الشاعر والروائي والناقد عباس بيضون
نص الحلقة
زاهي وهبي: مساء الخير. من
الصعب جداً تقديمه بكلمات. مثقّف كبير، شاعِرٌ وروائيٌّ وصاحبُ مُقارباتٍ إبداعيةٍ
مُختلفة. غالباً ما يأتينا نصّه الشعريّ أو الروائيّ من أمكنةٍ غير متوقّعة، ولا
أُجانبُ الحقيقة إذا أصفه بالمُلتَبسِ والمُحيِّر. هو نفسه يحارُ في وصف شعره
ويقول أنه كلّما توغّل في الكتابة غاب عنه مفهومها. لكنّ الأكيد أنه لا يُمكنُ
لمنصِفٍ أن يخال المشهد الثقافيّ الإبداعيّ العربي منذ سبعينات القرن الماضي إلى
اليوم من دونه ومن دون قلمه الأخضر الحاضر على الدوام في الشارِدة والوارِدة وفي
كلّ ما يهجِسُ به المُثقف العربي من أسئِلةٍ وقلقٍ ولا يقين، خصوصاً في هذه
المرحلة التي تبدو فيها أحلامنا هباءً منثوراً في عصفِ الفِتنِ ورياح السموم. بحبٍّ
نستقبله وبفرحٍ نتعرّف على بعض مفاصل تجربته الثريّة. "بيت القصيد"،
بيتُ المبدعين العرب"، يفتحُ أبوابه الليلة للشاعر والروائيّ والناقد، المثقّف
الكبير "عباس بيضون" أهلاً وسهلاً بك
عباس
بيضون: شكراً
زاهي وهبي: تستأهل اُستاذ "عباس". إذا عن
مُثقف في قماشتك وفي قامتك لم نقُل هذا الكلام، عمن سنقوله؟ لكن قبل أن نُشاهِد ربورتاجاً
عباس
بيضون: شكراً مرة ثانية
زاهي وهبي: قبل أن نُشاهدُ ربورتاجاً مع حضرتك، صار
بإمكاننا أن نقول الروائي "عباس بيضون"؟
عباس
بيضون: تقريباً
زاهي وهبي: ربما اعتدنا، وأنا أتحدّث كأحد قرّائك،
"عباس بيضون" الشاعِر. دائِماً اسم الشاعر يسبق اسم "عباس"،
أو لقب الشاعر يسبق اسمك. لقب الروائي ما زلنا قليلاً نتعامل معه بحذر وتحفُّظ
عباس
بيضون: أنا أيضاً مع أن يبقى لقبي الشاعر،
وتبقى النظرة إلى الروائي بي في تحفّظ كما تقول. أنا شاعِر أولاً، وإذا أردت كتابة
رواية أكتبها لأنني أيضاً شاعرُ نثر. شاعر نثر يعني أنّ النثر يعنيني مثلما يعنيني
الشعر، وفي النثر يوجد شِعر بقدر ما يوجد في الشِعر
زاهي وهبي: على كلّ حال، الآن سنتوسّع أكثر في
العناوين التي حضرتك تفضّلت بها ولكن دعنا نُشاهدك في "علامة فارِقة"
ونذهب برفقتك إلى "صور"
علامة
فارِقة
عباس
بيضون:
أول كاميرا اشتريتها في أوّل شبابي تجوّلت فيها
في داخل "صور" كي أُصوّرها. صوّرت مناطق كثيرة، وقبل أن تضيع هذه
الصُوَر راجعتها واكتشفت أنّ أشياء كثيرة اختفت من "صور".
"الحلاّق" اختفى، الحديقة اختفت، اختفت طفولتنا، اختفت الأماكِن التي
تسلّينا فيها، الأماكن التي لعِبنا فيها، الأماكن على البحر التي جلسنا عليها. أحياناً
أمشي من دون أن أنتبه إلى أين أمشي، لكن مع ذلك أقف أمام أماكن أعرِفها، أمام
أماكن تعني لي شيئاً ولا أعرِف ماذا تعني لي فعلاً، لكن في داخليّتي أشعُر بها.
أقف أحياناً أمام شجرة، أقف أمام بيت أُحبه، أمام شرفة أُحبّها. أقف أحياناً في
مكان فيه مجرى هواء أحبه، نسيمٌ أُحبه. أقف هنا
"صور" هي أُمّي، عندما أصل إلى
"صور" أشعُر بأمان لأنني أشعر بأنّ علاقتنا بـ "صور"، علاقتنا
بالمدينة التي نحن فيها، مثل علاقتنا بأُمنا، توجد علاقة أوديبيّة؟ علاقة أوديبية
بمعنى أنّنا نحن لا نعرِف ما هي، لكن نحن نحبّ هذه المدينة، من أن ننتبه نشعُر بأمان فيها
ذاكرتي تشبه الغيم السائر، أثناء سيره يمتلئ
كثيراً وينتشر كثيراً ويختفي بسرعة. قلبي، لا أعرف الآن، ربما أمام هذا البحر،
أمام هذا الميناء قلبي يفرِك، ربما يأخذ الحبّ وربما يفرِك حنيناً، يفرِك.
المُشكلة أنه لا يمكننا أن نُسكِت القلب، نحاول أن نُسكته ولا يسكُت
لم أكن ضدّ الزواج مرّة ثانية، لكنني أيضاً لم
أكن مهتماً كثيراً في الموضوع. بحثت كثيراً ومضى الوقت، وصار مع الوقت هذا الشيء
مُستحيلاً
أخاف من الورطات وأحسُب لها حساباً، وأحياناً
كثيرة أتردّد في أن أقوم بشيء خوفاً من أن تنتهي الورطة. السياسة كلّها ورطة.
دخولي نفسه في السياسة كان مُجرّد توريطاً لنفسي. الكتابة ورطة مُستمرة لكنها ورطة
نُصِرّ عليها. علاقتي بالناس تعطيني شيئاً يظهر في الكتابة لكن لا أعلم كيف يظهر،
يظهر في الحبّ ولا أعلم كيف يظهر
الضحك هو جواب على كلّ شيء. نستطيع أن نُجيب
بالضحك على كلّ الأسئلة لسبب بسيط جداً وهو أنّ الضحك يزيل السؤال. هو هكذا، إجابة
صافية على ولا أيّ سؤال
ما دمتُ أعيش أهتم في أن أعرِف ما يحكيه الناس
عنّي وكيف يرونني وكيف يتذكّرونني. أريد أن يتذكّرني أولادي، فقط أولادي لأنني
لستُ مهتماً يغيرهم، أريدهم أن يتذكّروني كما أنا، يتذكّروني في أشيائي الجيّدة وأشيائي
العاطلة، لكن لا أُريدهم أن يظلموني
اليوم مع "زاهي" أخاف أن يسألني
أسئِلة عن داخليّتي، أن نتحدّث عن أشياء بعيدة، عن أشياء بالكاد نعرِفها وأن
نتنزّه سوياً في الخارِج
زاهي وهبي: "صور" أجمل برفقتك
"عبّاس" وبرفقة "سحر حامد". شاهدنا مكامِن جمالية في
"صور". علاقتك بـ "صور"، عندما نقول "عباس بيضون"
نقول "صور" وليس فقط قصيدة "صور" التي قرأناها كلّنا وحفِظناها
منذ زمنٍ بعيد. هذه العلاقة التي تحدثت عنها قليلاً في الربورتاج ما سرّها؟ ما
السرّ بينك وبين هذه المدينة؟
عباس
بيضون: الشيء الغريب الذي يمكن أن أقوله، إنني
جئت إلى “صور" كبيراً. أنا لم أولَد في "صور"، أتيت إلى
"صور" وكان لي من العُمر تسع سنوات. وفي الحقيقة، لم أعرِف علاقتي بـ
"صور" إلاّ في الوقت الذي بدأت أكتُب فيه قصيدة عن البحر. ورويداً
رويداً كانت قصيدة "صور"، رويداً رويداً انتبهت إلى أنني أتحدّث عن
مدينة، أتحدّث عن تاريخ، أتحدّث عن أرض وعن مكان. "صور" بالنسبة إليّ مثلما
قلت في الربورتاج
زاهي وهبي: أُمّ
عباس
بيضون: هي أُمّ. أنا أشعُر حين آتي إلى
"صور" أنني مُرتاح وأنني في أمان
زاهي وهبي: حلو. تقول "عباس"، أعيشُ
مُحاطاً بكلّ هؤلاء الذين جعلوني وحيداً. السنوات والأيام تُضاعِف الوحدة أم لا،
يعتدها الشاعر ويألفها ويأنس إليها؟
عباس
بيضون: المشكل هنا. المُشكل أنه يأتي وقت
