تركيا و الـS-400.. الخيارات الجيوستراتيجية الجديدة
ليس من المُستغرَب أن تنضمّ تركيا الباحِثة أصلاً عن فُرَص تفوّق استراتيجي في المنطقة، إلى دائرة التنافس من أجل بناء منظومة قوامها التفوّق النوعي وإملاء الرغبات على واشنطن وموسكو، فالحديث عن صواريخ S-400 الروسية والتي ترغب تركيا باقتنائها، يدخل مباشرة في صلب البحث عن بناء استراتيجيات جديدة، تسعى تركيا عبرها إلى اللعب على حبال التناقضات في السياسية بين روسيا و الولايات المتحدة.
باتت منطقة الشرق الأوسط تعجّ بالعديد من التناقضات والتعقيدات، كلها تأتي في إطار البحث عن فُرَص تفوّق استراتيجي ينعكس تأميناً للمصالح وتحقيقاً للأهداف، ما يُنذِر بصراع يتحدّد بموجبه العديد من المسارات السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط، وإن تعارضت الرؤى الاستراتيجية التي تجمع الحلفاء تحت مظلّة منظومة دفاعية وعسكرية، هذا الأمر يُنذِر بتصادُمٍ سياسي قد يرقى إلى تصادم عسكري لكن بأدوات الأطراف الفاعلين في المنطقة، فضلاً عن تحريك أدوات داخلية بُغية حَرْف المسار وإجبار الآخر على تعديل طريقة التعاطي مع الملفات والقضايا ذات الأهداف المشتركة، والتي تحمل بذات التوقيت تضارباً في طريقة التنفيذ، و والواضح أن المنطقة باتت مرتبطة إلى حد بعيد بطبيعة الصراع الدائر الشرق الأوسط، إضافة إلى طبيعة الاصطفافات الجديدة التي ستكون بلا ريب مشهداً يحمل معه الكثير من التوتّر، لذلك نشاهد كلاً من الولايات المتحدة وروسيا في منافسة شديدة في الكثير من مناطق الشرق الأوسط، هذه المنافسة وصلت إلى خوض حروب بالوكالة إلى جانب التصعيد العسكري المرتبط بتصدير السلاح الاستراتيجي، وليس من المُستغرَب أن تنضمّ تركيا الباحِثة أصلاً عن فُرَص تفوّق استراتيجي في المنطقة، إلى دائرة التنافس من أجل بناء منظومة قوامها التفوّق النوعي وإملاء الرغبات على واشنطن وموسكو، فالحديث عن صواريخ S-400 الروسية والتي ترغب تركيا باقتنائها، يدخل مباشرة في صلب البحث عن بناء استراتيجيات جديدة، تسعى تركيا عبرها إلى اللعب على حبال التناقضات في السياسية بين روسيا و الولايات المتحدة.
تركيا بين التودّد لموسكو وتوجيه الرسائل لواشنطن
أنظمة الدفاع الجوي الروسية S-400 سعت بعض دول الشرق الأوسط للحصول عليها، من أجل تعزيز مصالحها مع روسيا الصاعِدة إقليمياً ودولياً من جهة، ومن جهة أخرى تحقيق أقصى مُقتضيات الأمن في ظل التسابق على التسلّح الذي يُنذر بكارثة لا أحد يقوى على تحمّل تداعياتها، لكن أن تكون تركيا من ضمن الباحثين عن التفوّق النوعي، والراغبين بامتلاك أوراق قوّة للحصول على مكاسب استراتيجية وسياسية، فهذا يطرح العديد من التساؤلات المحيطة بالدوافع التركية، على اعتبار أن تركيا أحد أعمدة حلف شمال الأطلسي، فنشر مثل هذه المنظومات الروسية المتطوّرة في تركيا، ستكون له تداعيات جمّة على علاقات أنقرة بحلف الناتو، فضلاً عن أن واشنطن تُعارِض مثل هذا التوجّه الذي يحمل تحدّيات تتخطّى جوانب واشنطن الاستراتيجية.
