درب الوصول إلى الله
قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ , فأمر الله سبحانه العبد أن ينظر ما قدم لغد، وذلك يتضمّن محاسبة نفسه على ذلك، والنظر هل يصلح ما قدمه أن يلقى الله به أو لا يصلح ... قال بعض العارفين: دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها، فما دخلت من باب إلا رأيت عليه زحاماً، فلم أتمكن من الدخول حتى جئت باب الذل والافتقار، فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه، ولا مزاحم فيه ولا معوق، فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته، فإذا هو سبحانه قد أخذ بيدي وأدخلني عليه. وقد ورد في الدعاء: "وأن الراحل اليك قريب المسافة، وأنك لا تحتجب عن خلقك ألا ان تحجبهم الأعمال دونك .. فالسالك إلى الله قريب المسافة، وبينه وبين الله قدمان الأول مخافة الله والثاني مجاهدة النفس. من وثق بالله أراه السرور، ومن توكل عليه كفاه الأمور، والثقة بالله حصن لا يتحصن فيه إلا مؤمن أمين، والتوكل على الله نجاة من كل سوء وحرز من كل عدو والدين عز، والعلم كنز، والصمت نور، وغاية الزهد الورع، ولا هدم للدين مثل البدع، ولا أفسد للرجال من الطمع.
<p> </p>
<p>المحور الأول:</p>
<p>يحيى أبو زكريا: حيّاكم الله، وبيّاكم، وجعل الجنّة مثواكم. </p>
<p>قال الله تعالى في محكم التنزيل "يا أيّها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد"، فأمر الله سبحانه العبد أن ينظر إلى ما قدّم لغد، وذلك يتضمن محاسبة نفسه على ذلك، والنظر هل يصلح ما قدّمه أن يلقى به الله أو لا يصلح؟ قال بعض العرفاء دخلت على الله من أبواب الطاعات كلّها فما دخلت من باب إلا رأيت عليه زحام، فلم أتمكّن من الدخول حتى جئت باب الذل والافتقار، فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه، ولا مزاحم فيه ولا معوّق فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته، فإذا هو سبحانه قد أخذ بيدي وأدخلني عليه. قال الحبيب الطبيب صلى الله عليه وآله وسلم: "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك"، وهنا نقطة بداية الطريق إلى الله. عندما يهذّب الإنسان روحه ونفسه ويتخلى عن الكبائر والصغائر ما استطاع، وعندما يتجرّد لله ويتوجه إلى حضرته يبدأ السمو والسطوع على صعيد الروح. على العبد أن يعمل على استحضار مشاهدة الله إيّاه واطّلاعه عليه وقربه منه. فإذا استحضر العبد هذا في عمله وعمل عليه فهو مخلص لله تعالى لأنّ استحضار المولى عز وجل في عمله يمنعه من الالتفات لغير الله وإرادته بالعمل. قال الحارث المحاسبي: "أوائل المراقبة علم القلب بقرب الرب"، وقال بعض السلف: "من عمل لله على المشاهدة فهو عارف ومن عمل على مشاهدة الله إيّاه فهو مخلص".</p>
<p>وقد ورد في الدعاء أن الراحل إليك قريب المسافة، وأنّك لا تحتجب عن خلقك إلا أن تحجبهم الأعمال دونك، فالسالك إلى الله قريب المسافة، وبينه وبين الله قدمان مخافة الله والثاني مجاهدة النفس. لا تخضعن لمخلوق على طمع، فإنّ ذلك وهنّ منك في الدين، واسترزق الله ممّا في خزائنه فإنما هو بين الكاف والنون. فإذا تطهّر القلب من الصفات الدنيّة، وأصبح سليمًا يكون قد سلّم من الانشغال بكل شيء سوى الله، فيتحقّق بالعبودية، ويتحقّق فيه الغرض من الخلق كن عبدًا. وإذا كنت في الطريق إلى الله فاركض، وإن صعب عليك فهرول، وإن تعبت فامشِ، فإن لم تستطع فسر حبوًا، وإيّاك والرجوع. وممّا قاله أمير العرفاء علي بن أبي طالب: "المعرفة رأس مالي، والعقل أصل ديني، والشوق مركبي، وذكر الله أنيسي، والثقة كنزي، والعِلم سلاحي، والصبر ردائي، والرضا غنيمتي، والفقر فخري، والزهد حِرفتي، والصدق شفيعي، والطاعة حبّي، والجهاد خلقي وقرّة عيني"، "من وثق بالله أراه السرور، ومن توكّل عليه كفاه الأمور، والثقة بالله حصن لا يتحصّن فيه إلا مؤمن أمين، والتوكّل على الله نجاة من كل سوء، وحرز من كل عدو والدين عز، والعِلم كنز، والصمت نور وغاية الزهد الورَع، ولا هدم للدين مثل البِدَع، ولا أفسد للرجال من الطمع.</p>
<p>"درب الوصول إلى الله" عنوان برنامج أ ل م، ويشاركنا فضيلة الشيخ المربّي محمد أبو الوصل أبو القطع مربّي جمعية الدُعاة الإسلامية، ومن الجزائر الحبيبة الدكتور أمين طيبي عضو مخبر الدراسات الصوفية في جامعة بوزريعة في الجزائر العاصمة.</p>