نُحِّبّ الوِحدة، ويأتي وقت نُصبح وحيدين ضمن وحدتنا، وحيدين أكثر، وهذا في حدّ
ذاته حلو لكنه مُخيف
زاهي وهبي: حلو في أيّ معنى؟ ربما حلو للكاتب،
للشاعر، لكنه مخيف للإنسان؟
عباس
بيضون: حلو لأنه يمكننا أن تقبل بحلّ للشيء
الذي نمضي كلّ حياتنا ولا نتمكّن من الوصول إليه
زاهي وهبي: يُقال أنّ الإنسان مع الوقت ومع العُمر
لا يعود يكترِث لآراء الآخرين فيه، ويصبح يهتمّ أكثر بالأشياء التي تريحه هو والتي
تُسعِده. كم هذا الشيء صحيح؟ وكنت حضرتك تقول بأنّك لا تكترث سوى أن يذكرك أولادك
بطريقة إيجابية
عباس
بيضون: أنا من هذا المكان ليس عندي اهتمام
كبير بما يقوله الآخرون عنّي. أعرِف أنّ ما يقوله الآخرون عنّي بصورة مستمرة لا
أفهمه، غريب عنّي. الناس يقولون عنك الأشياء التي تعنيهم والأشياء التي تشبههم هم
ولا تشبهك أنت
زاهي وهبي: سواء كانت إيجابية أو سلبية، في الحالين
عباس
بيضون: نعم، في الحالين
زاهي وهبي: لكن هذا يحتاج إلى مناعة، على المرء أن
يكون عنده مناعة لكي يتعامل مع المسائِل بهذه الطريقة، والذي لا يعرِفك جيداً
يشعُر بأنك هش، عندك هشاشة الشاعر والأديب والكاتب والمُثقّف
عباس
بيضون: أنا هشّ أكيد، وهذه الهشاشة صحيحة. لكن
مع ذلك، عندي درجة من النُضج تجعلني لا أرزح تحت عبء كلام الآخرين. هذا يحتاج
قليلاً ليس إلى الشجاعة بل إلى القليل من النُضج والقليل من المعرِفة في العالم
زاهي وهبي: نيالك. تقول: " كلمّا توغّلت في
الكتابة غاب عنّي مفهومها". أهذا ما يجعلك لا يقيني في نظرتك لما تكتُب؟
عباس
بيضون: في الحقيقة، الذي أعرِفه أننا نبدأ
الكتابة وكأنها موقفٌ من العالم، وكأنه نضال ضدّ العالم. ونبدأ الكتابة وكأننا
نقول كلّ شيء. رويداً رويداً نكتشف بأننا لا نقول كلّ شيء. رويداً رويداً نكتشف
أننا لا نُناضل ضدّ شيء، رويداً رويداً نكتشف أنه في الحدّ الأدنى، بالكاد نقول
الشيء البسيط الذي نعرِفه عن أنفسنا
زاهي وهبي: في هذه الحال، معنى ما نكتُب، معنى ما
نفعل من أين؟ هناك خطر من الشعور بالعدم والعَبَث والمجانية
عباس
بيضون: هذا الشيء صحيح، وهذا هو الشيء الذي
نصل إليه. نصل إلى عدم وجود معنى واضح جداً للأشياء التي نقوم بها وللأشياء التي
نراها. هذا اللا معنى هو تقريباً الذي نصل إليه
زاهي وهبي: أُستاذ "عباس" حضرتك تعرِف
أكثر منّي. هناك عدد كبير من الشُعراء ومن المثقّفين انتهوا انتحاراً، ربما بسبب
الشيء الذي نتحدّث عنه. هلّ فكّرت في لحظة من اللحظات، في فترة من الفترات، في حال
من الحالات؟
عباس
بيضون: لا لا، لم أُفكِّر ولا مرّة
بالانتحار. أنا أتصوّر أنّ الناس الذين ينتحرون هم انتحاريون، في الأساس
انتحاريين، وهذا الشيء موجود في داخليتنا. أنا لستُ انتحارياً
زاهي وهبي: انتحاريون في أيّ معنى؟ شجعان؟
عباس
بيضون: المسألة ليست مسألة شجاعة لكن توجد
مسألة رُغبة في الموت لم تتكوّن عندي، ميل إلى الموت لم يتكوّن عندي. إلىلى حدّ
الآن، رغم كلّ مُشكلتي مع الحياة، رغم كلّ مُشكلتي مع العالم، أشعُر بأنه يمكنني
أن أتحمّله، يُمكنني أن أعيشه. يُمكنني أن أتحمّله وأن أعيشه حتّى ولو كانت هذه الحياة
تعني أنه في كلّ صباح تبدأ مشكلة، وفي كلّ صباح ولغاية الغروب يستمرّ المشكل ونظلّ
في مشكل مع الناس في كلّ يومٍ جديد نعيشه
زاهي وهبي: أُستاذ "عباس"، الكتابة جعلت
حياتك أكثر إمتاعاً ومؤانسة أم أكثر شقاءً؟
عباس
بيضون: الكتابة هي كالإدمان، الأمران يتجليان
فيها. في الكتابة نحن مقهورون جداً أننا نقوم بشيء يصل إلى درجة الاختناق. هناك
فرنسي اسمه " روبرانت شو" يقول أنّ الكتابة هي توغّل لدرجة الاختناق. من
أجل هذا، في كلّ مرة نشعر بوجود مقطع صعب ومُعقّد يكون يأتي بعد مقطع سهل، لأننا
نكون نكاد أن نختنِق فنقفز على السطح، نصعد إلى السطح
زاهي وهبي: مثل شخص يسبح ويغطُس ويخرج ليتنفّس
عباس
بيضون: إذا كان شخص يختنق يصعد إلى السطح
ويتنفّس. من أجل هذا، كلاهما موجودان في الكتابة. توجد في الكتابة لحظة الاختناق
أو لحظة شبه الاختناق، وتوجد في الكتابة لحظة الصعود إلى السطح التي هي لحظة مُريحة
قليلاً وفيها ثمنٌ لا بأس فيه لتعبنا
زاهي وهبي: أُستاذ "عباس"، قلت في أحد
حواراتك، الحوارات التي أُجرِيَت معك في الصحافة، أنك ترتاح في كتابة الرواية أكثر
مما ترتاح في كتابة الشِعر
عباس
بيضون: صحيح
زاهي وهبي: ما مردّ هذا الشعور؟
عباس
بيضون: الشِعر هو إصغاء، لا تقرّر ولا في أية
لحظة أن تكتب الِشعر، الشِعر يأتيك. الشِعر هو إصغاء فعلاً لشيء يُمكننا أن نعتبره
خارِج هذا العالم. يقول "هيدغر" عن الشعر أنه إصغاء للآلهة المُهاجرة،
الآلهة التي تركت هذا العالم، تركته منذ مليون سنة، هي التي تبحث عن أن نُعيد
الصلة معها، نعيد سماعها
زاهي وهبي: والرواية؟
عباس
بيضون: الرواية شيء آخر. يُمكننا أن نكتُب
رواية ونحن واعون. يُمكننا أن نكتُب رواية حين نريد أن نكتب رواية. ليست بهذه
السهولة، لكن يُمكننا أن نكتب رواية كلّ يوم، لكن لا يُمكننا أن نكتُب قصيدة كلّ
يوم
زاهي وهبي: هلّ يُمكننا أن نعتبر أنّك لم تكن على
الدوام مُخلِصاً للشعر؟ قبل أن أنتقل إلى الحديث عن الرواية، بمعنى أنّك في فترة
من الفترات انقطعت عن كتابة الشِعر لسبع سنوات وانغمست في العمل السياسي. بعد
حادثة السيارة والغيبوبة انقطعت لأربع سنوات، ربما كنتُ تكتُب لكن لم تنشُر كتاب
شعر إلاّ بعد أربع سنوات. أصلاً، أوّل ديوان لحضرتك "الوقت في جرعات
كبيرة" كان عُمرك تقريباً حوالى 38 سنة
عباس
بيضون: عندما كتبته كنت في عمر الـ 29 سنة
زاهي وهبي: في عمر الـ 29، وعندما نشرته؟
عباس
بيضون: نشرته بعد القليل من الوقت
زاهي وهبي: ليس في العشرينات
عباس
بيضون: لا لا
زاهي وهبي: تعلم، هناك شعراء كتبوا كلّ شيء في
العشرين. صاحبك "رامبو" كان في هذا العمر تقريباً، في العشرين أو الـ 19
عندما كتب ما كتبه
عباس
بيضون: أنا دائماً أشعُر بأنّ الشعر هو فنٌ
