"سابراك" والمهمة المستحيلة للوبي السعودي في أميركا
ينشط اللوبي السعودي في واشنطن وفي الغرب عموماً للترويج لسياسات المملكة، والتحريض على خصومها في المنطقة، وتبييض صفحتها وغسل أيديها من الدماء. غير أن هذا النشاط لا يبدو كافياً لدفع واشنطن إلى الحرب مثلاً، بل إنه لا يكفي حتى لضمان عدم ذهاب ترامب إلى خياراتٍ مناقضة لمصالح المملكة، خصوصاً وأن موازين القوى غير واضحة. الأمر الذي يصعب المهمة على مروجي الدعاية السعودية في الغرب.
لطالما اعتمد القادة السعوديون على حلفهم الوثيق مع الولايات المتحدة الأميركية، في مواجهة كل الاستحقاقات الكبرى التي يواجهونها، وكان يقابل هذا الاعتماد اعتماد الولايات المتحدة على مصادر الطاقة السعودية. الأمر الذي جعل من واشنطن ليس الحليف الاستراتيجي فحسب، وإنما الحامية الاستراتيجية الضامنة لاستقرار النظام السياسي في المملكة أيضاً.
لكن ظروف السنوات الأخيرة أظهرت حاجةً جديدة عند السعوديين. فهم حين وضعوا إيران كخصم أمام مشاريعهم في المنطقة، أرادوا أن يضمنوا تفوقهم عليها علو المستويات الاقتصادية والعسكرية من جهة، ومن جهةٍ أخرى اهتموا بتعزيز العداء بين طهران وواشنطن لحفظ مصالحهم ودورهم وقيمة سياستهم عند حليفهم الأميركي.
لذلك، فإن توقيع إيران الاتفاق النووي مع الدول الست في عهد باراك أوباما شكّل صدمةً للقيادة السعودية التي لم تستوعب كيف يمكن لخصمها الشرق أوسطي أن يبدأ مساراً جديداً من العلاقات مع الغرب، مع احتفاظه بكل مقدّرات قوّته، وفي مقدّمها الترسانة الصاروخية والبرنامج النووي. حيث اكتشف القادة السعوديون أن تأثيرهم بالقرار الأميركي ليس بالقدر الكافي لحماية رؤيتهم للمصالح السعودية. فكان تأسيس اللوبي السعودي في أميركا في آذار من عام 2017، والمعروف رسمياً بـ"لجنة شؤون العلاقات العامة السعودية الأميركية"، واختصارها "سابراك".
ومن المعروف أن للوبيات دور أساس في رسم السياسات في أميركا، وقد يكون اللوبي الإسرائيلي هناك هو الأكثر شهرة بالنسبة إلينا، نظراً لارتباطه وتأثيره على قضايانا في الشرق الأوسط، لكن ذلك لا يمنع من وجود لوبيات فاعلة جداً لعدد من الجاليات التي تعيش في أميركا والغرب عموماً.
وعلى الرغم من أن وجود الدور السعودي النافذ في واشنطن سابق لوجود "سابراك"، فإن تأسيس هذا الأخير ساهم في تنظيم الجهود السعودية وتوجيهها نحو أهداف محدّدة. وقد وضع هذا اللوبي هدفين مباشرين له، وهما "توضيح الصورة السلبية المأخوذة عن الداخل السعودي"، والتأثير بقرار الإدارة الأميركية وتغييره في حال إلى ما فيه ضرر للرياض ومصالحها.
ويرى مؤسّسو هذا اللوبي الذي يرأسه المحلل السياسي السعودي سلمان الأنصاري، أن وجوده يشكل تحولاً استراتيجياً لتحسين وتطوير العلاقات السعودية الأميركية على الصعيدين الإعلامي والسياسي. حيث أن للعلاقات العامة في واشنطن الدور المحوري في صناعة الرأي العام وتحديد السياسات.