<p>مشاهدينا مرحبًا بكم جميعًا.</p>
<p>"السير إلى الله" الشيخ حسن زادا آملي</p>
<p>يقول المؤلّف خليلي نحن نيام في فراش الغفلة، وقد أدبرت العاجلة. لقد أقبلت الآخرة، وقد أتى يوم تبلى فيه السرائر، وما زرع في الأول يحصد في الآخر، فانظروا بما أسلفتم في الأيام الخالية، واقرأوا ألواح أنفسكم تخبركم عن غدكم وعن أمسكم، واستمع لما يقوله أمير الموحدين: "ليس أحد من الناس تفارق روحه جسده حتى يعلم إلى أي المنزلين يصير إلى الجنة، أم إلى النار". أعدوٌ هو لله أم وليّ له فإن كان وليًا فتحت له أبواب الجنة، وشرّع لها طريقها، ونظر إلى ما أعدّه الله عزّ وجلّ لأوليائها فيها. فراغ من كل شغل، ووضع عن كل وإن كان عدوًا فتحت له أبواب النار، وسهّل له طريقها، ونظر إلى ما أعدّه الله لأهلها واستقبل كل مكروه. فطوبى لمَن انتبه من النوم، وشمّر ليله لتدارك اليوم. وطوبى لمَن صدقت سريرته، وبانت دلائلها واضحة في علانيته، فارتسم ذلك على لسانه وقلبه، وانكسرت نظرات عينيه، وترقرق الدمع في جفنيه، وكان دائمًا يسقي عطش خديه معبّرًا كل حين عن تقصيره.</p>
<p>يحيى أبو زكريا: فضيلة الشيخ محمّد، المولى عزّ وجلّ أوجد هذا الإنسان ليعرفه ووضع الطرائق إلى ذلك، كيف السبيل للوصول إلى جماله إلى جلاله، وإلى كنه وجوده لأن الإنسان إذا أحبّ ربّه لم يؤذِ أحدًا، ولم يقتل أحدًا، ولم يغتب أحدًا، ولم ينمّ ضد أحد، ويعيش مسالماً مع نفسه ومع الناس ومع ربهّ إلى أن يلقى الله.</p>
<p>محمد أبو الوصل: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله تعالى على سيّدنا رسول الله محمّد وعلى آله وأصحابه أجمعين والتقديس لسرّ أولياء الله الصالحين من العارفين. لا بدّ للوصول من اتّباع الأصول، ومن لم يتّبع الأصول لا يبلغ الوصول. ولا يكون وصول إلا بعد قبول، ولا يكون قبول إلا من خلال الدخول من حضرة الرسول الأعظم صلّى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. وللوصول إلى الرسول ولنيل مرتبة القبول لا بدّ كما قال الله تعالى في القرآن الكريم "الرحمن فاسأل به خبيرًا"، كما أننا نبحث عن خبراء اللغة وخبراء المعامل والمصانع والإنتاج. يجب علينا أن نبحث عن الخمير في الله، الرحمن فاسأل به خبيرًا. إذهب إليه واجلس بين يديه واسأله عن الله، وعن الوصول إلى الله كما فعل سيّدنا موسى عليه السلام مع سيّدنا الخضر عليهما السلام، قال له: "هل اتّبعك على أن تعلّمني ممّا علمت رشدًا". لم يقل له على أن تعلّمني اللغة أو الفرائض أو النحو أو هذه العلوم، لكن على أن تعلّمني ممّا علمت رشدًا، لا بد لبلوغ الرشد من اتباع المرشد، وإذا لم يتبع المرشد يستحق قوله تعالى: "ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا". إذًا لا بدّ من الخمير بالله، لا بدّ من المرشد الدال على الله، لا بدّ في عالم ذكرت جنابك وفي عارف العالم يعلم الحكم الشرعي أمّا العارف يوصلك بالحكيم. بمعنى العالم يعلّمك كيف تخرج من مالك نصاب زكاة المال 2 ونصف بالمئة، أما العارف بالله الخبير بالله جل وعلا فهو يخرج حب الدنيا من قلبك. هناك من يعلّمك ذكر الله، وهناك من ينقلك ليضعك بين يدي الله تعالى، أن تذكر الإسم شيء، وأن تكون حاضرًا مع الله أمر آخر تمامًا، وأن تطلب منه شيئاً وأن تطلبه لذاته العليا شيء آخر تمامًا.</p>
<p>إذًا لا بدّ من عارف يعرف الطريق إلى الله جلّ وعلا، وهذا العارف هو الخليفة النبوي والوارث المحمّدي الوارث العلماء ورثة الأنبياء. حروف سوداء على أوراق بيضاء لا تنتج علماء، حروف سوداء من معاهد ومن كليات هذه علوم سطحية، هذه علوم على اللسان لا بدّ منها، لكن من يغذّي القلب، ومن يغذّي الروح إلا صاحب قلب حيّ بذِكر الله وصاحب روح متصلة بروح رسول الله صلّى الله تعالى عليه وآله وأصحابه. كل هذا لا يدرك إلا من خلال حبيب لله جلّ وعلا لأنّ الأساس بيننا وبين الله جلّ وعلا العلاقة قائمة على الحب، يحبّهم ويحبّونه، يحبّهم ويحبّونه هو الذي بدأنا بالحب. ما هو الحب؟ الحب شعور بالحضور بين يدي الإله المذكور الله جلّ وعلا، الحب عندما يوجد ويكون الحب قائمًا، الحب يطوي المسافات، الحب يقطع الأوقات، الحب إيثار المحبوب على كل ما هو مطلوب، الحب أن أكون مع الحبيب في المشهد والمغيب، الحب أن تستقلل الكثير من نفسك وتستكثر القليل من حبيبك. لا يكون هذا إلا بعد أن أكون تابعًا.</p>