شبابي، وأننا حتّى حين نكتب في عمر الـ 25 ونكتُب في الـ 65 ونكتب في الـ 75 نكون
شباباً، ما زلنا شباباً ونسترجِع هذا العصر الذهبي لنا الذي هو شبابنا. الشِعر
دائِماً شبابي لكن الرواية ربما ليست هكذا والرسم ليس هكذا. الرسم طفولي لكن
الشِعر شيء مُراهِق، شيء شبابي
زاهي وهبي: يراودك القلق أو تراودك الأسئِلة التي
تراودنا ربما كلّنا، في أنه ممكن للشِعر أن ينقرِض؟ أن ينتهي؟
عباس
بيضون: طبعاً. ليس فقط هذا، منذ وقتٍ طويل
وأنا أقول أنّ الشِعر ينقرِض كما انقرضت أنواع كثيرة. حالياً لا توجد سيمفونيات،
على الأقل لا يوجد موسيقيون سيمفونيون ولا يوجد شُعراء ملاحِم. الشعر، أتصوّر،
ينقرض أو ينتهي، لكن يبقى الشعر حاجة، رغم ذلك يظلّ حاجة. كنّا نتحدّث قبل قليل
وقلنا أنّ الشِعر حاجة. الشِعر فعلاً حاجة، الشعر حاجة لأنه بالنسبة إلينا، في
وقتٍ مُعيّن نشعُر أنّه يوازي الحبّ ويوازي الإحساس. عندما نحسّ نكون شُعراء
وعندما نُحبّ نكون شُعراء
زاهي وهبي: كنت تقول لي، قبل أن نبدأ الحوار، أنه
ربما لا يوجد إنسان إلاّ ويكتُب في بداياته وفي زمنه الشِعر
عباس
بيضون: أجل، أنا تفاجأت أنه كلّما يختفي
الشِعر المطبوع يكثُر الشِعر الشفهي، يكثُر الشعر
زاهي وهبي: على "الفيسبوك" أو على
"تويتر"
عباس
بيضون: أيضاً على "الفيسبوك"
يكثُر، صحيح هذا الشيء
زاهي وهبي: عندك تفسيرٌ لهذا الأمر؟
عباس
بيضون: لا يوجد تفسير سوى أنّ الشعر يظلّ
حاجة. ويظل عندنا في وقت من الأوقات شعور بأننا
نشبه الشعراء وأنّ هناك شيئاً نريد أن نقوله يمكِن أن نُسميه شعراً. أشعُر بأنّ
الشعر حاجة والشعر شيء داخلي جداً. الآن، قد يختفي الشِعر لكنه سيبقى بالنسبة إلينا
حاجة، على الأقل نظلّ نسمع أغانٍ، على الأقل نظلّ نكتُب أغانٍ وهذا شِعر
زاهي وهبي: أكيد، أكيد. ربما القصيدة في شكلها
المألوف المُتعارف عليه، سواء العصماء أو المُشاكسة والجديدة كالتي تكتبونها، قد
ربما تختفي ولكن الحال الشعرية في العالم موجودة. سأُتابع مع حضرتك أُستاذ
"عبّاس" ونتحدّث أكثر، سواء في الموضوعات الشعرية أو في الأعمال
الروائية ولكن بعد أن نتوقّف مع موجز إخباري سريع نُتابع "بيت القصيد"
المحور
الثاني:
6
أسئِلة للشاعر عباس بيضون
1-
إذا
قرّرت دعوة أربعة كُتّاب (على قيد الحياة أو متوفين) إلى العشاء من تختار؟
عباس بيضون: "أُنسي الحاج"،
أختار "عزيز العظمي"، "أدونيس"، وأختار "سرجون
بولس"
2-
في
حال ضرب نيزك كوكب الأرض وأُعطيت فُرصة إنقاذ ثلاثة كُتُب، ما هي الكُتب التي
ستختارها؟
عباس
بيضون: "ألف ليلة وليلة"،
"دون كيشوت" وشِعر “سان جون بيرس"
3-
هلّ
هناك كتابٌ مُحدّد تتمنّى لو كنتَ أنتَ من كتبته؟
عباس
بيضون: طبعاً. هناك عشرات الكُتب التي أتمنّى
لو أنا كنت من كتبتها، عشرات ومئات الكُتب، وربما آلاف الكُتب. لا أستطيع أن أتذكّر
أو أن أقف عند كتاب واحد، مئات وآلاف الكُتب التي كنت أرغب لو أنا الذي كتبها
4-
هلّ
هناك كتابٌ من كُتبِك تتمنّى لو أنّك لم تقُم بكتابته؟
عباس
بيضون: أجل، بالتأكيد، لكن لغاية الآن لا
أعرف ما هو الكتاب. أكيد يوجد كتابٌ وكتابان كان من الأفضل لو لم أكتبهما. لكن
لغاية الآن لستُ متأكداً أي كتب، لا أعرفها
5-
هلّ
تُحبِّذ تحويل أعمالِك إلى أعمال مسرحية وسينمائية؟
عباس
بيضون: أكيد يهمّني أن تصير هذه الأعمال
أفلاماً وربما مسرحيات لأنني لا أكره الجمهور أبداً. الكتابة بالنسبة إليّ حوار مع
الناس. يكتُب المرء لأنه يُحاور أحدهم
6-
هلّ
تُفضِّل القراءة الإلكترونية (كيندل، آي باد، لاب توب) أم قراءة الكُتب الورقية
والصحف؟
عباس
بيضون: الحقيقة أنني أُفضِّل القراءة
الورقية، ولستُ فخوراً جداً في هذه المسألة، هذا جزء من مُشكلة العُمر
زاهي وهبي: أسئِلة من شباب "السفير"
والإجابات من "عبّاس بيضون". أُستاذ "عباس بيضون" نعود إلى
أسئِلة "بيت القصيد" مع تحيّة لشباب "السفير". الذي يُتابِع
شِعرَك والنفس السردي الموجود في قصائِدك لا يُفاجئه أنّك كتبت روايات. دائِماً
كان السرد، أنا مثلاً أتذكّر ربما كتاب "حُجرات" لذي هو شبه حكاية في
مكان من الأماكِن
عباس
بيضون: شكراً على هذا الرأي
زاهي وهبي: هذه الحقيقة، أنا شخصياً
عباس
بيضون: أنا أحببت هذا الرأي
زاهي وهبي: رأيي كقارئ لك من زمان، ربما قبل حتّى
أكون أشتغِل في العمل الصحافي والثقافي، لكن سؤالي هو، ما الذي أعطته لك الرواية
ولم يُعطه لك الشِعر؟
عباس
بيضون: الشعر فنٌ صامت، فنٌ مكبوت، ولا مرّة
الشِعر يجعلنا نشعُر بأنّ صوتنا خرج كلّه
زاهي وهبي: نعم، ظلّ هناك شيء في الداخل
عباس
بيضون: ولا شيء، كلّ الشعر في الداخل، كلّه
يبقى في الداخل لأن الشعر يظهر على أنه رأس المشهد، هو طرف المشهد
زاهي وهبي: لكن مجيء شاعِر مثلك إلى الرواية كأنه
يؤكِّد شعاراً فضفاضاً أو مقولة، لا أعلم كم توافق عليها أو ترفضها، وهي أنه الآن
لم يعُد الشِعر ديوان العرب، الرواية هي ديوان العرب المُعاصِر
عباس
بيضون: الرواية هي ديوان العالم المُعاصِر
وليس ديوان العرب فقط. العرب تأخّروا إلى أن استهدوا على الرواية، مع أن عندهم كان
أهمّ رواية في زمانها وهي "ألف ليلة وليلة"
زاهي وهبي: صحيح
عباس
بيضون: أنا لا أشعُر بأـن الشِعر لا ضرورة له
وبأنّ الشِعر لم يعُد مُعاصِراً. حقيقةً يمكن للشِعر أن يكون مُعاصِراً ويُمكنه
ألاّ يكون، مثلما يمكن للرواية أن تكون مُعاصِرة أو لا تكون. لكن الشِعر فنٌ
مُتعِب. فنٌّ يحتاج ليس إلى الشاعر فقط كي يغيب في داخله ويُركِّز كثيراً ويغرق
بما يراه، بل إلى القارئ أيضاً
زاهي وهبي: قلت في ردّك على أسئِلة شباب
"السفير" أنّك لست ضدّ الجمهور، على العكس يهمك الجمهور. سادت في فترة
من الفترات نظريات تتحدّث عن أنّ الجمهور ضدّ الشِعر وضدّ المسرح، أو أن المسرح
ضدّ الجمهور والشِعر ضدّ الجمهور
عباس
بيضون: أنا بالنسبة إليّ الكتابة هي حوار
زاهي وهبي: نعم
عباس
بيضون: وهذا هو الشيء الذي قلته في كلامي.
