السفير ليفون سركيسيان

نص الحلقة

غسان الشامي: مساء الخير.

جاءت الأزمة التي تعصف بالمشرق لتضع الدولة الأرمنية أمام وقائع جديدة وتُجدّد ذكريات مؤلمة قديمة، ولأنّ أرمينيا لم تستطع أن تغضّ الطرف عما يحصل جراء تناول الأرمن السوريين تحديداً الذين هم أحفاد من نجو من الإبادة شرّعت لهم الأبواب.

إنها فرصة لنا لمناقشة الرؤية الأرمنية لما يحصل في المشرق وبالأخص في سوريا ودور الكنيسة ومستقبل من بقيَ من أرمن ومسيحيين مع شخصية عملت في المشرق العربي وفي المغرب العربي وتعرف تفاصيل كثيرة وهامة إضافة إلى البعد الأكاديمي والديني والثقافي للنناقش معه العلاقات الأرمنية العربية المُعاصرة وهو سعادة السفير السابق في سوريا ولبنان والأردن والجزائر وليبيا ليفون سركيسيان، هو خبير جداً في الشؤون العربية.

سعادة السفير أهلاً بك في أجراس المشرق.

سيّدي ما هي المعايير التي تحكم العلاقات الأرمنية العربية منذ استقلال أرمينيا عام 1991 وحتى الآن؟

ليفون سركيسيان: مساء الخير، طاب اللقاء معكم وتسرّني جداً دعوتكم إلى هذا الحواروسأحاول الإجابة عن كل الأسئلة.

إن معايير علاقاتنا مع البلدان العربية هي المعايير ذاتها التي تحكم علاقاتنا مع باقي دول العالم ألا وهي المعايير الدولية. وبالطبع كانت علاقاتنا مع العالم العربي أيضاً مُميزة وذلك لأنّ العلاقات الأرمنية - العربية تمتد إلى العصور القديمة ولدينا تاريخ مشترك، وماعدا ذلك فلدينا أيضاً جاليات في بعض البلدان العربية منذ زمن بعيد. هناك رأي أكثر شيوعاً وهو أنّ جالياتنا في العالم العربي قد تشكّلت بعد الإبادة الجماعية حصراً، لكن الأمر ليس كذلك، بل لدينا جاليات في كل من سوريا ولبنان والعراق والأردن منذ بضع مئات من السنين، وعلى سبيل المثال جاليتنا في حلب يعود تاريخها إلى أكثر من 600-700 سنة، كذلك الأمر في لبنان والأردن وبالطبع في فلسطين وفي القدس تحديداً حيث وفقاً للأسطورة فقد تأسست بطريركيتنا هناك في القرن الـ7 وإن البطريرك أبرهام والذي كان أول بطريرك لنا كما جاء في الأسطورة قد استأذن النبي محمّد في تأسيس البطريركية، وإذا لجأنا إلى التاريخ يمكنني القول إن الخليفة عمر، ثاني الخلفاء الراشدين، قد سمح لبطريركيتنا بالبدء في عملها وذلك بموجب وثيقة 1915. أما ما جرى بعد عام 1915 فإننا بالطبع نشكر الشعب العربي جزيل الشكر على ما قدمه لنا أي بعد الإبادة الجماعية الأرمنية عام 1915 لأنّ القوافل كانت تتجه نحو المشرق باتجاهين رئيسيين نحو صحراء دير الزور ونحو مصر، وبطبيعة الحال ازداد عدد أبناء جالياتنا هناك وذلك بفضل دعم الشعب العربي لأنّ الشعب العربي اقتسم مع شعبنا ما كان يتوفر لديه من مأكل ومسكن وخيمة.

لذا معاييرنا أي علاقاتنا مع البلدان العربية طبعاً تختلف عن العلاقات مع باقي الدول.