<p>يحيى أبو زكريا: أحسنت لقد وضعتنا في الطريق السويّ، ونسأل الله تعالى أن يُنير قلوبنا وعقولنا بحب أهل الله الذين يصلوننا إليه. </p>
<p>دكتور أمين طيبي لِمَ اتبعنا دعاة الحرب؟ انفجر الوضع في العالم العربي والإسلامي وتركنا علماء الحب علماء العرفان. لماذا بات العرفان بضاعة غير مقبل عليها في العالم العربي والإسلامي؟ لماذا ثقافة الأخلاق والرقيّ العرفاني وحب الله تعالى أنسانا أن نتوجّه إليه بالكامل؟ لقد ذهب المسلمون إلى فكر الجهاد وإقامة الدولة الإسلامية من دون أن يربّوا أنفسهم قيد أنملة، ومن دون أن يربّوا أنفسهم على الإيثار والتواضع وخفض الجناح لله وللناس أيضًا. من غيّب في نظرك ثقافة العرفان في خط طنجة جاكرتا؟</p>
<p>أمين طيبي: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. بادئ ذي بدء أودّ أن أرحّب بالدكتور يحيى، وشيخنا الفاضل. وكما يقولون الوقوف أمام السيوف أهون من الوقوف أمام الصفوف، فكيف لو كان في الصف دكتور يحيى وشيخنا الفاضل.</p>
<p>يحيى أبو زكريا: نحن خدّامكم دكتور إن شاء الله.</p>
<p>أمين طيبي: أسأل الله تعالى أن يعينني. شكرًا في ما يخصّ سؤالك سيّدي الفاضل العامل الأول ربما هو التشويه المُمَنْهَج الذي تعرّض له التصوّف، وتعرّض له رجال العرفان طيلة القرون الماضية حتى إلى زمننا هذا. وتشويه التصوّف من طرف المستشرقين والإنتروبولوجين، وحتى من طرف المنتسبين إليه جعل العامة بين قوسين ينفرون من هذا الجانب العرفاني المغيّب. وكما نعلم، وكما تعلم أستاذي الفاضل بأنّ الدين يقوم على إسلام وإيمان وإحسان الرسول صلّى الله عليه وسلّم لمّا سألوه عن جبريل، قال هذا جبريل جاء يعلّمكم دينكم، فالإحسان ومقام الإحسان ضمن الدين. ولذلك نجد وَرَثة العلم الشرعي من فقه وأصول وغير ذلك، ووَرَثة العلم العقدي والإيماني. وللأسف في هذا الزمان غيّب ورَثة العارفين بالله، لذلك سيّدي الفاضل إنّ تغييب وتشويه التصوّف وربطه بالبطالة، وربطه بأشياء لا تمتّ للتربية الروحية وللتزكية بأية صفة هي ما جعل الناس تنفر من هذا التصوّف.</p>
<p>الأمر الثاني هو غياب أناس التصوّف الحقيقيين، وتصدّر أصحاب التصوّف الشعبوي إن صحّ التعبير، أو كما عبّر عن ذلك المؤرّخ أبو القاسم سعد الله. لقد تصدّر شيوخ التصوّف الفولوكلوري الذي بُنِي على طقوس لا تمتّ للإسلام وللدين بأية صلة. من هذا المنطلق نرى الشباب ينفرون من كلمة التصوّف، فحين تناقش أيّ شاب أكاديمي، أو شاب من الشارع وتذكر له كلمة تصوّف يتبادر إلى ذهنه الشعوَذة والدروَشة والبطالة، وهذا أمر حذّر منه العارفون. وبناءً عليه فقد قسّموا التصوّف، أو التربية الروحية إلى متصوّفة أرزاق، ومتصوّفة حقائق، ومتصوّفة الرسوم. لذلك في هذا الزمن الذي نعيشه تمّ التركيز على جانب الرسوم، وجانب الطقوس الشعبوية. وغُيّب التصوف الحقيقي المُتمثّل في رجال صالحين صادقين يؤثّرون بالقدوة كما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يؤثّر في الصحابة، وكما أثّر الصحابة في التابعين، وكما أثّر التابعون في تابعي التابعين، وحين طال العهد بالنبوّة، وجنح الناس إلى الفتوحات الإسلامية وما أصاب الأمّة من تغيّرات في الاقتصاد، وفي الثقافة من امتزاج بغيرها من الحضارات بادر هؤلاء العارفون الأوائل، وكتبوا في التصوّف كما كتب أصحاب الفقه، وكما كتب أصحاب الكلام هذا الجانب التنظيري التجريدي الذي مثّله أمثال جنيد البغدادي وخاله سهل التستري، كل هؤلاء غيّبوا الآن، وأول كلامهم شطحات لا تمتّ إلى السلام بأية صلة من الصلات.</p>
<p>يحيى أبو زكريا: دكتور أمين ما جئت على ذِكره صحيح، لكن يبقى القول إنّ العلامات والقناديل والمنارات عندما نقرأ لها لا نملك إلا أن نطأطئ الرأس لقامات أحبّت الله وتلذّذت بعبادته. ذكرت الجنيد، وذكرت سهل التستري، وأذكر أبو يزيد البسطامي، وأذكر الشيخ الرفاعي، وأذكر وأذكر مئات الآلاف من الذين أدركوا أن الدنيا دار الغرور، وأنّها متاع قليل، ولاذوا بالذِكر، وعبدوا الله، وتركوا لنا سيرًا وقصصًا في مفهوم حبّ الله وعشقه. وهنا سماحة الشيخ، كيف نفرّق بين الفولكلوري كما ذكر ضيفي من الجزائر الحبيبة وبين العارف؟</p>