الكتابة حوار، ولا مرّة يكتُب المرء من دون أن يكون أمامه آخر. ولا مرّة يكتُب
المرء لوحده، ولا مرّة يكتُب المرء عن نفسه فقط. الكتابة دائِماً تستدعي وجود آخر،
وهذا الآخر نخترعه. أثناء حديثنا عن أنفسنا نخترِع الآخر لنا. الآخر لنا هو اختراع
مثل ما هو ذاتنا اختراع. هذا هو سبب الكتابة، سبب الحياة ربما
زاهي وهبي: وإلاّ ربما نترك هذا النص في دُرج
النفس، في دُرج النفس البشرية وليس في الدُرج العادي. دعنا نسمع لو سمحت
"عباس" إلى رأي من صديق من أصدقائك وهو روائي عربي ولبناني مرموق،
الأُستاذ "حسن داوود"
كلام
يوصل
حسن
داوود - روائي: أول ما تعرّفت إلى
"عباس" كنّا في عشريناتنا، هو أكبر منّي بقليل لكن في هذا العُمر
المُبكِّر. كان معروفاً ومشهوراً بأفكاره وبعمله في السياسة وفي أحاديثه في عدة
أشياء مـُختلفة، وأحببت أن أتعرّف عليه بعد سُمعةٍ ما حوله في أنه تلميذ جامعة.
فتوجّت لعنده إلى "صور" وجالسته لساعات، وفي خلال هذه الساعات أحضر لي
قصائِد كتبها هو ولم أكن على علمٍ أبداً أنه يكتُب الشِعر. فقرأ لي عدداً من
القصائِد في رثاء والده، الذي كان صار له فترة غير طويلة متوفى، وكان هذا النوع من
الرثاء أكثر ما يمِسّ كلّ ربما ما قرأ المرء من رثاء في حياته. من نوع مثلاً يتحدّث
عن والده المتوفى ويقول، قل له أنا أتذكّرك خاصة أتذكّرك مثلاً عندما يأتي الفقير
الذي يأخذ مالاً من عندنا من البيت ويلبس معطفك الذي أعطيناه إياه وقشرة رأسك لا
تزال على أكتاف المعطف. الشيء الذي وصفته في رثائِه لأبيه مستمرّ في تناوله لكلّ
شيء في الحياة وفي العالم. دائِماً يأتي "عباس" في شِعره من المكان الذي
تشعرين أنّ هذا العُمق موجود فيكِ، هذا الانكسار موجودٌ فيكِ، لا أحد يمكنه أن
يصفه كما يصفه "عباس". كلّ الناس يقولون عن شِعره أنه شعرٌ صعب جداً
وصعب التداول وصعب الوصول وصعب الفهم. لكن في رأيي، توجد جائِزة كبيرة جداً لمن
يستطيع أن يُتابِع أو يستمرّ في قراءة الشِعر أو قراءة النصوص الأُخرى. توجد ميّزة
أُخرى من ميزات "عباس" وهي كيف يتحدّث. هناك صديق مُشترك لنا كان يقول
لي دائماً، " أنا لا أعرف شخصاً يُجيد الكلام كـ "عباس". قُدرة على
تدوير الأفكار وقُدرة على إيضاحها وإيصالها، وقُدرة على تناول المسألة من أكثر من
جانب واحِد. توجد عنده قدرة على العدالة في علم ينقسم إلى أفرِقاء، كلّ فريق من
الأفرقاء في رأيه أنّ الحقّ معه إلى النهاية ومن دون أيّة نظرة إلى الموازنة
والتفكير بالآخرين إلى آخره ومن دون أية نظرة للعدالة. "عباس" شخص في
رأيي عادل، أحياناً يُنصِف خصومه مرّات عديدة، ومرّات أيضاً يُدين الذي يقوم به
أُناس قريبون جداً له. يتأمل المرء أنّ هذه النظرة العميقة للعالم الموجودة في
شِعر "عباس"، أتأمل ألاّ يتركها الناس المُسرعون نحو السهولة ونحو أن
تكون الحياة هيّنة معهم إلى آخره. المفروض أن يبقى هذا الشيء الأساسي في الحياة
الذي هو درجة الإبداع واليقظة الشعرية الموجودة عند "عباس". أريد أن
أسأل "عباس"، إذا في يوم شعر بأنه غير قادر على الكتابة مثلما يكتُب
دائماً باستمرار. أنا أعرِف أنّ "عباس" يكتُب كثيراً ويقرأ كثيراً. إذا
في يوم أتى وشَعَرَ بنفسه أنه غير قادِر على الكتابة، كيف سيُمضي بقية حياته؟ وكيف
سيكون رأيه في الشيء الذي كتبه سابقاً؟ في السنوات التي سبقت؟
زاهي وهبي: شهادة عميقة وقيّمة
عباس
بيضون: شهادة رائعة
زاهي وهبي: حقيقةً أُستاذ "حسن داوود"
عباس
بيضون: شعرت أثناء سماعها بأنني أُحبّ نفسي
لكنني أستمرّ في حبّ "حسن" أكثر بكثير مما أحببت نفسي
زاهي وهبي: نعم، مع أنّ الوسط الثقافي عموماً متّهم
في أن العلاقات الإنسانية فيه ليست دافئة كثيراً وحميمة وإنسانية، أي أن يُحافظ
المرء على صداقة طوال هذا العُمر
عباس
بيضون: أنا بالنسبة إليّ، الناس مثل "حسن" هم حياتي. لا يُمكنني أن أرى
حياتي خارجهم. أنا أشعُر من وقتٍ إلى آخر أنّه صار لي وقتً طويل لم أر
"حسن"، وبأن الوقت الذي استمر لهذا القدر ولم أرَ فيه "حسن"
يعني أنني لم أعِش كفاية
زاهي وهبي: جواباً على سؤاله لو سمحت، إذا لم تكن
تكتُب، ما من الممكن أن تكون تفعل وكيف تقيِّم الأشياء التي كتبتها
عباس
بيضون: لا يُمكنني أن أتصوّر نفسي في وقتٍ ما
لا أكتُب. هذا الشيء سيكون جارحاً جداً وسيكون سيئاً جداً لأنني حينها سأكتُب
أشياء سخيفة
زاهي وهبي: لو استمريت في العمل السياسي، أكان من
المُمكن أن تتخلّى عن العمل الكتابي؟ أي في لحظات ما راودتك نفسك أو راودتك
السياسة عن نفسك؟
عباس
بيضون: العمل السياسي مُشكلته الكبيرة أنه
يجعلنا نشعُر بأننا نقوم بكلّ شيء، وبأننا نحن حتّى لو كنّا لا نكتب نحن نكتُب،
وحتى حينما نحن لا نقرأ نكون نقرأ. العمل السياسي عنده هذه الكلّيانية الفظيعة
لدرجة أنني حين كنت أشتغِل في السياسة لم أكن ولا مرّة مناضالاً حقيقياً، وأنا
أشتغِل سياسة كنت أشتغل شيئاً يُشبه الكتابة
زاهي وهبي: نعم
عباس
بيضون: كنت أشتغل شيئاً يُشبه الكتابة ويشبه
الشِعر حتّى
زاهي وهبي: هلّ تندم على تجربتك الحزبية في منظمة
العمل الشيوعي؟
عباس
بيضون: أبداً أبداً، لا أندم على الإطلاق على
تجربتي الحزبية، ورأي أنني أنا لم أكن الشخص نفسه لو لم أعِش هذه التجربة
زاهي وهبي: حلو، الشق الثاني من سؤال الأُستاذ
"حسن داوود"، كيف تقيِّم كتاباتك. بمعنى، لو كنت في مكانٍ ما لا تكتب
وتراجع كُتب "عباس بيضون"
عباس
بيضون: أتصوّر أنني أخاف دائماً ألاّ أُحبّ
كتاباتي وألاّ أُصدّقها، وهذا الشيء منذ يومين حصل لي. كنت أسأل نفسي فعلاً، هلّ
أنا كاتِب جيّد أم لا؟ وبأنه سيأتي وقت أكتشِف أنني لم أُحقّق شيئاً أم لا؟ هذا ما
كنت أشعر فيه، وفي رأيي، الإحساس فيه مؤلِم جداً لأنني لم أقم بشيء في حياتي فعلياً
إلاّ الكتابة
زاهي وهبي: هذا ما أسميته في المُقدّمة" اللا
يقين"، أي موجود عندك حتّى اتجاه نصوصك. في روايتك "ساعة التخلّي"
يوجد تكريم لجيل، بما أننا سمعنا الأُستاذ "حسن داوود"، تكريم لجيل لكن
في الوقت نفسه هناك نوعٌ من تصفية أمور أو حساب مع هذا الجيل
عباس
بيضون: صحيح
زاهي وهبي: لماذا تريد أن تُصفّي الحساب مع جيلك؟ مع
نفسك بشكلٍ أو بآخر
عباس
بيضون: تماماً، ربما تصفية حساب مع نفسي. أنا
أشعُر بأنّنا نحن نعيش، وما دمنا نعيش يجب أن نتجاوز الأشياء. التجاوز هو صفة
بشرية، صفة لها علاقة بحياتنا. عندما أتحدّث عن السياسة بهذه الطريقة أو عن عملي
السياسي بهذه الطريقة، فقط لأنني تجاوزته، فقط لأنني صرت خارجه، وخارجه لا يعني
أنني صرت في شيء أحسن ولا يعني أنني صرت في شيء
زاهي وهبي: أرفع أو أقل
عباس
بيضون: أرفع أو أفضل أو شيء قادر على الوصول
إليه
زاهي وهبي: سمه شيئاً آخر في مكانٍ آخر
عباس
بيضون: تماماً
زاهي وهبي: مكان مُختلِف عن المكان التي كنت فيه
عباس
بيضون: حتّى هذا أحذر أن أقوله، لا أعرف إن
كنت في أي مكان!
