين، مبادة السلام العربية، النزاع الإماراتي الإيراني على الجزر الثلاث..
وفي قمّة 2007، صدر "إعلان الرياض"، الذي أكّد خلاله القادة العرب ضرورة العمل الجاد لتحصين الهوية العربية ودعم مقوّماتها ومرتكزاتها وترسيخ الانتماء إليها في قلوب الأطفال والناشئة والشباب وعقولهم.وأكّدوا أهمية ما وصفوه بـ"نشر ثقافة الاعتدال والتسامح والحوار والانفتاح ورفض كل أشكال الإرهاب والغلوّ والتطرّف وجميع التوجّهات العنصرية الإقصائية وحملات الكراهية والتشويه ومحاولات التشكيك في قيمنا الإنسانية أو المساس بالمُعتقدات والمقدّسات الدينية والتحذير من توظيف التعدّدية المذهبية والطائفية لأغراض سياسية تستهدف تجزئة الأمّة وتقسيم دولها وشعوبها وإشعال الفتن والصراعات الأهلية المدمّرة فيها". بالإضافة إلى خيار السلام العادل والشامل بوصفه خياراً استراتيجياً للأمّة العربية، والمبادرة العربية للسلام ومبادئ الشرعية الدولية وقراراتها ومبدأ الأرض مقابل السلام.
وأعادت قمّة دمشق عام 2008 ملف الأمن القومي العربي إلى واجهة الاهتمامات، ليؤكّد القادة العرب في "إعلان دمشق" عزمهم على "الالتزام بتعزيز التضامن العربي بما يصون الأمن القومي العربي ويكفل احترام سلامة كل دولة عربية وسيادتها وحقّها في الدفاع عن نفسها وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية". و"تغليب المصالح العليا للأمّة العربية على أية خلافات أو نزاعات قد تنشأ بين دولهم والتصدّي بحزم وحسم لأية تدخلات خارجية تهدف إلى زيادة الخلافات العربية وتأجيجها وذلك في إطار الالتزام بأحكام ميثاق جامعة الدول العربية والنظام الأساسي لمجلس السلم والأمن العربي والقرارات الصادرة عن القمّة العربية، وتضمّن الإعلان وقوف العرب معاً في وجه الحملات والضغوط السياسية والاقتصادية التي تفرضها بعض الدول على أية دولة عربية واتخاذ الإجراءات اللازمة ضد هذه الحملات والضغوط. وضرورة توحيد الموقف العربي إزاء مختلف القضايا التي تطرح في المؤتمرات والمحافل الدولية. بالإضافة إلى مواصلة تقديم كل أشكال الدعم السياسي والمادي والمعنوي للشعب الفلسطيني ومقاومته المشروعة ضد الاحتلال الإسرائيلي وسياساته العدوانية.
ومثل هذه العناوين تكرّرت في قمّة الدوحة عام 2009، لتليها قمّة سرت الليبية عام 2010، والتي كانت آخر القمم قبل اندلاع فوضى ما سمّي بـ"الربيع العربي"، ونصّ إعلانها على تمسّك الدول العربية بالتضامن العربي ممارسة ونهجاً والسعي لإنهاء أية خلافات عربية، وتكريس لغة الحوار بين الدول العربية لإزالة أسباب الخلاف والفرقة ولمواجهة التدخّلات الأجنبية في شؤونها الداخلية ولتحقيق التنمية والتطوّر لشعوبها بما يكفل صون الأمن العربي وتمكينها من الدفاع عن نفسها والمحافظة على سيادتها وتطوير علاقاتها مع دول الجوار الإقليمي بما يحقّق المصالح العربية المشتركة.
ولم تكتمل سنة واحدة منذ هذا الإعلان حتى انقلبت الجامعة العربية على مضامين هذه العناوين التي لطالما تغنّى بها القادة العرب في خطاباتهم خلال القمم المتكرّرة، فشهدت الجامعة العربية تعليق عضوية سوريا فيها، في قرار لم يحز على إجماع القادة الحاضرين، الأمر الذي يتناقض وميثاق الجامعة الذي بني على أساس صدور قراراته بالإجماع. ومع ذلك وُضعت سوريا خارج المنظومة العربية، واتخذت القمم العربية اللاحقة منهجاً انقسامياً في التعامل مع كل القضايا التي تطرح على الجامعة، إلى الحد الذي أفقد كل القمم التالية قيمتها المعنوية بالحد الأدنى، فضلاً عن قيمتها الفعلية التي لم تؤد إلى نجاح حقيقي للأهداف العربية في عزّ الوحدة، فكيف بها في ظل الانقسام.