وقارن السعوديون عند استلام دونالد ترامب مقاليد الحكم في واشنطن بين التأثير الذي أحدثه اللوبي الإيراني هناك بقرارات إدارة أوباما، وبين عدم فاعلية علاقاتهم التاريخية مع أميركا في إعاقة هذا التأثير الذي أوصل إلى الاتفاق النووي وتحقيق الإيرانيين نصراً على السعودية في قلب أميركا. فخرجوا بضرورة تأسيس لجنة العلاقات العامة السعودية الأميركية، التي أريد لها أن تنشر صورة معينة للسعودية في المجتمع الأميركي وبين المسؤولين الأميركيين.
وعلى الرغم من وجود لوبي سعودي سابقاً، فإنه لم يكن تحت مظلة واحدة معروفة، حيث أشار خبراء ومحللون إلى أن العديد من الهيئات غير الربحية النافذة في واشنطن تعتمد على دعم الحكومة السعودية، منها المجلس الأطلسي، وهو مركز أبحاث يقدم الاستشارات للمشرّعين حول السياسة الخارجية، حيث يلقى مساهمات مالية من المملكة العربية السعودية ومن حكومات أجنبية أخرى.
وبدأت "سابراك" دعايتها السعودية في أميركا حين حاول الأنصاري التخفيف من حدة قانون "العدالة ضد رعاة الإرهاب" المعروف بـ "جاستا" الذي أقره الكونغرس عام 2016 والذي سمح بمقاضاة السعودية ومطالبتها بتعويضات بتهمة الإرهاب، واعتبره تهويلاً على السعودية. بل أنه حاول قلب الدعاية ضد خصوم بلاده بأن اعتبر إيران المتضرّر الأبرز من هذا القانون. وساق في هذا السياق مجموعة من المعطيات التي رأى فيها ضرراً لإيران جراء إقرار "جاستا". ولكنه ناقض كلامه بنفسه في التصريح ذاته، فاعتبر أن "قانون جاستا ليس قانوناً حقيقياً وقابلاً للتطبيق، فالتعامل بالمثل سيوقف فعالية هذا القانون بشكل مباشر"، وقال: "ليس هنالك حق قانوني لنزع الحصانة القضائية العالمية، قد يقول قائل ولكن أميركا إذا أرادت شيئاَ فستفعله، أقول نسبياً في حال لم يكن عليها ضرر".
إذن، كانت انطلاقة اللوبي السعودي بصيغته الجديدة المطوّرة مشوّشة الرؤية ومرتبكة، ولم تستطع خلال حكم أوباما وفي الفترة الأولى من حكم ترامب أن تؤثر فعلياً أو تغيّر في اتجاهات الأمور في واشنطن. لكن الحال تغيّر مع زيارة ترامب وعائلته إلى الرياض، والأموال التي تمكّن من سحبها من هناك، على شكل اتفاقيات وهدايا ومشروعات طويلة المدى وعميقة الأثر على مالية الرياض. نحو 500 مليار دولار كانت حصيلة الزيارة، لم يعد بعدها اللوبي السعودي بحاجة إلى الكثير من الضغط لإقناع ترامب بجدوى التصعيد ضد إيران. لكن بقي موضوع شن الحرب مسألة أخرى، لم يتمكن السعوديون من إقناع ترامب بها، نظراً لارتباطها بالأمن القومي الأميركي بصورةٍ مباشرة، وعدم وضوح الكلفة الحقيقية لها، خصوصاً وأن القدرات الإيرانية الحقيقية لا تزال غامضة بالنسبة لواشنطن، في حين أن المعلوم منها خطر جداً على مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وفي مناطق أبعد منه.