زاهي وهبي: لكن هذا مُتعِب على المُستوى الحياتي والإنساني
والنفسي
عباس
بيضون: تماماً مُتعِب، الحياة هي دائِماً حال
من التعب. ما زلت أذكُر "أُنسي الحاج" حين قال، "لحظة راحة"،
وأنا مثل "أُنسي الحاج" أقول "لحظة راحة"
زاهي وهبي: دائماً ذو العقل عليه أن يشقى، أليس
كذلك؟ قالها شاعِر من زمان. تحدّث عن السهولة أُستاذ "حسن"، قبل أن أتوقّف
مع استراحة، دعا إلى قراءتك في عدم السهولة. هلّ تشعُر بأنك صعبٌ على قرّائك؟
عباس
بيضون: نعم، أنا أعرِف هذا الشيء، وأحد
الأشياء التي جعلتني أُفكّر من يومين بأنني ربما لم أقم بشيء مُهم هو شعوري بأنني
صعب وشعوري بأن الناس يريدون شيئاً أسهل
زاهي وهبي: على كلّ حال، سمة العصر اليوم هي
السهولة أو الاستهلاك بشكلٍ سريع جداً. سنتحدّث بعد الاستراحة أكثر أيضاً عن
الروايات وعن الشِعر وعن أحد أصدقائك الذين كتبت كتاباً كاملاً ربما كتحية له وهو
الشاعر الراحل "بسام حجّار"، ولكن بعد الاستراحة نُتابع "بيت
القصيد"
المحور
الثالث:
زاهي وهبي: تحية إلى "بسام حجّار" الذي شاهدناه وسمعنا صوته، الشاعر
الراحل. لماذا إلى هذه الدرجة حاضر في وجدانك وفي نصّك "بسام حجّار"؟ كتبت
كتاباً بعنوان "بطاقة لشخصين"
عباس
بيضون: "بسام" لا أريد أن أقول
صديق العُمر، أُريد أن أقول بأنني مع "بسّام" كان عندي إحساس بأننا نقوم
بشيء مُشترك
زاهي وهبي: نعم
عباس
بيضون: أنا و"بسام" كان عندنا
عالمٌ بذاته. كنّا نعيش في عالم كنتُ أعتقده مشتركاً، مع أنه في النهاية لم يكن
مشتركاً كثيراً لأن عالم "بسّام" كان بيتاً وعالمي أنا كان
زاهي وهبي: خارِج البيت
عباس
بيضون: البيت وخارجه. عالمي كان أَرحَب
زاهي وهبي: أكثر انفتاحاً
عباس
بيضون: نعم، لا أُريد أن أستخدم كلمة تبدو
وكأنها تقييماً. عالمي كان في الخارج أكثر وفي الداخل. عالم "بسام" كان
في الداخل، لكن هذا العالم في الداخل. كما انتبهت بعد وفاة "بسام" أن
كلّ الناس يلامسهم، كلّ الناس يعيشون في داخلهم حين يقرأونه. شعرت بعد وفاة
"بسام"، وأنا أُتابعه كشاعِر، أنه موجودٌ بقوة لدى الأجيال الجديدة، لدى
الشعراء الجُدد. شعرت أيضاً أكثر من هذا أنّ "بسام" هو الشخص الذي أنا
وهو عشنا سوياً حياة شبه يومية
زاهي وهبي: نعم، وكأنّ حكاية "جلال الدين
الرومي" و"شمس التبريزي" لها مصداقة ما، بمعنى أنّ حاجة المُبدِع
إلى آخر دائِمة كالمرآة؟
عباس
بيضون: في الحقيقة، كان بالنسبة إليّ
"بسام" هو وعدد آخر من أصدقائه ومن بينهم "حسن" ومن بينهم
آخرون أيضاً، كانوا بالنسبة إليّ هؤلاء الأشخاص هم الناس الذين أنا وإياهم نتحدّث
دائِماً مع بعض، وأكثر من هذا أيضاً، أنني أكتُب لهم
زاهي وهبي: تعرّضت لحادث سيارة ونجوت، الحمد لله
على السلامة، بأُعجوبة، ولا أريد أن أبقى أربِّحك جميلاً في أنني كتبتُ لك تحيّة
أثناء غيبوبتك. مرحلة الغيبوبة، أتذكّر؟ بمعنى هلّ هناك شيء لا يزال عالقاً في
ذهنِك؟ ربما أثناء الدخول في الغيبوبة أو الخروج منها؟
عباس
بيضون: أبداً، لكن أتذكّر بأنّي كنت، بعدما
استيقظت، استيقظت وكنت أنام في الوقت نفسه، أنني تقريباً في وسط الغُرفة ولست مُحلّقاً
في الغرفة بل أسبح وسط الغُرفة أسمع من بعيد ما كانت تقوله ابنتي وأسمع من بعيد ما
كان يحكيه آخرون وبأنني أتضايق كثيراً من الجزمة التي كنت ألبسها والتي كان من
اللازم أن ألبسها لأن رجلاي كانتا مكسورتين وبأنني أصرخ أن يزيلوهما، أن يخلعانهما
عن رجلتّي
زاهي وهبي: هذا أول ما فكّرت فيه
عباس
بيضون: هذا ما فكرّت فيه، أجل
زاهي وهبي: هلّ انعكست هذه التجربة في نصّك؟ بمعنى
"الشافيات" فيها شيء من هذه التجربة؟
عباس
بيضون: لا. في الواقع إنّ الكتاب الذي لم
يصدر بعد فيه شيء عنها، وفي " الصلاة لبداية الصقيع"
زاهي وهبي: كتاب الشِعر الأخير
عباس
بيضون: فيه مقاطِع تستعيد فترة الحادث، لكن
تستعيده من بعيد
زاهي وهبي: في كتابك الذي ذكرته، "الصلاة
لبداية الصقيع" توجد فيه قصيدة بعنوان "أُختي"، كتبتها لأُختك؟
عباس
بيضون: أجل، نعم
زاهي وهبي: الأُخت هي أُمّ أُخرى بشكلٍ أو بآخر؟
عباس
بيضون: الحقيقة أنّ أُختي هي ابنتي، لأنّ
أُختي بيني وبينها ست سنوات، وأنا كنت البِكر، وأثناء كبرها كان لي نوع من الهيمنة
الروحية عليها وكانت تكبر معي وأشعر بأنها ابنتي مع أن ست سنوات ليسوا بفارقٍ
كبير، لكن كنتُ أشعُر بأنها ابنتي وما زلت أشعُر اتجاهها بأنها ابنتي، والغريب
أنها تشعر تجاهي أنني أبٌ صغير
زاهي وهبي: نعم، ولكن أحياناً البنت تُصبح أُمّا
لأبيها، حتّى في الموروث الشيعي مثلاً، السيّدة "فاطمة الزهراء" تُسمّى
أمّ أبيها لقدر ما كانت حنونة وعاطفية على الإمام "علي"، فأُريد أن أتحدّث
عن ابنتك وابنك، "بانة" و"زكي". "بانة" تكتب الشعر
و"زكي" يكتب الشعر ويكتب أشياء أُخرى. هلّ تشعُر أنّ الحياة والكتابة