<p>محمد أبو الوصل: استفتِ قلبك، وإن أفتوك كل شيء يمكن للإنسان أن يدّعيه إلا المشاعر الداخلية التي تسيطر عليه وتهيمن عليه. نحن اليوم بحاجة إلى روح الكلمة، هناك كلام بحاجة إلى روح هذه الكلمة، ولا يعطي روح الكلمة إلا صاحب روح.</p>
<p>يحيى أبو زكريا: صحيح.</p>
<p>محمد أبو الوصل: لأنّ الله تعالى عندما قدّس الإنسان، ما قدّسه لبدنه، "إذ قال ربك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة" أليس كذلك؟ "إني خالق بشرًا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين". إذًا التقديس هو للروح وليس للبدن، وللدلالة على ذلك عندما تخرج الروح من البدن، البدن يوارى في الثرى لأن الشيء المقدّس فيه خرج منها ألا وهي الروح. إذًا ما هي الروح؟ الروح جسم نوراني خفيف، والبدن جسم حسّي كثيف. وكلّ ما خفّ البدن صار نحيفًا خفيفًا، وسمنة الأرواح هي دهون المعاصي وشحوم الغفلات عن الله جلّ وعلا، وكلّ ما انشغل على صفاء الروح وعلى نقاء الروح لماذا؟</p>
<p>لأن الروح غذاؤها صفاؤها معشوقها عروجها، فإذا صار لها ارتقاء صار لها لقاء، والبدن يحتاج إلى فتح الباب أمامه ليلج منه. أمّا الروح فهي تقطع المسافات، وتذهب إلى كل الأماكن لتلتقي بكل الأشخاص على مدى العصور والدهور، فهي ليست بحاجة إلى مكان، هي في كل مكان.</p>
<p>يحيى أبو زكريا: ولهذا قال لإبن سينا في تعريف الروح: </p>
<p>"هبطت إليك من المحل الأرفع ورقاء ذات تمنّع وتعزّز".</p>
<p>سأمضي إلى فاصل، وأعود إليك مباشرة بُعيده فضيلة الشيخ إذا سمحت. مشاهدينا فاصل قصير، ثمّ نعود إليكم فابقوا معنا.</p>
<p>"ميزان السير والسلوك" أكرم بركات</p>
<p>كتاب قيّم للشيخ أكرم بركات يقدّم فيه مسارات السير والسلوك، وجاء في الكتاب إنّ بعض الفِرَق المنسوبة إلى الصوفية اتجهت إلى طريقة التزكية بتحقير النفس أمام الناس للسلامة. من آفات الجاه والرياء ولو بارتكاب كبائر الذنوب كما نقل أبو حامد الغزالي عن إبن الكريني أنه سرق أمام الناس لأنهم عرفوه بالصلاح. وإن بعضهم كان يستأجر من يشتمه على ملأ من الناس ليعوّد نفسه الحلم، وادّعى بعض الناس أن تزكية النفس بحاجة إلى العزلة عن المجتمع وعن الدنيا ونعيمها لينصرف إلى عبادة الله، وقد بنوا الصوامع في أمكنة بعيدة عن الناس ليتعبّدوا فيها. واعتبر البعض أن تزكية النفس تتحقّق من خلال أوراد وأذكار لسانية يكرّرها السالك، ولا يسمح بالشروع فيها من دون إذن أستاذ خاص لأن ذلك كحكم الأدوية أحدها مضرّ وآخر نافع.</p>
<p> </p>
<p>المحور الثاني:</p>
<p>"آداب النفوس" أبو عبد الله الحارث المحاسبي</p>
<p>إنّ أعظم ما في هذه الدنيا هو شعور المرء منّا برضى الله عزّ وجلّ عنه، والدخول في طاعته. ولكنّنا كثيرًا ما نسينا هذا الأمر الجليل بسبب كثرة الذنوب وتراكم العيوب واللهث وراء الشهوات الفانيات وزهدنا في الباقيات الصالحات. حقًا أنّنا في حاجة للوقوف مع أنفسنا لكي نتعرّف كيف نبدأ طريق العودة إلى الله، وما هي السبل الموصلة إلى الهداية، وكيف نتخلّص من عيوبنا. فالعبد منّا دائمًا لا يرى في نفسه إلا الخير، فإنّنا لكي نتعرّف إلى عيوبنا علينا أن نقوم بتجريد النفس والبحث عما استتر بداخلها من أمراض النفوس وضغائنها، فالكتاب يرشدنا لكي نبحث بصدق، ولا نتجاهل تلك العيوب، ونخشى من رؤية ربّ الناس لنا مع أننا على يقين من رؤيته لأعمالنا واطّلاعه على أسرارنا. إنّ هذا الكتاب صنّف لكل تائب يريد العودة بصدق إلى الله تعالى، وفي الوقت نفسه لكل نادم على تقصيره، ويبحث عن تزكية نفسه كيف تكون ليحظى بمرتبة المحسنين.</p>
<p>يحيى أبو زكريا: مشاهدينا عدنا والعود أحمد، نحن نتحدّث عن درب الوصول إليه، وعميت عينه لا تراه متى غاب حتى نسأل عنه. نحن الغائبون وفي هذا السياق أذكر أن هنالك مؤلّفات جميلة ورقيقة في المواعِظ والرقائق من جملة هذه الكتب الطريق إلى الله للدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر، وميزان السير والسلوك للشيخ أكرم بركات، وجلال الدين الرومي رحمة الله عليه الذي لم يفهم نهائيًا الطريق إلى الله الذي كان يقول الطرق إلى الله بعدد أنفاس البشر، وأنا اخترت طريق الناي، وآداب النفوس للحارث المحاسبي، ومدارج السالكين وهو كتاب رقيق لإبن القيم الجوزية، والسير إلى الله للشيخ حسن زادا آملي كتاب جميل جدًا، وكل كتب الرقائق جميلة.</p>