وقد تم الربط بين الزيارة السابقة لوزير الخارجية السعودي عادل الجبير إلى واشنطن وعقده لقاءات مع عدد كبير من المسؤولين الأميركيين بالجهود الحثيثة التي أطلقتها الرياض للتصدي لإيران، حيث يرى السعوديون أن اللوبي الإيراني في واشنطن تمكن من خلق رأي عام متوجّس من المملكة ثبّت الربط بينها وبينها الإرهاب والفكر المتطرف المؤدي إلى انتشاره. حيث تفاجأ السعوديون بهجوم عنيف عليهم من قبل سياسيين من الحزبين الديمقراطي والجمهوري.
ومنذ ذلك الحين تحاول السعودية استغلال العلاقات العامة والمقدّرات والمؤهلات التي تسمح لها ببناء لوبي فاعل في تحديد السياسات الأميركية، مستفيدة من القوّة الاقتصادية والمالية للمملكة وكثرة رجال المال والأعمال السعوديين الناشطين على الأراضي الأميركية. لكن مراقبين كثراً يرون أن ذلك اللوبي في حاجة لمزيد من النشاط على جبهة الدعاية والإعلام واستقطاب المزيد من المناصرين للمملكة من الإعلاميين ورجال السياسة والفكر.
ومع تفجر الأزمة بين السعودية وقطر، استخدمت الرياض اللوبي السعودي في واشنطن لمحاولة تشويه صورة قطر والتأثير بالإدارة الأميركية ضد الدوحة. حيث قادت "سابراك" حملة واسعة ضد قطر، وقد كشفت صحيفة "ذا ناشيونال" الإماراتية الصادرة بالإنجليزية في تموز 2017 أن "الحملة التي تعرضت لها قطر في الولايات المتحدة إنما أخذ بها اللوبي الإسرائيلي في واشنطن"، ما قرئ على أنه لقاء مصالح بين "أيباك" و"سابراك"، الأمر الذي ساهم في تعزيز المسار الذي أوصل إلى تطور علاقات سعودية إسرائيلية باتت اليوم شبه معترف بها.
وكان الأنصاري قد كتب عدة مقالات داعمة لإسرائيل بموقع CNN، وكتب في عام 2014 مقالًا بعنوان "زوال إسرائيل ليس من مصلحة العرب"، ومقالا آخر بعنوان "إسرائيل لم تقتل المدنين في سوريا ولم تشعل الحرب السنية الشيعية"، كما كتب مقالاً بعنوان "إسرائيل لم تتعرض لأمن السعودية على مدار 70 عاماً"، ذكر فيه أن هناك المئات من اليهود الذين يعملون في المملكة بقطاعات الاستثمار والطاقة، وأن إسرائيل جزء أساسي من رؤية المملكة 2030، وأمنها من أمن السعودية، وفقاً لـما نشرته شبكة مرسال قطر.
ومؤخراً مع تصاعد حدة التوتر بين واشنطن وطهران، تواصل الرياض مساعيها للتأثير على الإدارة الأميركية لزيادة هذه الحدّة، سعياً وراء حرب ترى أنها ستكون لمصلحة واشنطن، وتريح الرياض من أزماتها الكثيرة في المنطقة، وأبرزها حرب اليمن التي أنهكتها ولم تعد تستطيع مواصلتها ولا الانسخاب منها.
وقد صرّح مدير ومؤسّس مبادرة "الشفافية في التأثير الأجنبي" بمركز السياسة الدولية بن فريمان، بأن المال السعودي واللوبي الذي شكلته الرياض في واشنطن يواصل الضغط على ترامب والكونغرس، وهو ما ظهر جلياً في قرار الفيتو الذي أصدره ونقض بموجبه قرار الكونغرس التاريخي الذي يطالب بوقف التدخل الأميركي في حرب اليمن، والذي كان توبيخاً قاسياً للتحالف الذي تقوده السعودية في اليمن وأدى إلى أسوأ أزمة إنسانية بالعالم.