والشعر قرّبتهما أم أبعدتمها؟ هلّ تشعُر بنوع من الخُسران في علاقتك بـ
"بانة" و"زكي"؟
عباس
بيضون: لا، في علاقتي في "بانة"
و"زكي"، هما الشخصان اللذان، كما قلت في الربورتاج، أهتم في أن أعرِف ما
يقولانه عني
زاهي وهبي: من أجل هذا أنا سألت السؤال
عباس
بيضون: لهذا السبب أشعُر بأن ابني وابنتي
اللذان الآن كبرا وصارا تماماً خارجي، واللذان أنا أشعُر بحاجة إليهما، ليس فقط
الحاجة إليهما بل إنهما ممكن أن يُفسرا لي أشياء ويُفهماني أشياء لا أفهمها،
ويُفسرا لي أشياء لا أستطيع تفسيرها وبأنهما يقولان لي أشياء ويُحلاّن لي مشاكل لا
أتمكّن من حلّها
زاهي وهبي: أي تشعر أنهما أقرب إلى إيقاع الحياة
اليوم ومُستجداتها ومُتغيّراتها السريعة؟
عباس
بيضون: أشعُر تماماً أنهما موجودان جداً في
زمانهما وفي زماني أنا أيضاً، من أجل هذا يُمكنني أن أتحدّث معهما، موجودان في
زماني وزمانهما
زاهي وهبي: نعم، كيف تقرأهما، بمعنى تقرأ نصوصهما
الشعرية؟
عباس
بيضون: أقرأها تماماً بوصفها شيئاً جديداً فعلاً
زاهي وهبي: أيمكنك أن تكون قارِئاً مُحايدا أو ناقداً
مُحايِداً
عباس
بيضون: أجل، قليلاً. لا يمكنني أن أقول
كلياً، لكن قليلاً
زاهي وهبي: هلّ يُورّث الشِعر؟ بمعنى، هلّ هناك
جينات تنتقل؟
عباس
بيضون: لا، كلّ شِعر هو غير الشِعر الذي سبقه
وغير الشعر الذي يليه. الشعر ليس شيئاً واحداً، عندما أشعُر بأنّ ابني يكتُب أو
ابنتي تكتُب، أشعر بأن كليهما يكتبان شيئاً مُختلفاً، ويكتبان شيئاً تماماً أنا
غير موجود فيه لأنهما لم يقوما بأيّ جهد ليعرِفا ما أنا كتبته، لم يقوما بأي جهد
زاهي وهبي: نعم
عباس
بيضون: ابني وابنتي تقريباً لا يقرآني
زاهي وهبي: هذا نوعٌ من قتل الأبّ؟
عباس
بيضون: لا، ليس قتل الأب. نوعٌ من الاستقلال
زاهي وهبي: أو الجهل بالأبّ
عباس
بيضون: نوع من العادة، نوع من الطبيعة وليس
أكثر من هذا. ابني قرأ بعض الأشياء لي وحين كان يحسّ بأنّ هذه الأشياء شبيهة بالتي
كان يقرأها لي كان يقول لي لأنه كان يشعُر بأنني أنا أشبهه وليس هو يشبهني. وابنتي
أيضاً الشيء نفسه، لا تقرأني وحين تكتب شيئاً، تقرأ لي الأشياء التي تكتبها وتهتم
برأيي، ولكن تهتم بي كقارئ أكثر مني كشاعِر
زاهي وهبي: غريب هذا الشيء
عباس
بيضون: لا، صحيح، أنا أراه طبيعياً جداً
زاهي وهبي: بما أننا ذكرنا أختك، نمسيها بالخير،
و"بانة"، سؤال عن النساء في رواياتك بشكلٍ خاصّ، اللواتي يظهرن وكأنّ
العالم بين أيديهنّ أحسن، كأنّ العالم تحت ظلالهنّ أكثر رحمةً ورأفةً. هلّ هذا
الانطباع صحيح؟ بمعنى، نساء "عباس بيضون" يجعلن العالم أفضل؟
عباس
بيضون: نساء "عباس بيضون" في
رواياته فاجأته. أنا فاجأني في روايتين، في "الشافيات" مثلاً أنّ الرجال
إلى هذه الدرجة رذيلون والنساء إلى هذه الدرجة ممتلئات. أنا تفاجأت عندما شعر
الناس بهذا الشيء، تفاجأت عندما قرأوه هكذا. لكن في الحقيقة، هذا الشيء للروايات،
هكذا رواياتي ـ هكذا أكتب رواية
زاهي وهبي: أي ليس انحيازاً للمرأة أو نوع من
المناصرة للنساء
عباس
بيضون: لا، أنا أحسست بأنني ربما أنا منحاز
للنساء أكثر مما أتوقّع، لأنه لم يكن ممكناً أن أكتُب روايات فيها هذه الدرجة من
زاهي وهبي: العاطفة
عباس
بيضون: الانحياز للمرأة، وقد يكون، وهذا شيء
غريب أقوله لك بيننا، قد يكون أنني لا أُحب نفسي، درجة من عدم الحبّ لنفسي أو لا
أتقبّل نفسي
زاهي وهبي: هلّ هذا يجعلك تشعُر بأسى؟ أم لا؟
عباس
بيضون: لا، لا يُشعرني بأسى، يُشعرني بأنه
تُبنى لي علاقات في الكتابة ليست في الضرورة هي علاقات في الحياة
زاهي وهبي: نعم، أي وضعك في الكتابة أفضل منه في
الحياة مع النساء
عباس
بيضون: ربما، أكيد أفضل. أنا في رأيي، كلّ
شاعِر في شعرِه أفضل منه كشخص لأنّ الشعر هو شيء يتجاوزنا. أبداً ولا مرّة الشِعر
الذي نكتبه أو الكتابة التي نكتبها هي نحن. هي شيء كما قال "هيدغر"، أن
اللغة تتحدّث فينا
زاهي وهبي: تستعملنا اللغة
عباس
بيضون: اللغة تحكي فينا، وعندما نرى الأشياء
نراها أبعد بكثير منّا، وأنّ الإنسان في الكتابة يكتشف أشياء ويقول أشياء أهمّ
بكثير منه
زاهي وهبي: نعم. من وحي عنوان كتابك "البوم
خسارة"، الخسارات في حياتك كثيرة؟
عباس
بيضون: أجل
زاهي وهبي: أبرزها؟
عباس
بيضون: أوّل خسارة أنني فقدت أخي. كان عمري
بحدود 15 سنة عندما توفى أخي
زاهي وهبي: عمرٌ مفصلي. كان أخاك الأكبر؟
عباس
بيضون: لا، أخي الأصغر مني بسنة ونصف
السنة
زاهي وهبي: دائِماً نشعر عندما نخسر أُناساً إلى
هذه الدرجة قريبين ونخسر أُناساً يعزّون علينا دائِماً نندم لاحقاً
عباس
بيضون: نشعُر بالذنب، هذا شيء طبيعي
زاهي وهبي: لماذا لا ننتبه لهم وهم على قيد الحياة؟
عباس
بيضون: لأنّ الشعور بالذنب كينوني جداً.