الواضح أن تركيا تسعى إلى التقارب سياسياً وعسكرياً مع روسيا، هو تقارب يُراد منه توجيه رسائل لواشنطن من أجل الضغط عليها لتمرير ما تراه تركيا متوافقاً مع سياستها ، تحديداً تلك الجزئية المتعلقة بالشأن السوري وتوجّهات الكرد، لكن تركيا برَّرت شراء هذه المنظومة من روسيا بعد أن رفضت واشنطن نقل تكنولوجيا توازي منظومة S-400
لتركيا، وفي جانب آخر، تسعى تركيا إلى تنويع مصادر تسلّحها، وذلك من أجل بناء منظومة متكاملة تكون سبباً في لعب العديد من الأدوار السياسية المرتبطة بمسارات الشرق الأوسط.
واشنطن ترى في الصفقة التركية خرقاً استراتيجياً لروسيا، ونقطة تفوّق تُدخِل روسيا في المنظومة العسكرية للولايات المتحدة، حيث ستتمكّن روسيا وعبر هذه المنظومة الصاروخية من قراءة كافة معطيات الطائرات الأميركية، ورَصْد تحرّكاتها وتعقّبها، وهذا أمر ترفضه واشنطن كما يرفضه حلف الناتو، الأمر الذي دفع بواشنطن إلى التلويح بعواقب وخيمة ستُصيب تركيا في حال استمرت في سعيها للحصول على المنظومة الروسية، ما يشي بأن حرب التجاذبات بين واشنطن وأنقرة قد تتصاعد للدخول مع معترك الأزمة الكبرى بين الدولتين.
تركيا لم تعد قادرة على التراجُع عن هذه الصفقة، فإلغاء صفقة شراء منظومة S-400 الروسية، سيؤدّي إلى تضرّر العلاقة مع روسيا، وبالتالي فُقدان الكثير من التفاهُمات المرتبطة بسوتشي وأستانا وملفيّ إدلب والكرد، فضلاً عن انعكاسات سياسية وعسكرية عميقة قد تؤثّر وبشكل مباشر على التوجّهات التركية المستقبلية والمرتبطة بالحل السياسي في سوريا، خاصة مع بروز مستجدّ على الساحة التركية تمثّل في خسارة أردوغان وحزبه الانتخابات البلدية، وفُقدانه السّيطرة على رئاسة أهم المدن التركية والتي تُمثل ثقلاً سياسياً يُبنى عليه في أيّة تطوّرات قادمة، هذا الأمر شكّل صدمة غير متوقّعة لأردوغان، الأمر الذي سيدفعه إلى إجراء مراجعات جذرية في سياساته الداخلية والخارجية.
لكن في مقابل ذلك، من المؤكَّد أن واشنطن ستفرض عقوبات على أنقرة بدءاً من تأخير تسليم مقاتلات F-35، ومروراً بإقصاء تركيا من سلسلة جدولها الإنتاجي الخاص بتلك المقاتلات، و صولاً إلى جملة من العقوبات الاقتصادية والتي ستكون لها انعكاسات في الداخل التركي ستضرّ بمصالح أردوغان السياسية.
وبين روسيا والولايات المتحدة، تركيا تبحث عن استقلالية استراتيجية تُبلور الرؤية التركية الرامية إلى الدخول في نادي الكبار المؤثّرين والفاعلين في السياسات الإقليمية والدولية.
تركيا وسياسة المناورة الأطلسية
هواجس حلف شمال الأطلسي تُرجِمت مناشدات وتحذيرات لتركيا، و رغم ذلك فإنه من غير المرجّح أن تتراجع تركيا عن هذه الصفقة، فإلغاؤها قد يسبب شرخاً في العلاقة مع روسيا، لكن التداعيات المباشرة ستظهر على مستوى التنسيق الأمني والعسكري بين تركيا وحلف الناتو، هذا الأمر سيؤدّي حتماً إلى أزمات جيوسياسية، ستُعمّق الهوّة تحديداً بين أنقرة وواشنطن، وبالتالي تأثير سياسي وعسكري قد يمتد إلى شرق سوريا والملف الكردي، فالنقاش حول شراء المنظومة الصاروخية أُقفل تركياً، لكن الأطلسي وعلى رأسه واشنطن ينظر إلى هذه الصفقة عبر منظار خيارات تركيا الجيوسياسية الجديدة، فالقراءة الأميركية رأت بأن تركيا تسعى إلى الالتفاف على الأطلسي والابتعاد عن هذه المظلّة العسكرية، وهذا ضغط تمارسه تركيا على شركائها في الناتو، ليقتصر تدخّلهم على قضايا متعلقة بالحاجات الدفاعية والأمنية الناظمة لدول الحلف، لكن بعيداً عن توجّهات تركيا الجديدة، لذا، تسعى تركيا إلى أن تغلّف هذه الصفقة بإطارين، الأول توطيد علاقاتها مع الروسي، والثاني إبقاء الروابط مع الناتو والغرب عموماً.