<p>فضيلة الشيخ كنت تتحدّث عن الروح، هذا الكيان النوراني الذي هو مصدر الطاقة لأنّ الإنسان عندما يموت يجمد بينما والروح في داخلنا تجعلنا حريكيين نشطين، نصفّف كلامًا، نحرّك عيوناً، وما إلى ذلك. </p>
<p>تفضل.</p>
<p>محمد أبو الوصل: مولانا عادة علميًا الآن نتحدّث عندما تفكّر بأي إنسان آخر بالمطلق، هذا الكلام جاء به علماء الغرب عندما تفكّر بأي إنسان فإنّ الكهرومغناطيس يجري بينك وبينه مطلقًا، ولو كان بأية بقعة من العالم من تفكر فيه هو يفكر فيك وبك بإذن الله تعالى.</p>
<p>يحيى أبو زكريا: كعلاقة الحب بيني وبينك.</p>
<p>محمد أبو الوصل: أبدًا أبدًا. سنأتي إليها إن شاء الله جلّ وعلا، وهنا الأقوى يجذب الأضعف إليه، وأنت الأقوى يجذب الأضعف إليك.</p>
<p>يحيى أبو زكريا: أعزّك الله.</p>
<p>محمد أبو الوصل: ثانيًا النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله وأصحابه علّمنا بأنّ الروح السمع بلا أذن،والرؤية بلا عين، والتكلّم بلا لسان. إنّها لغة الأرواح، الأرواح جنود مجنّدة، جنود عند مَن؟ عند أهل الحب تلتقي ليتنا نتأمّل العالم، يبترون الحديث، تلتقي في الهواء فتشام كما تشام الخيل، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر وفي. رواية وما تنافر منها اختلف عدت إلى كتاب عالم الحيوان لأقرأ لمّا سيّدنا النبي صلّى الله عليه وآله وأصحابه قال تلتقي في الهواء فتشام كما تتشام الخيل، لأن الخيل عندما يبتعدون عن بعضهم البعض يعودون إلى بعضهم البعض من خلال تناسم روائح بعضهم البعض، وبينهم كيلومترات. نعم فإذًا هناك رائحة للأرواح كما أنّ للأبدان رائحة. هناك للأرواح رائحة ورائحة البدن تأتي من الذهن، الذهن تنعكس على رائحة الجلد، وعلى رائحة البدن، ورائحة الروح عندما تعرج تعرج إليه. عندما يكون هناك عروج، ماذا يكون إذا صار من الذاكرين، وصار من المقرّبين. إذا صار من المقرّبين صار من المُستأنسين، فإذا صار من المُستأنسين. هذا صاحب الروح أجلسه الله تعالى على كرسي التوحيد، وكشف له عن سبحات وجه جماله وعن كماله، وعن جلاله، والصاحب صاحب فينعكس من نور الله على وجهه.</p>
<p>يحيى أبو زكريا: لله ذرّك، مَن ذكرني ذكرته، ومَن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه.</p>
<p>دكتور أمين طبعًا الدرب والطرق إلى الله عديدة، لكن نجملها في ما اجتمع عليها، وأجمع عليه العرفاء أن الطريق تبدأ بالتخلية ثم التحلية ثم التجلية. التخلية أنني أنا أتجرّد من الذنوب، أي أن لا اقترف الكبيرة نهائيًا ولا أصرّ على الصغيرة، وأجرّد نفسي من الحسد، الغيبة، النميمة، الأذى، الفحش في الكلام، البذاءة في الكلام التي تعوّدنا عليها حتى في منابرنا للأسف الشديد. ثم التحلية أتحلّى بقيام الليل، وبالصفات الحسنة الجميلة، ثم عندما تصفو النفس يأتى نور الله فينطلق في كوب الذات وفي كوب النفس. ماذا عن هذا الدرب للوصول إليه جلّ في علاه؟</p>
<p>أمين طيبي: والله أستاذي الكريم الطريق إلى الله بعدد الخلائق كما يقول المتصوّفة، فكل لسان صادق يجد طريقًا يفتح الله به عليه ليصل إلى الله تعالى. ثمّ إنّ الإنسان يجب عليه أن يفكّر في وظيفته في هذه الحياة، لماذا خلقني الله تعالى؟ يقول الله تعالى: "وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون". قال إبن عباس ليعرفون. لذلك فمعرفة الله تعالى هي الطريق المختصر للوصول إليه، ولذلك نجد عند أرباب المتصوّفة وصف العارف بالله لأنه سعى إلى معرفة الله فوصل إليه، ومن يعرف الله لا يعصيه. لذلك فالمشي والمضي في الوسائل التي تعرّفك على الله، من تفكّر وتدبر من عِلم صحيح كل هذه الطرق توصلك إلى الله، والإنسان في هذه الدنيا خاصة المسلم هو في تحدٍ بأن يرجع هذه الروح نقية صافية كما برأها الله تعالى. لذلك نجد في القرآن الكريم لفظ النفس اللّوامة، والنفس المطمئنة، والنفس الأمّارة. فالإنسان بين هذه الصفات يجب أن تكون له نفس لوّامة تلومه حين ارتكاب المعاصي ليصل إلى نفس مطمئنة، وحين يصل إلى النفس المطمئنة يقول لها الله ارجعي إلى ربك راضية مرضية، وهذه النفس لا تكون راضية مرضية إلا بعد أن عرفت الله، ووقفت عند حدود الله واجتنبت المعاصي، وطارت إلى الله بجناحي الكتاب والسنّة كما أوصى شيخنا عبد القادر الجيلاني إبنه حين كان يحتضر قال له يا بني طر إلى الله بجناحي الكتاب والسنّة.</p>