الشعور بالذنب لا يعني إطلاقاً وجود ذنب أو عدم وجوده، الشعور بالذنب هو شيء عضوي
جداً وأساسي في حياتنا ووجودنا
زاهي وهبي: جزء من وجود الإنسان نفسه
عباس
بيضون: تماماً
زاهي وهبي: أخذنا الحديث ولم نسمع الشعر، أريد أن
أسمع مقطعاً شعرياً قبل أن نأخذ استراحة، إذا أردت من الورق، أي قصيدة جديدة. في
الجيبة، في الجيب. هلّ ما زلت تُضيع أشياء ومفاتيح
عباس
بيضون: طبعاً ما زلت. سأقرأ قصيدة اسمها
المكتبة
زاهي وهبي: تفضّل
عباس
بيضون:
المكتبة،
كُتبٌ لم تُفتح من سنين
في
الحقيقة لم يقرأها أحد
حتّى
الذين نسخوها خافوا من أن يفعلوا
قالوا
أنهم ينقلون أسراراً لا تجوز معرِفتها
ولا
طاقة على فهمها
الذين
كتبوها خافوا منها ورموها
على
قارعة الطريق
توجّسوا
من أن تخنقهم في نومهم
لم
يعرِفوا كيف تصوّرت على الرِقّ
من
وضعها على الريشة
ومن
حرّك بها أصابعهم
رصفوها
خلف الزجاج وأغلقوا عليها
قالوا،
الكلام يحيا مع الوقت
وعلينا
أن ننتظر أجيالاً
بمجرّد
فتحه يبصق روحه
وتشتعلُ
النار في أطراف البيت
لكنّ
أحداً لا يعلم كم تُحاول الكُتب
فتح
نفسِها، ولا تجد أمامها سوى الغبار لتمضغه
كم
هي الأُخرى أُمية ولا تقرأ ما في داخلها
أميةٌ
وعمياءُ ومُقعدة ولا تقدر على الحركة
يُخطئ
من يظنّ أنّ المُجلّدات الكبيرة
تمضي
وقتها في ألعابٍ ذهنية
أو
أنها مع الأيام تزداد فهماً لما تحويه
أنها
في نهايات الأزمنة تغدو واضحةً ومُفسّرة
في
نهايات الأزمنة لن يبقى شيءٌ منها
سيغدو
الفراغُ في وسطها، سيكون أيضاً سقفها
ستعلو
وتطول، لكنها لن تحكُم العالم
سيبقى
لها سحرها
بكلمة
تُحول "بوتوغاز" المطبخ إلى مكتبة
لكنها
لا تستطيع أن تبعِد عنها العناكب السامة
وتستمرّ
مع ذلك في أكل الذباب
مع
العُمرِ تبيضّ أعينها
وتعضّ
أكثر على أضراسها
تنتأ
ويغدو لها حجماً، وتروح الكلمات تأكل بعضها
ما
يتبقّى لن يكون قليلاً، ولن يُشكّل بنفسه كتباً
قصيرةً
بل قزمة يحدث أن تستيقظ
فتجد
المُجلّدات مقطوعةً نصفين
أو
تجدها كِوَماً من نشارةٍ خشبية
سحبوا
خيطانها وفرموها بدون حنكة
لن
يبقى فيها أسرارٌ أكثر من ورقة الخريف
لن
يسقط منها مُخطّط للعالم
إنها
تفورُ برمالٍ ترسم دوائِرَ كاملةً حولها
لقد
فتحت نفسها تلعب دفعةً واحدةً الفراغ والذباب
لم
يبق أمامها ما تأكله سوى الجذور
التي
تجدها مخلوطةً بالتراب
ربما
هكذا لن تنقل إلينا أمراضاً
ولن
تخنقنا في نومنا
زاهي وهبي: كأنه شبه رثاء للكُتب وللمكتبات للأسف
عباس
بيضون: تماماً
زاهي وهبي: إن شاء الله تكون الوسائِل الحديثة مُحفِّزة للشباب على القراءة بشكلٍ أو
بآخر
عباس
بيضون: نعم، إن شاء الله
زاهي وهبي: على كلّ حال، سنتحدّث عن مسألة الصحافة الورقية والمُستجدات في هذا
العالم، والكتاب الورقي ومصيره، ولكن بعد استراحة أخير نُتابع "بيت
القصيد"
المحور الرابع:
زاهي وهبي: اُستاذ "عباس بيضون" قبل أن
نسمع رأياً بتجربتك، وهذه المرة من "مصر" من الشاعر المعروف الأُستاذ "عبد
المنعم رمضان"، سؤالي هو حول عملك الصحافي، سواء في جريدة "السفير"
حيث عمِلتُ مُطولاً كرئيس للقسم الثقافي أو قبل جريدة "السفير" في منابر
أُخرى، هلّ من أثر للعمل؟ حين يعمل الشاعر أو الروائي في الصحافة، هلّ لهذا العمل
من أثر على النصّ ؟ على طبيعة النصّ؟ على جوهره، على شكله، على أسلوبه؟
عباس
بيضون: أكيد
زاهي وهبي: كيف؟
عباس
بيضون: ما دمنا نتحدّث عن الروائي، عندما
بدأت أكتُب لم أكن معنياً كثيراً بالقرّاء، وربما الكتابات الأولى تُبرهن على هذا.
رويداً رويداً انتبهت أنه صار عندي قرّاء، وعندما يُصبح عندك قراء هذا يعني أنّ
عليك أن تكتُب من أجلهم. ومن أجل أن تكتب من أجلهم يجب أن تُراقب كتابتك. هذا
النوع من الكتابة التي تصبح بعد فترة أسهل وأكثر عصبية وأكثر حدّة هي الشيء الذي
لاحقاً كُتبت به الرواية
زاهي وهبي: هل هذا الشيء يُمكننا أن نُطلق عليه
حُكم وأن نقول أنّ هذا الشيء إيجابي أو سلبي؟
عباس
بيضون: هذا شيء إيجابي أكيد
زاهي وهبي: نعم، إيجابي
عباس
بيضون: إيجابي أكيد، لأن الصحافة بالنسبة إليّ
هي التي جعلتني أكتُب رواية. لغتي الروائية خرجت من الصحافة
زاهي وهبي: نعم، من التماس اليومي مع نصوص أُخرى
أيضاً
عباس
بيضون: تماماً
زاهي وهبي: بمعنى كمُصحّح وكمسؤول تُراجع نصوصاً
وتُصحّح وتصوِّب وتحذف
عباس
بيضون: صحيح. لكن أهم ما في الموضوع هو أن
أكتب من أجل الناس، نكتُب وفي رأسنا قرّاء
زاهي وهبي: عندي سؤال حول أثر الميديا الحديثة
اليوم أو التي يُسمّونها Social Media أو مواقع التواصل الاجتماعي وأثرها على النصوص، ولكن دعنا نسمع
قبلاً الشاعر الأُستاذ "عبد المنعم رمضان"
كلام
يوصل
عبد
المنعم رمضان – شاعِر: شعراء الجنوب عموماً
لفتوا نظري، و"عباس بيضون" كان جنوبياً أيضاً لكنه اختلف عن شعراء
الجنوب. شعراء الجنوب جميعاً تحدّثوا عن جنوبٍ ظاهِر، عن مكانٍ ظاهر، عن زمانٍ
ظاهر. "عباس بيضون" لا يعرِف الكلام عن مكانٍ ظاهر ولا يعرف الكلام عن
زمانٍ ظاهر. شعر "عباس بيضون" شعر التآويل، يبحث عن مكان، عن أمكنة تحت
المكان، عن أزمة تفرّ وتهرب. لا يبحث عن شخصيته، لا يُعبِّر عن الذات ولكنه في
رحلة دائِمة بين اللغة والذات، ليس مرآةً أو قناعاً لذات. المُهمّ أنني أحببت
"عباس" في تلك الفترة وما زلت أُحبه بالتأكيد، وكتبتُ عنه في سنة 2000
مقالة بعنوان "الراهب". أتخايل دائِماً "عباس بيضون" يدخل
المكان، يألفه وعندما يعتاده يشعُر أنه أصبح سجناً أو منفى. فعل هذا مع السياسة،
دخل السياسة في الحزب "الشيوعي"، ذهبت الخلايا في جسمه وفي دمه ثمّ تحوّلت
إلى ما يُشبه السجن أو المنفى. يفعل هذا دائِماً مع الشِعر، يدخل إليه، يذوب فيه،
يتحوّل إليه، حتّى أنه يكتُب المقالة أيضاً باعتبارها يُمكِن أن تؤلَف، يُمكن أن
تُعتاد، ويُحارِب الأُلفة فيها ويُحارب الاعتياد. اللغة عند "عباس
بيضون" تسيل مثل الماء، يحب لها أن تسيل مثل الماء وتدخل في الأماكن الخفية.