العرب في محاور متصارعة
بين عامي 2012 و2018، تخندق العرب ضمن محاور متصارعة، تقودها في الأغلب قوى خارجية رسمت لها مطامع في البلاد العربية. وانقسم المحور الذي كان يضم ّحلفاء أميركا من العرب إلى محورين متصارعين بدورهما، أضيفا إلى انتماء الدول العربية وحركات المقاومة المناهضة للسياسات الأميركية إلى ما بات يعرف بـ"محور المقاومة".
وعلى هذا الأساس، ومع فشل مشروعات حكم "الإخوان المسلمين" في مصر وتونس وانهيار أحلامهم في سوريا، وقفت قطر وتركيا إلى جانب الإخوان في محور واحد، في مقابل محور آخر حليف للغرب، ضمّ السعودية والإمارات العربية المتحدة، وتقرّبت من هذا المحور الدول الخليجية الأخرى ومصر والأدرن، فيما بقي لبنان وفلسطين والعراق والجزائر خارج هذه الأحلاف رسمياً، لكن مع احتواء أغلب هذه الدول على حركات المقاومة الأكثر فاعلية إلى جانب سوريا وإيران في محور المقاومة بوجه إسرائيل، والسياسات الأميركية في الشرق الأوسط. ولم يخرق هذا الانقسام سوى إجماع العرب على رفض يهودية إسرائيل، وهو موقف لا يمثل بالأساس سقف طموحات الموقف العربي الرسمي.
هذا الانقسام العربي أدّى إلى زيادة في اهتراء الموقف العربي، وحوّل القمم العربية إلى اجتماعات باهتة يسود التوتّر أجواءها، ويجتهد خلالها الدبلوماسيون لصوغ حدٍ أدنى قابل للتوافق بين قادة متخاصمين على أدق التفاصيل التي كانت في السابق محط إجماعٍ عربي لعقود طويلة.
لقد أحدثت القمم العربية خلال مرحلة الفوضى في العالم العربي تصدّعات عميقة في العناوين الجامعة للدول العربية. وطال هذا التصدّع بالدرجة الأولى إيمان الشعوب العربية بقدرة هؤلاء القادة على تمثيل مصالحهم، حيث أظهر نشاط المواطنين العرب على وسائل التواصل الاجتماعي مواقف سلبية غير مسبوقة من اجتماعات القمم العربية المتتالية، غالباً ما كانت تعبّر عن نفسها بالتهكّم والسخرية من هذه القمم، وجلد القادة الذين درج تداول صورَهم نياماً أو شاردين خلال انعقاد أعمال القمّة، فضلاً عن مشاهد مضحكة، أين منها الخلافات عالية النبرة بين القادة العرب التي شهدتها القمم السابقة لبداية مرحلة الفوضى هذه.
حتى تحوّلت عناوين نظام "الأمن القومي العربي" و"القضية الفلسطينية" والمخاطر الخارجية على الدول العربية، ووحدة الصف العربي، ولازمة تهديد إيران للأمن القومي العربي، عناوين مضحكة بالنسبة للشارع العربي الذي بات يعلم أن شيئاً من المقرّرات لن يبصر النور. وما من مثال أدلّ على ذلك أفضل من القمّة السابقة خلال عام 2018، والتي سميت بـ"قمّة فلسطين"، حيث عاد العرب خلالها إلى التمسّك مرةً جديدة بالمبادرة العربيبة للسلام، بعد أن رفضتها إسرائيل، وهي المبادرة التي لا تحوز وفق رأي أغلبية الشارع العربي والذي ينعكس في الصحافة وفي وسائل التواصل الاجتماعي وفي جميعيات المجتمع المدني وفي أيّ استطلاع للرأي مع اختلاف جهات إجرائه، على مقوّمات العدالة للحقوق العربية وخصوصاً الفلسطينية منها.
قمّة تونس
عقدت قمّة تونس الحالية على وقع حدثين استثنائيين يطالان إثنين من العناوين الثابتة في الموقف العربي المشترك تاريخياً، الأول كان قرار ترامب بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، والاعتراف بهذه الأخيرة عاصمةً لدولة الاحتلال؛ والثاني قرار ترامب نفسه بالاعتراف بما وصفه "سيادة إسرائيل على الجولان" السوري المحتل، والتي سمّاها "مرتفعات الجولان" لينزع عنها الانتماء العربي.