<p>يحيى أبو زكريا: نعم شكرًا على هذا التوضيح دكتور وأرجو أن تبقى معي.</p>
<p>فضيلة الشيخ المولى عزّ وجلّ أوجدنا في هذه الحياة التي سمّاها دار الغرور، متاع قليل، وسمّيت الدنيا لأنها دنية بأتّم معنى الكلمة. ستون سنة خمسون سنة أربعون سنة أقل من ذلك والغرض أن نعرفه، نعرفه لأننا سنذهب إليه قطعًا، ولا يمكننا أن نذهب إلى ربٍّ لا نعرفه. المفروض أننا نستعدّ حتى إذا انفصلت أرواحنا عن أجسادنا نذهب إلى ربٍّ نعرفه. كيف تتعزّز المعرفة بالله؟ أو السؤال المركزي لأن درب الوصول إلى الله خطوات المراحل إنسان يقيناً يتأكّد من أن هذه الدنيا لا تجدي ولا تنفع، كيف يختار الله ويتوجّه إليه؟</p>
<p>محمد أبو الوصل: بما يسمح الوقت بإذن الله تعالى، بادئً، لا بدّ من خبير بالله، ولا بد من مرشد إلى الله. الله تعالى يقول: "يا أيّها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرًا كثيرًا" 24 ساعة، النصف 12 الأكثرية، 13 ساعة ذكر. ليس المطلوب أن ندخل إلى حرّاء ونجلس 13 ساعة في الخلوة. كلا، كما قال الله جلّ وعلا: "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب". هناك أصحاب الألباب، وهناك القشور. من أراد أن يكون من أصحاب الألباب، لا يكون صاحب لبّ إلا صاحب حب، ولا يكون صاحب حب إلا صاحب ذِكر لله سبحانه وتعالى. إذًا في الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، وهذه هي أحوال الإنسان، إما قائمًا، أو نائمًا، أو جالسًا.</p>
<p>إذًا عندما نكون على الدوام مع الله جلّ وعلا، صرنا من الحاضرين معه. هنا يحصل التغيّر فتكون في البداية النفس الأمّارة بالسوء، إنّ النفس لأمّارة بالسوء، وينتقل إلى المقام الآخر، "لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللّوامة". انتقل إلى النفس اللوامة عندما بدأ يلوم نفسه لماذا أفعل كذا وكذا وكذا؟ ارتقى إلى مقام الاطمئنان كما قال الله تعالى "الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب"، عندما يطمئن القلب بحب الله وبذكر الله، وبالحضور بين يديه الله وبالشعور بعَظَمَة المذكور وهو الله. هذا إحساس لا يدركه كثير من الناس مهما قلت لك، العسل طيّب وأنا أكلت عسلاً، يجب عليك أن تمدّ إصبعك للعق العسل حتى تشعر. إذا صارت النفس مطمئنة ينادي الله تعالى عليها كما جاء في أواخر سورة الفجر "يا أيّتها النفس المطمئنة"، فمَن ينادي رب العالمين الذي نادى على النبي صلوات الله عليه وآله وأصحابه، "يا أيّها النبي إنّا أرسلناك شاهدًا ومبشّرًا ونذيرًا"، هنا لمّا صارت أمّارة بالسوء أخرجها للخارج، صارت مطمئنة نادى عليها يا أيتها النفس المطمئنة، يا طمأنينة يا قلق يا نور يا ظلام يا راحة يا موت ارجعي ارجعي، ما أحلى الرجوع إليه. هنا ارجعي إلى ربك راضية مرضية، هنا ينادي الله تعالى عليها لتعود إلى حظيرة قدسه، ولتتنعم بأنسه. ارجعي إلى مَن؟ إلى ربك تنعّمي بقربي وتلذّذي بمشاهدة أنواري، واسرحي وامرحي وجوبي وجولي بأنواري وبعليائي وبقدسي، ارجعي إلى ربك راضية مرضية.</p>
<p>يحيى أبو زكريا: وهنا الفوز العظيم، </p>
<p>تفضل.</p>
<p>محمد أبو الوصل: راضية مرضية، أليس كذلك؟ صارت راضية بالحال التي وصلت إليه مرضية عند ربها، قال لها فادخلي في عبادي، وادخلي جنتي، فادخلي في عبادي يعني التحقي بدولة العارفين بالله، التحقي بالسفراء إلى خلق الله، وادخلي جنتي. ما قال لها ادخلي الجنة، ادخلي جنتي، جنّة قربي ولذّة النظر إلي والشوق إليّ، هنا المُراد.</p>
<p>يحيى أبو زكريا: وهنيئًا للواصلين، هنيئًا للعارفين، هنيئًا للذاكرين، الواحد منّا في دار الدنيا إذا فقد سيارة يسترجعها، فقط دار يبنيها مجددًا. أضاع مالًا، يجدّده يسترجعه. لكن آنذاك إذا قيل فلان من الخاسرين، يا ويح نفسي لا يستطيع أن يعود إلى دار الدنيا ليبني مجدّدًا، وهنا سرّ فوز العرفاء، يوم يلقون ربهم. أليس كذلك شيخنا؟</p>