غسان الشامي: تبدو العلاقات سعادة السفير بين الأرمن كأرمن وأرمينيا كأرمينيا مع بلدان المشرق العربي أكثر حرارة من بلدان المغرب، لماذا؟

ليفون سركيسيان: أظن أنني قد ذكرت بعض الأشياء عن تلك المسألة أثناء ردّي على السؤال الأول، وذلك لمجرّد أنه كانت لنا ومازالت حتى اليوم أيضاً جاليات كبيرة في بلدان المشرق العربي، لكن مع الأسف الشديد في سوريا على سبيل المثال تقلّصت جاليتنا قليلاً، لا ليس قليلاً بل بشكل ملموس بعد الأحداث المعروفة، ولكن لدينا جالية هناك وكنا نعرف جيداً هذا الأمر وحتى في عهد الاتحاد السوفياتي لم تكن بيننا علاقات سياسية، لكن كانت لدينا علاقات وأواصر ثقافية، وأعتقد أنّ هذا هو السبب الرئيسي. وماعدا ذلك فإن رجعنا إلى العصور القديمة نرى أنّ العلاقات الأرمنية - العربية على سبيل المثال كانت تتمثل أساساً في العلاقات مع المشرق العربي.

غسان الشامي: لفتني أنكم عملتم سعادتكم مترجماً ثم سفيراً، لماذا سألتك عن المغرب العربي، لأنك عملت في الجزائر وليبيا كممثّل لبلادك، ما هي طبيعة العلاقات؟

ليفون سركيسيان: سأحاول الإجابة، في عهد الاتحاد السوفياتي عملت في الجزائر وليبيا بصفة مترجم، وبعد ذلك تحديداً، بعد عودتي من سوريا كنت سفيراً في تونس والجزائر لفترة من الزمن، لكن المقر كان يوجد في يريفان وهي علاقات طبيعية، لكن في الوقت عينه لا أقول أنّ تلك العلاقات هي كالعلاقات مع لبنان وسوريا والأردن وربما السبب هو أنه خلال الحقبة السوفياتية أيضاً لم تكن بيننا أواصر ثقافية كثيرة أو ربما السبب هو عدم وجود جاليات لنا هناك، وماعدا ذلك فدعونا لا ننسى أنّ جمهورية أرمينيا الحالية هي دولة وليدة 25 سنة ليس إلا وربما لم نتمكّن من تطوير العلاقات خلال تلك الفترة، لكنني على يقين ولديّ أمل بأنّ علاقاتنا مع تلك البلدان ستتطوّر في المستقبل لأن لدينا سفراء معتمدين فيها، لكن للأسف هم سفراء غير مقيمين بل هم من بلدان أخرى، أي مقارهم في بلدان أخرى، لكنني أعتقد أنّ علاقاتنا مع تلك البلدان ستتطوّر أكثر فأكثر مستقبلاً.

غسان الشامي: هناك سعادة السفير حضور أرمني تاريخي في مصر وكان هذا الحضور سياسياً، العلاقات لماذا تقلّصت مع القاهرة؟ هل أسباب تقلّص العلاقات سياسي؟

ليفون سركيسيان: لا أظن أنّ علاقاتنا تقلّصت بعد الانفعالات السياسية الأخيرة على وجه الخصوص، وعندما تقولون أنتم إنه كان هناك حضور سياسي بالطبع فأنا أفهم أنّ الحديث عن فترة استقلال مصر أي بداية الاستقلال، لكن للأسف في وقت لاحق وبالأخص بعد الثورة في مصر أي بعد تأميم الاقتصاد أيضاً ضعفت جاليتنا في مصر بنحو ملموس، وهذا أمر معلوم لدى الجميع، وليس فقط لدى الجالية الأرمنية بل أعتقد أنّ هناك طوئف مسيحية أخرى تقلّصت أعدادها بعد الثورة. لكن بعد ذلك أي بعد الاستقلال كانت علاقاتنا جيّدة بما فيه الكفاية، كانت علاقات طبيعية حيث إن افتتاح أولى سفاراتنا في الخارج كان في القاهرة والآن تواصل عملها هناك أي إن لدينا علاقات سياسية جيّدة بما فيه الكفاية. أما في الفترة الأخيرة، وأعيد هنا مجدّداً، فلا أظن أنّ علاقاتنا السياسية قد تراجعت إلى حد ما عما كانت عليه سابقاً وربما في فترة حكم حركة الإخوان المسلمين، وحتى تلك الفترة لم تشهد علاقتنا تقهقراً، إلا أنّ القيادات السياسية في مصر آنذاك أصبحت تُطوّر علاقاتها مع تركيا بقدر أكبر، فقط هذا الذي حصل، ولم نلحظ تقهقراً أو تراجعاً في العلاقات السياسية مع مصر.