ضمن هذه المعطيات، قال سونر كاغابتاي مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى ومؤلّف كتاب السلطان الجديد: أردوغان وأزمة تركيا الحديثة "، " لا أعتقد أن الدول الأعضاء في حلف الناتو ستشكّل بالضرورة جبهة موحَّدة في موقفها حيال شراء تركيا منظومة S-400. فبعض الدول الأعضاء في الناتو هي حليفة لروسيا، مثل هنغاريا، وفي إيطاليا مثلاً، تقود البلاد حكومة شعبوية ميّالة إلى روسيا، يُضاف إلى ذلك أن الأسرة الأوروبية الأوسع داخل حلف الناتو غير مصطفّة تماماً إلى جانب الولايات المتحدة راهناً بسبب التفاعل بين سياسات واشنطن من جهة والديناميكيات العابرة للأطلسي من جهة أخرى. لذا، لا أتوقّع أن يساند كل الأعضاء الأوروبيين في حلف الناتو واشنطن في معارضة قرار تركيا بشراء منظومة الدفاع الجوّي الروسية. بل يُرجّح أن يكون الوضع مختلفاً تماماً عن الجبهة الموحَّدة التي شكَّلها الناتو في العام 2013، عندما أعربت تركيا عن رغبتها في شراء نظام دفاع صاروخي صيني الصنع".
ويضيف كاغابتاي "مع ذلك، قد يُحدِث شراء أنقرة لمنظومة S-400 مضاعفات كارثية على العلاقات الثنائية الأميركية-التركية، إذ بات من المؤكّد تقريباً أن واشنطن ستفرض عقوبات على أنقرة في حال نفّذت تركيا قرارها، وأعتقد في هذا الصدَد أن البيت الأبيض استمدّ بعض الدروس من مقتل خاشقجي: فنظراً إلى أن إدارة ترامب أنقذت وليّ العهد محمّد بن سلمان نوعاً ما من الغرق في وحول هذه الجريمة، اتّخذ الكونغرس خطوات قوّضت فعلياً أسس العلاقات الأميركية-السعودية. ولتفادي وقوع أمر مماثل، سيُضطر البيت الأبيض إلى فرض عقوبات شرسة على أنقرة، تُضاف إليها العقوبات الخاصة بالكونغرس. أنا كنت عموماً متفائلاً نوعاً ما حيال مستقبل العلاقات الأميركية-التركية، لكنني متشائم بحذر هذه المرة".
وعليه، يبدو أن العلاقة الأميركية – التركية مُرجّحة للدخول ضمن سيناريوهات متعدّدة، وإذا ما استثنينا السيناريو الذي حصل فعلاً، وهو أن واشنطن أوقفت تزويد أنقرة بمعدّات خاصة بطائرات F-35 على خلفيّة صفقة منظومة S-400الروسية، تبقى هناك سيناريوهات تتراوح بين فرض عقوبات اقتصادية على أنقرة، بالإضافة إلى انسحاب تركيا من "الناتو".