<p>محمد ابو الوصل: قولًا واحدًا.</p>
<p>يحيى أبو زكريا: دكتور أمين طبعًا الوصول إلى الله لا يفضي فقط إلى الطمأنينة، وإلى الشعور بالأمن، وإلى الشعور بالرضى، وهذا يريحك من كافة الجهات عندما تعلم، ويعلم المريد أنه في عهدة الله، لا يخاف لا فقرًا ولا غنىً، لا يخشى أحدًا ما دام الرقيب هو الله، مادام الوكيل هو الله، ما دام الرزّاق هو الله تعالى فبهذا اللاحظ، العرفان كما ينجينا يوم القيامة، وقد أوضح فضيلة الشيخ محمد أبو الوصل أوصله الله تعالى إلى مدارج السالكين. أيضًا يريدك في دار الدنيا أنك تعيش في مقام الرضا في مقام الرضا، وما أدراك يا دكتور ما مقام الرضا.</p>
<p>أمين طيبي: نعم أستاذي الكريم، الكل يعلم بأن التصوّف ظاهرة ذات أبعاد نفسية واجتماعية واقتصادية وغيرها. لذلك في هذا الوقت بالذات وفي هذا العصر الذي صارت فيه العولَمة حتمية طبيعية لا مفرّ منها في ظل وفرة وسائل التواصل، والتأثّر بالغرب نحتاج إلى إعادة تفعيل دور التصوّف، وإعادة تفعيل إيجابيات التصوّف. التصوّف ليس له تأثير إيجابي على النفس بالرضى والقناعة والطمأنينة والسكينة وغيرها فقط، ولكن له وظائف اجتماعية أخرى، فأنت تدري وشيخنا يدري بأن رجال التصوّف على مرّ العصور كانت لهم وظائف اجتماعية، وكانت لهم سلطة روحية تفوق السلطة السياسية حتى أنّ بعضهم أسّس لدولة ذات حكومات وذات أمراء، دولة لها نفوذ ولها امتداد جغرافي كبير. الكل يعرف بأن الأدارسة أسّسوا دولتهم، وإدريس الأكبر أسّس دولته لأنه كان رجلًا عارِفًا بالله، وكان له نَسَب شريف. الكل يعلم بأنّ الأمير عبد القادر كان صوفيًا وقادريًا، وساهم في تأسيس دولته التي كانت على امتداد الجزائر كلّها. هذا التفعيل أو إعادة تفعيل دور التصوّف يجب أن يقوم به الرجال المخفيون الذين هم صادقون. والتصوّف هو صدق التوجّه إلى الله، وصدق التوجّه يكون أيضًا بالصدق مع خلق الله. فالإنسان يعين مجتمعه، ومن الوظائف وظائف التعليم ووظائف التزكية، هذه الوظيفة التي غيّبت والتي أمر الله تعالى بها نبيّه، يعلّمهم ويزكيهم. فأين وظيفة التزكية اليوم؟ وظيفة التزكية غائبة إلا من رحم الله. </p>
<p>لذلك فالذي يدرس التصوّف عبر تاريخه الممتد منذ زمن، كان التصوّف نزعة روحية في القرن الهجري الثاني، وقد بدأ بالزهد في عصر الصحابة وفي عصر التابعين إلى أن صارت الزاوية مؤسّسة متكامِلة لها هرم سلطوي يتمثل في الشيخ والمريدين والرواد والزوار وغيرها. ونجد بأن للتصوّف وظائف جمّة من تعليم ومن إطعام ومن جهاد، هذا الجهاد المُغيّب الآن والذي اتّصف متصوّفة العصر بأنّهم مسالمون حتى أنّ بعض المفكّرين سمّى التصوف الإسلام النائم، أو الإسلام المعطّل، وهذا ما يجب تصحيحه الآن ويجب أن ننفض الغبار عن المتصوّفة الأوائل.</p>
<p>يحيى أبو زكريا: دكتور أمين صاحب هذه المقولة لا يعرف أنّ قادة الثورات ضد الاستعمار الغربي كلّهم من خرّيجي الزوايا عندنا في الجزائر، أبو عمامة رحمة الله عليه، وذكرت السيّد الأمير عبد القادر الجزائري الرجل الذي قدّم لنا محيي الدين إبن العربي في أكمل صورة، ولو أحصينا العدد لا نستطيع أن نحصي قادة الثورات ضد الفرنجة والاستعمار والغرب. لقد تخرّجوا من الزوايا كانوا في الليل سُجدًا وفي الليل فرسان المعارك واقعًا.</p>
<p>أمين طيبي: نعم نعم صحيح، أنت تعرف يا أستاذ الرباطات في المغرب العربي مثلًا الثغور هذه كانت رباطات جهاد ومقاومة، وكانت رباطات عبادة وتبتّل وصيام، وكانت رباطات تعليم. كم من الشيوخ الآن رباطات سمّيت عليهم الرباطات، ودفنوا في الرباطات فيقولوا رباط إبن بسام وغير ذلك. لذلك أنت تعرف الحركة السنوسية مثلًا، والحركة المهدوية والحداد المقراني، كلّهم رجال تصوّف في موريتانيا مثلًا ماء العينين كلّهم رجال تصوّف، لكن كما قلت آنفًا بأن المستشرقين والإنتروبولوجيين لمّا رأوا هذا الوصف وصف المقاومة يتميّز به هؤلاء المتصوّفة، سعوا في تدجين المتصوّفة، وبثّوا شيوخًا مزيّفين لكي يضربوا المقاومة.</p>