غسان الشامي: ولكن تراجع سعادة السفير الحضور الأرمني في مصر منذ الخمسينات، تراجع كثيراً، وكانت أرمينيا وقتها تحت الحقبة السوفياتية؟

ليفون سركيسيان: كأنني كنت قد حاولت الإجابة سابقاً.

حسناً، بعد الثورة في مصر وعندما تولّى جمال عبد الناصر مقاليد الحكم فيها بادر بعملية التأميم وأصبحت البلاد تحت حكم نظام أكثر صرامة بعض الشيء، هل تعلمون أنّ كل ثقافة تتطلّب بيئة مُعينة أو ما يُسمّى بالأرضية المُعينة، مثل تعداد السكان كذلك يجب أن تتوفر هناك أرض خصبة للأموال وعندما تقلّص عدد أبناء الجالية ومثلاً عندما غادر الأفراد الأغنياء من أبناء الجالية البلاد، بالطبع أصبحت الحياة الثقافية أقل نشاطاً.

غسان الشامي: سعادة السفير هل تخوّفتم في أرمينيا من المد الإخواني الإسلامي في مصر أثناء حكم الرئيس محمّد مرسي؟

ليفون سركيسيان: حسناً، في ما يتعلّق بالجالية الأرمنية بالطبع كانت لديّ بعض المخاوف لأنّ كل طائفة، كل جالية في كل بلد مهما كانت خلفيتها القومية ولا سيما عندما تحدث ثورة ما بالتأكيد تتكبّد بعض الخسائر وبالطبع كان لديّ تخوّف. وماعدا ذلك علينا ألا ننسى ماهية حركة الإخوان المسلمين، جميعنا نعرف ذلك، وبالتأكيد كان لديّ تخوّف ومن الناحية السياسية كانت هناك عموماً ولديّ خصوصاً بعض المخاوف وذلك لأنه كما كنت قد ذكرت أثناء ردّي على السؤال السابق أنهم كانوا يميلون في توجّهاتهم إلى تركيا بقدر أكبر وبطبيعة الحال عندما نطوّر علاقاتنا مع الدول الصديقة لا نعارض تطوير الدول الصديقة علاقاتها مع تركيا لكن بشرط واحد فقط، ألا تتطوّر تلك العلاقات على حساب العلاقات مع أرمينيا، وفعلاً كان من الملاحظ أنّ هناك شيئاً من هذا القبيل وقتذاك.

غسان الشامي: العلاقات الأرمينية مع دول شبه الجزيرة العربية، كيف تراها؟ هل تسعون إلى علاقات أكثر حرارة مع دول مجلس التعاون الخليجي؟

ليفون سركيسيان: كلا، كلا، إن علاقاتنا مع بلدان شبه الجزيرة العربية أو بلدان الخليج العربي هي علاقات مُتّزنة قائمة على المستوى نفسه وهي ليست أكثر حرارة من العلاقات مع دول المشرق العربي، هذا يُستبعد تماماً لأنني كما قلت رداً على الأسئلة السابقة كانت لنا جاليات في دول المشرق العربي تتّسم بجدية كبيرة وكانت لدينا علاقات مع تلك البلدان في ما مضى في حين لم تربطنا أواصر بهذه البلدان وقتذاك، أما الآن فهناك دولة واحدة فقط من بين دول شبه الجزيرة العربية ليست لدينا علاقات دبلوماسية معها هي المملكة العربية السعودية، لكني أعتقد أنه سيجري حل تلك المسألة في القريب العاجل.