الصحافي المقيم في واشنطن، "إلهان تانير"، في مداخلة نشرها "مركز كارنيغي للشرق الأوسط " إنّ الولايات المتحدة هدّدت، وهي الطرف الأهم في حلف "الناتو"، تركيا بـ "عواقب وخيمة" في حال نفّذت عملية شراء منظومة إس-400. وأشار تانير إلى أنه يمكن توقّع أن يفرض الكونغرس إجراءات قاسية على تركيا، بما في ذلك حظر إرسال مقاتلات إف-35 الخفيّة الجديدة إليها. وسيتم أيضاً اللجوء إلى قانون مكافحة أعداء الولايات المتحدة من خلال العقوبات. وأضاف "صحيحٌ أنه منذ إنشاء حلف الناتو، لم تنسحب أية دولة من عضويته، لكن ثمّة دوماً مرة أولى لكل شيء". واستطرد تانير بالقول: "يُعتقد أنّ منظومة إس-400 ستكلّف تركيا 2.5 مليار دولار، بَيْد أنّ أكلافها الحقيقية ستكون أعلى بكثير على الأرجح، بما في ذلك انسحاب تركيا من الناتو".
أما الباحث الزائر في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، "مارك بيريني"، فيقول في مداخلة نشرها أيضاً "كارنيغي للشرق الأوسط"، إنّه مع وجود منظومة S-400 في قلب الدفاع الجوي التركي، سيمسي كامل مخزون الناتو من طائرات F-16 و F-35في دائرة الخطر؛ لأن روسيا ستتمكّن على الأرجح من قراءة أداء هذه الطائرات عبر نظام روسي. وهذا أمر يرفضه كلٌّ من الولايات المتحدة والناتو؛ لأنه ما من طريقة لـ "عزل" الطائرات العسكرية التركية عن رادارات منظومة S-400.
وأردف بيريني قائلاً: " لننسَ إعلان تركيا أنّها تملك حرية الاختيار في ما يتعلق بالمشتريات العسكرية، أو ادّعاءها -الذي تنفيه موسكو- بأنّ روسيا ستكشف لها عن تقنيتها الصاروخية. ما يهم سياسياً هو أنّه إذا ما زوّدت موسكو أنقرة بأنظمة رادار من الجيل الأكثر تطوّراً، ونشرت عناصر روسية في القوات الجوية وشبكة الدفاع الجوي في تركيا، فسيفقد الناتو بالكامل ثقته في قدرة تركيا على أن تكون طرفاً يُعتدّ به في حال اندلاع أزمة عسكرية. وسيشكّل هذا الأمر إنجازاً كبيراً لروسيا، بَيْدَ أنّه سيُحدِث تغييرات عميقة في سياسة الدفاع الجوي لحلف الناتو".
في المحصّلة، يمكننا القول بأنه وعلى الرغم من سعي واشنطن إلى بناء درع صاروخية متكاملة في المنطقة من أجل التصدّي لـ روسيا و حلفائها، فضلاً عن حماية المصالح الأميركية في المنطقة من التهديدات المستقبلية، والتي تندرج حصراً ضمن أُطر نظريات التمدّد والنفوذ، يبدو أن تركيا ستسبّب خللاً في التوازن والتفوّق الاستراتيجي الذي تسعى واشنطن إلى فرضه في الشرق الأوسط، فحصول تركيا على هذه الصواريخ المتطوّرة، سيفتح الباب أمام دول أخرى حليفة لروسيا مثل العراق وإيران لاقتناء هذا المنظومات ذات التهديدات الاستراتيجية، وهذا يعني تقويض للخطط الأميركية الرامية للهيمنة على الشرق الأوسط، فضلاً عن الخسائر الاقتصادية التي قد تصيب واشنطن جراء التسويق والتسهيلات الروسية لحلفائها من اقتناء اسلحتها الاستراتيجية، وعليه، هل تكون تركيا وعبر تحالفها الاستراتيجي مع روسيا، بوابة للتغيّرات الجيوسياسية التي قد تُصيب مقتلاً في الجسد الأميركي والأطلسي؟، فالعديد من مراكز الأبحاث الغربية خلُصت في دراستها، إلى أن تركيا قد تغادر الحلف الأطلسي وقد تجمّد مطلبها بالالتحاق بالاتحاد الأوروبي والتوجّه الى دول البريكس وهي الصين وروسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا والهند.
وهل تُعدّ صفقة S-400 من ضمن الخيارات الجيوستراتيجية الجديدة لتركيا؟، أم هي مناورة تركية للضغط على الولايات المتحدة والقارة العجوز لتحقيق مطالبها وتفهّم هواجسها في العديد من القضايا الإقليمية والدولية؟.