<p>يحيى أبو زكريا: دكتور أمين أنا أعطيك سر المستشرقين، المستشرقون هم جواسيس الغرب في بلادنا أصلًا كانوا عيون الفرنجة على ديارنا يأتون يحلّلوننا يدرسوننا. درسوا أين تكمن قوّة المسلمين في روحهم؟ فقاموا بتدمير هذه الروح وتحاملوا عليها مثلما اتهموا الأمير عبد القادرالجزائري بأنه ماسوني، وهو رائد من روّاد نهضة الجزائر وباني دولة عملاقة في الجزائر. لنا عودة إلى خبث المستشرقين إن شاء الله.</p>
<p>فضيلة الشيخ سيظل العرفان هو المدرسة الأساس لصقل وبناء الروح. طريقة الذِكر الآن ما هي الأوراد التي يجب أن نلوذ بها مثلًا؟ البعض ورده الصلاة على محمّد وآل محمّد لن الله تعالى سيكفيك همّك، ويعطيك ما شاء الله وذكر العرفاء بالله، وأنّ الله فرّج عليه في أمور كثيرة لمّا أدمنوا الصلاة على محمّد وآل محمّد. فما هي الأوراد؟ ومن أين نأتي بالأوراد؟</p>
<p>محمد أبو الوصل: سؤال لا يقدّر بثمن.</p>
<p>يحيى أبو زكريا: أعزّك ربي.</p>
<p>محمد أبو الوصل: الآن يجب العودة إلى الذِكر القرآني، لماذا؟ لأن البعض يقول لك لا أريد أن أكون قادريًا، ولا نقشبنديًا، ولا شاذليًا، ولا دسوقيًا، ولا رفاعيًا، ونحن نقول لهم ارفعوا أسماء الطرق ولنعد جميعًا إلى القرآن الكريم. القرآن الكريم طلب منّا الذِكر، قال الله تعالى "واذكر إسم ربك وتبتّل إليه تبتيلًا"، إسم ربّك هناك إسم الذات الله، وهناك الصفات الرحمن الرحيم الملك القدّوس. جيّد ذكر الإسم الله، واذكر إسم ربك، أين يا رب؟ نريد أن نذكر إسمك قال الله تعالى لنا: "واذكر ربّك في نفسك تضرّعا وخفيةً ودون الجهر من القول، "اذكر اسم ربّك في سرّك من دون أن تحرّك لسانك"، أين يعني ببطني بلساني، لا، قال الله تعالى لك "ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا". قال الله تعالى "فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذكر الله"، أليس كذلك؟</p>
<p>إذًا القرآن طلب الذِكر السرّي، طلب الذِكر القلبي. تبتّل إليه تبتيلًا، وانقطع إليه الانقطاع التام لمّا تذكر الله في سرّك في قلبك من دون أن تحرّك اللسان، وأنت مغمض العينين جلست في غرفتك اطفأت الكهرباء، وجلست بين يدي الله تعالى. هناك تبدأ بقراءة فقرة بقلم الروح في صفحات القلوب، وتكتب على ألواحها ما يمليه عليك ربّك جلّ وعلا. هذه تحتاج مولانا لثناء بالله، وارزقنا البقاء بك بعد الفناء فيك على قدم ساداتنا السالكين فيها، ولا يكون هناك إنبات إلا بعد فناء. عندما توضع البذرة في باطن الأرض وينقطع عنها الهواء وتدوس عليها الأقدام، ساعة إذٍ تنبت ويستظل الكل بفيئها.</p>
<p>يحيى أبو زكريا: فضيلة المربي وأيضًا عندما تؤتى ذكر الله اعلم ان الله يحبّك وهيّأ لك أسباب الذِكر.</p>
<p>محمد أبو الوصل: أحد الصالحين قال إنّي أعرف متى يذكرني ربي، قالوا له كيف؟ قال إذا ذكرته ذكرني، قال الله تعالى فاذكروني أذكركم.</p>
<p>يحيى أبو زكريا: الله! نسأل الله أن يجعلني وأنتم والدكتور أمين وكلّ الإخوة المشاهدين من الذين يذكرونه فما أجمل أن تذكر الحبيب، فما أجمل أن تذكر المولى عزّ وجلّ الذي أوجدك وهيّأ لك أسباب نعمتك.</p>
<p>محمد أبو الوصل: أودّ أن أوجّه تحية إلى النبي صلّى الله عليه وآله وأصحابه.</p>
<p>يحيى أبو زكريا: يقينًا وجّه.</p>
<p>محمد أبو الوصل: نصلّي ونسلّم على شجرة الكون، وأصل إمداد العون نور بصيرة العارفين شريان وداد المحبّين، وخلايا وجود العاشقين محمّد طبّ القلوب ودواؤها، وعافية الأبدان وشفاؤها، ونور العيون وضياؤها، وحبيب الأرواح وغذاؤها محمّد أحمد محمود السراج النور المنير الشمس القمر البشير طه الطاهر المطهّر الأمين المؤمون المؤتمن الصادق الصدوق المصدوق صاحب اللواء المعقود والحوض المورد سيّدنا محمّد صلّى الله تعالى عليه وآله وأصحابه.</p>
<p>يحيى أبو زكريا: صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا بعدد الأفلاك والنجوم. فضيلة المربي الشيخ محمّد أبو الوصل أبو القطع في ميزان حسناتك جزاك الله خير الجزاء. الدكتور أمين الطيبي من الجزائر الحبيبة شكرًا جزيلًا لك ونسألكم الدعاء.</p>
<p>مشاهدينا وصلت حلقة النور هذه إلى تمامها، إلى أن ألقاكم هذا يحيى أبو زكريا يستودعكم الله الذي لا تضيع أبداً ودائعه.</p>
<p> </p>
<p> </p>