واعتبر فريمان أنه من الواضح أن على الولايات المتحدة ألا تدعم التحالف الذي تقوده السعودية، والذي استخدم الأسلحة الأميركية بشكل متكرّر، في الهجمات التي قتلت مدنيين، وحتى الشراكة سراً مع مقاتلي "القاعدة"، وهو ما أدى إلى عودة هذا التنظيم المسؤول عن هجمات 11 سبتمبر 2001. متسائلاً: "لماذا استغرق الكونغرس كل هذا الوقت لتمرير شيء في مصلحة الولايات المتحدة؟ ولماذا يستخدم ترامب حق النقض ضده؟ هناك إجابة بسيطة تتعلق بالتأثير غير العادي للوبي السعودي"، يقول الكاتب.
وبحسب تقرير مبادرة شفافية التأثير الأجنبي، فإن الشركات المسجلة في قانون تسجيل الوكلاء الأجانب أبلغت عن تلقي أكثر من 40 مليون دولار من السعودية بين عامي 2017-2018، وقد اتصلت جماعات الضغط السعودية وخبراء العلاقات العامة بالكونغرس ووسائل الإعلام والمراكز البحثية أكثر من 4 آلاف مرة، حيث ركزت تلك الاتصالات على ضرورة ضمان استمرار مبيعات الأسلحة الأميركية للسعودية، ومنع أعمال الكونغرس التي من شأنها إنهاء الدعم الأميركي للتحالف الذي تقوده الرياض باليمن.
لكن جهود "سابراك" في أميركا أصيبت بضربة موجعة جداً بعد تكشف تفاصيل قضية مقتل المعارض السعودي جمال خاشقجي في سفارة بلاده لدى أنقرة، حيث تأثرت صورة السعودية بصورة سلبية إلى الحد الأقصى. وقد توقفت شركات دعاية وجماعات الضغط عن أخذ الأموال من السعودية، بالإضافة إلى بعض المؤسسات الفكرية والجامعات الأميركية، ما أسهم في قرار الكونغرس الأخير التصويت بالموافقة على إنهاء الدعم الأميركي لحرب اليمن.
لقد أنفقت الرياض أموالاً طائلة عل حملات الدعاية في أميركا، وقد توصلت دراسة للباحثة ليديا دينيت المحققة في "مشروع مراقبة الحكومة" في أميركا إلى مجموعة من المجالات التي يجاول السعوديون التأثير فيها بطريقتين: الاتصال الشخصي بالمسؤولين ورجال السياسة والإعلام، وحملات العلاقات العامة.
وقالت إن مندوبي السعودية اتصلوا بكل عضو في مجلس الشيوخ، وكذلك أولئك الذين يشاركون في لجان المخصصات، ولجان الشؤون الخارجية ولجان الخدمات المسلحة عدة مرات – أولئك الذين يتخذون القرارات مباشرة بشأن صفقات الأسلحة والمواقف السياسية.
وأنه وفي حملات العلاقات العامة نشر ممثلو المملكة مواد إعلامية وإعلانية ضخمة، تتحدث عن الإصلاح في السعودية، وتصورها كحليف ثمين في الشرق الأوسط، وتؤكد أن ما تفعله في اليمن ليس فقط لصالح الولايات المتحدة، ولكن أيضاً لصالح اليمن نفسها.
والأهم أن هذه الدراسة توضح تاريخ جماعات الضغط السعودية في أميركا، ونشاطها الداعم لسياسات المملكة، وصورة وليّ العهد. وتفاصيل ما يتقاضاه وكلاء الأمير محمّد بن سلمان في واشنطن، مقابل إقناع صناع القرار والرأي العام بمصالح وليّ العهد، وقبوله كحاكم مقبل للمملكة.
غير أن المعضلة الكبرى التي تبقى صامدة وعصيّة على تأثير "سابراك" هي عدم التزام الولايات المتحدة مع حليف تاريخي، وبيعها لحلفائها عند أول صفقة رابحة، فكيف الحال حين يقودها دونالد ترامب؟