وعلى الرغم من الأجواء السوداوية التي تحيط بالتوحّد العربي حول القضايا الأساسية، غير أن الموقف المشترك الذي خرجت به قمّة تونس عبّر عن تناغم عربي في رفض إهداء ترامب الجولان السوري لإسرائيل، كما غابت لغة تغيير الأنظمة بالقوّة، والتي كانت شائعة خلال السنوات الأخيرة، واستبدلت بما عبر عنه أمين عام الجامعة أحمد أبو الغيط حين قال "إنّ الحلول السياسية هي الكفيلة في حل الأزمات في ليبيا وسوريا واليمن."
الموقف العربي هذا تجاه قضية الجولان، سانده موقف أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الذي حضر افتتاح القمّة، وأكّد "وحدة الأراضي السورية بما فيها الجولان"، ودعا إلى وحدة العالم العربي لتعزيز السلم والاستقرار فيه ومنع التدخّلات الخارجية، كما دعا "إلى حل الدولتين والقدس عاصمة لهما". وأضيف إلى هذا الموقف، تأكيد الممثلة العليا للأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني إن "الاتحاد الأوروبي لن يعترف إلا بشرعية سوريا على الجولان، مضيفة "الحل السياسي هو الحل الوحيد لسوريا". وأنّ "تجاهل قرارات مجلس الأمن الدولي بشأن الجولان ليس حلاً".
وكان لافتاً لانتباه المراقبين تأكيد الملك السعودي رفض بلاده "المسّ بالسيادة السورية على الجولان" ودعوته "إلى حل سياسي لسوريا." مع وصفه لسياسة بلاده في اليمن بأنها "مستمرة في تنفيذ برامج المساعدة الإنسانية للشعب اليمني".
وصوّب الرئيس الفلسطيني محمود عباس على الدور الأميركي في عملية السلام مباشرة، معتبراً الولايات المتحدة "وسيطاً غير نزيه" في عملية السلام، مؤكداً أن ما تشهده فلسطين من ممارسات إسرائيلية ما كان له أن يكون لولا دعم الإدارة الأميركية للاحتلال الإسرائيلي. وذهب أبعد من ذلك للدعوة إلى ضرورة قطع العلاقة مع أية دولة تعترف بالقدس عاصمة إسرائيل، مؤكداً أنه "لا تطبيع مع إسرائيل ما لم تطبّق مبادرة السلام العربية من البداية الى إلنهاية".
ويبدو أن كلمة الرئيس اللبناني ميشال عون وضعت الأصبع على الجرح تماماً عندما قال أن قرار ترامب حول الجولان "لا يهدّد سوريا فقط بل يهدّد سيادة الدولة اللبنانية التي تمتلك أراض قضمتها إسرائيل". وأنه "بعد إجراءات ترامب بات مصير المبادرة العربية مجهولاً لأن ضياع الأرض لا يصنع السلام".
ولم يكتف عون بذلك، بل إن تساؤله: "هل نريد لسوريا أن تعود إلى الحضن العربي وأن يعود اليمن سعيداً وألا تضيع فلسطين؟". كان محملاً بالمعاني، خصوصاً عندما قال: "لو استخدمت الأموال التي صرفت على تمويل الإرهاب على تنمية دولنا لنما اقتصادنا بشكل كبير".
وفي حين استطرد قادة آخرون ومنهم أبو الغيط في الحديث عن "خطرٍ إيراني" على الدول العربية، أكد الرئيس العراقي برهم صالح "إننا لن نكون طرفاً في أيّ محور في المنطقة"، لافتاً إلى أنه لا مستقبل للمنطقة وشعوبها "من دون التفكير باحترام لمصالحنا ومصالح جيراننا". ليؤكّد أمير الكويت حرص بلاده "على علاقة صداقة وتعاون مع إيران ترتكز على المبادئ الدولية بعدم التدخّل".
وفي موازاة ذلك، لم تفسّر إشارة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى أنه "هناك ميليشيات عميلة لقوى إقليمية تتدخّل في شؤون دولنا لتحقيق مصالحها"، على أنها موجهة ضد إيران بقدر ما هي موجهة ضد تركيا، الحليف الأساسي لقطر. فيماغادر أميركا تميم بن حمد القمّة من دون إلقاء كلمته، وفُسّر ذلك على أنه اعتراض على مهاجمة أبو الغيط للتدخّلات التركية في المنطقة.
صورةٌ سحبت الاهتمام كالعادة من ضرورات التوحّد إلى حقيقة الانقسامات العميقة والتخندق في محاور، فبدل التركيز على قضيتيّ الجولان وفلسطين المرشّحتين للتكرار في حال مرّتا من دون موقف عربي يوقف الوقاحة الأميركية عند حدّها، خرج العرب مرةً أخرى بانقسام يعني دولاً خارج المنظومة العربية أكثر مما يعني العرب.