شعر "عباس بيضون" في عمومه شعر يكاد يكون موضوعياً وهو ليس موضوعياً،
يكاد يكون زاهدياً وهو ليس زاهدياً، يُراوغنا حتّى في اختياراته. يُمكن أن أسأل
"عباس بيضون" سؤالاً وأرجو أن يقبله مني وهو: في رحلاتك الدائِمة التي
تحدّثت عنها، دخولك للأشياء وعندما تعتادها تتحوّل إلى منفى أو سجن. هلّ دخولك إلى
الرواية وصل مرحلة الاعتياد والأُلفة؟ ومتى ستخرج منها إذا كان يمكنك أن تخرُج
منها؟
زاهي وهبي: شكراً للشاعر "عبد المنعم
رمضان". سؤاله هو، إذا كان دخولك إلى الرواية وصل إلى مرحلة الاعتياد والإلفة
بحيث أنك تشعُر وكأنك في سجن، مثل علاقتك بالأمكنة أو بالرحلات أحياناً. بمعنى حين
نألف المكان إلى حدٍّ كبير يُصبح عندنا رغبة في مُغادرته أحياناً. هلّ وصلت إلى
هذه الحال في علاقتك مع الرواية؟
عباس
بيضون: أولاً أريد أن أقول بأنّ "عبد
المنعم " قرأ قراءة لشعري وقراءة لكتابتي جديدة. وأنا أحببت هذه الجدية فيها،
ولا أعرِف. لم آخذ وقتاً كافياً كي أراها عن قُرب، سيصير عندي وقت لاحقاً كي
أراها. عندما قال أن شعري موضوعياً وليس موضوعياً تماماً
زاهي وهبي: وذاتي وغير ذاتي
عباس
بيضون: وذاتي وليس ذاتياً، هذا الشيء
أستوقفني. الرواية بالنسبة لي هي مكان يُمكنني أن أكتُب فيه على راحتي، لأنّ
الرواية لا تعريف لها. الآن الذي أكتبه أنا هو يوميات، وهذا نصٌ، وأنا أكتب
اليوميات وكأنني أكتب رواية
زاهي وهبي: دعني أسأل أُستاذي، اليوم، الكتابة على
"الفيس بوك" أو على "تويتر" أو على أيّة وسيلة من هذه
الوسائِل فيها علاقة مُباشرة مع المُتلقّي، والجميع تحوّل مرسلاً ومتلقياً في
الوقت نفسه، فهذا له أثرٌ على النص بطبيعة الحال
عباس
بيضون: إلى حدّ الآن لم أُلاحظ هذا رغم أنّ
عندي صفحة على "الفيسبوك"، لم ألحظ أنّ "الفيسبوك" في أيّة
درجة من الدرجات تؤثِّر على شُغلي. على العكس، أشعُر أن على "الفيسبوك"
تدخل كلّ علاقاتي الاجتماعية. عندما تتحدّث مُباشرةً مع شخصٍ آخر تصبِح تُراقب
نفسك كثيراً، تُراقب لغتك، تُراقب أدبك، تُراقب جُملَك
زاهي وهبي: لكن هذا شيء غير جيّد في الكتابة
عباس
بيضون: لا أعرف إن كان هذا الشيء جيّداً أم
لا، لكن أعلم بأنه على "الفيسبوك" تدخُل كلّ العلاقات الاجتماعية
زاهي وهبي: قصدي أنه ممكن أن يتحوّل الكاتب بسبب
هذه الصلة المُباشرة إلى ما يطلبه المستمعون أو ما يطلبه القرّاء
عباس
بيضون: لا أحبّذ ما يطلبه القرّاء، لكن أحسّ
بأنه بين القرّاء وبين الكاتب توجد درجة كبيرة من المُجاملة، درجة كبيرة من اللطف،
وأنّ هذا اللطف والمُجاملة لا يعنيان على الإطلاق أن لهما قيمة نقدية. أعرِف أن
نصوصاً كثيرة لا تستوقفني إطلاقاً وأشعُر بأن هناك كمية من التعليقات عليها وكمية
من الـ Like
بلا حدود، تشعر في النهاية بأنّ كلّ العلاقات الاجتماعية تدخل إلى
"الفيسبوك"، والعلاقات الاجتماعية بمعنى المُجاملة والمُلاطفة والحسابات
الاجتماعية إلى آخره والبروتوكول والإتيكيت
زاهي وهبي: بينما كتابة المقال النقدي أو وجهة
النظر النقدية شيء آخر تماماً ومُختلِف. تقول، من حُسن حظك أو من سوء حظك أنك
تنتمي إلى جيل عاش على الحدّ الفاصل بين زمنين. زمنٌ يودِّع زمن الورق والكتابة
والحبر والورق الذي يعلق في أطراف أصابعنا، وزمن الألواح الذكية المحمولة وشاشات
اللمس. اليوم إذا أحضرت طفلاً عمره ثلاث سنوات، أعطه أي شيء فيحاول أن يُحرّكه
بطريقة اللمس. هذا الشيء كيف ينعكِس عليك؟
عباس
بيضون: أنا أشعر بأنه ليس جميلاً جداً أن
يكون جيلاً انتقالياً. الأشياء الانتقالية دائماً هي بلا قوام وبلا ماهية. نحن
لسوء حظنا جيلٌ انتقالي
زاهي وهبي: نعم. أُستاذ "عباس"، العوالِم
السحرية الموجودة في بعض أعمالك الروائية، وحتّى إذا أنا أبحث في الشعر أجد بعض
اللطشات أو اللمسات التي تنتمي إلى هذا النوع. هل هذه هي تأثر بما سمّي بالواقعية
السحرية عند "ماركيز" والذين مشوا على نسقه؟ أم لها علاقة بالطفولة
وأحلام الطفولة وأحلام اليقظة التي كلّنا في مرحلة من المراحل، خصوصاً الآتين من
بيئة ريفية إلى حدٍّ ما، كنّا نحلم وعينانا مفتوحتان
عباس
بيضون: لا أكيد، "فانتازيا" في
أدبي. هي عمل أدبي وليس لها علاقة واضحة لا بطفولتي ولا
زاهي وهبي: بأحلام اليقظة
عباس
بيضون: ولا بالجو الريفي. لكن الفانتازيا
بالنسبة لي هي أن تقول الأشياء بطريقة مُختلِفة بصورة مُستمرة. في
"الشافيات" أو في
زاهي وهبي: "ساعة التخلّي"
عباس
بيضون: في "خريف البراءة" الأشياء الفنتازية
هي محاولة قول الأشياء الني أريد أن أقولها من مكانٍ آخر، ومن مكان إذا جاز
التعبير، لا أريد أن أقول شعرياً لأنني حريص في رواياتي على ألاّ أكتُب الشِعر.
لكنني حريص في الوقت نفسه على أنّ هذه الفانتازيا تضع الرواية في عالمٍ آخر وفي
منظور آخر، وتتمكّن من أن تجد صلة بين العالم الواقعي وبين العالم الخيالي، أو
العالم الرمزي
زاهي وهبي: نعم. علاقتك بالوقت، بالعُمر، بالأيام،
بالسنوات كيف؟ هلّ هي علاقة فيها نوع من التصالح أم فيها قلق، فيها خوف؟
عباس
بيضون: لا، فيها قلق. عندما صار عُمري 71
سنة، هذا الشيء كان بالنسبة لي مقلق جداً وشعرت في النهاية أنه لم يعُد في إمكاني اللعب
مع الحياة في الطريقة نفسها وفي أنّه من اللازم أن اُفكِّر لقدّام، أن أُفكِّر في
الموت نفسه
زاهي وهبي: على كلّ حال، إن شاء الله عمرك طويل
اُستاذ "عباس بيضون" ونِتاجك إلى مزيد سواء في الشعر أو في الرواية.
أعرِف أنّ عندك أعمال قيد الإنجاز وإن شاء الله قريباً تكون في متناولنا. مُعظم
أعمالك الأخيرة صدرت عن "دار الساقي" في "بيروت" لمشاهدينا
الذين يُحبون أن يطّلعوا عليها، ولعلّنا في لقاء مُقبل نتحدّث أكثر عن قصيدة النثر
ومشاكل وهواجس قصيدة النثر. ربما اليوم الروايات غلبنَ قليلاً على الحوار. لكن أنا
سُعِدت جداً بلقائك. أهلاً وسهلاً بك
عباس
بيضون: يا هلا بك، شكراً لك
زاهي وهبي: شكراً أُستاذ "عباس بيضون"،
شكراً لفريق العمل، لمُخرِج البرنامج الأُستاذ "علي حيدر"، لمنتجة
البرنامج "غادة صالِح" والشُكر الأكبر دائِماً لمُشاهدينا في كلّ أنحاء
العالم. نلتقيكم الأُسبوع المقبل على خير بإذن الله