غسان الشامي: هل تسمح لي بأن نتحدّث قليلاً عن النزاع مع أذربيجان، إلى أي مكان يمكن أن يؤدّي هذا النزاع بين أرمينيا وأذربيجان؟

ليفون سركيسيان: إنه سؤال صعب بما فيه الكفاية، لكني سأحاول الإجابة عنه، أعتقد أنه في هذا النزاع ستكون الغلبة للعدالة في نهاية المطاف عندها سيحصل شعب كاراباخ على استقلاله.

غسان الشامي: هل هناك مَن يحاول أن يُقيم جسوراً للسلام بينكم وبين أذربيجان سعادة السفير؟

ليفون سركيسيان: بالتأكيد، توجد، طبعاً توجد ومجموعة "مينسك" على سبيل المثال، لكن الأمر هنا يكمن في أنّ أذربيجان لا تريد ولا تؤيّد ذلك بأية حال من الأحوال، وهنا أريد القول خاصة في ما يتعلق بالأحداث الأخيرة إنهم قد خرقوا جميع الاتفاقات وشنوا الهجوم على كاراباخ وكان ذلك انتهاكاً فادحاً لنظام وقف إطلاق النار وهم مازالوا يفعلون الشيء ذاته حتى الآن، يفعلونه باستمرار، وعلى ما يبدو فإنّ القيادات في أذربيجان بحاجة إلى ذلك، أو ربما سعياً منها للحفاظ على سلطة النظام الحاكم فيها، والأمر الأكثر غرابة والأكثر إخافة في الوقت ذاته عطفاً على الأحداث الأخيرة هو سقوط العديد من الشبان قتلى من الطرفين، لقد بلغ عدد القتلى لدينا ما يقارب الـ100، ووفقاً لمُعطيات غير مؤكّدة فقد تكبّد الطرف الآذري خسائر بشرية أكبر بخمسة أضعاف تقريباً، الجميع يشعرون بالحزن في أرمينيا وكانوا في حال حداد تقريباً، كان حداداً وطنياً معلناً في البلاد، وعندما أشاهد عبر المحطات التلفزيونية وفي وسائل الإعلام العالمية وأرى كيف تحتفل أذربيجان بالانتصار، كيف تحتفل بانتصار معدوم وغير محقّق وقد تكبّدت خسائر بشرية كبيرة بمثل هذا الحجم لكنهم يفرحون فهذا أمر مخيف بالنسبة إليّ، وأقول كيف لإنسان القرن الحادي والعشرين أن يفرح في حال وجود مثل هذا العدد الكبير من القتلى؟ الأمر الذي لا يمكن استيعابه في إطار أي مفهوم، ذلك أمر رهيب، وهذا يعني أنهم في ذلك البلد لا يقيّمون ما حصل بصفاء الذهن، بل توجد قِيَم أخرى مُتّبعة هناك.

غسان الشامي: هناك الآن سعادة السفير أزمة، محنة تضرب المشرق، أرمينيا كدولة كيف تنظر إلى ما يسمّونه بين قوسين (الربيع العربي)؟ وأين تقفون مما يحصل في بلدان المشرق وما حصل قبلها في مصر وليبيا؟

ليفون سركيسيان: يبدو أنّ العالم في تغيّر دائم وما يُسمّى "بالربيع العربي" بين قوسين كما قلتم أنتم قبل قليل ليس نوعاً من التغيّرات، نحن لا نفهم هذا التغيّر، أو على نحو أدق لا نريد فهمه وكيف يجوز الإقدام على تغييرات بهذه الطريقة، مثلاً في مصر لم تجر الأمور بمثل تلك الوحشية والحمد لله، وفي تونس أيضاً على ما يبدو جرت الأمور بشكل طبيعي، ونحن نرى أنه يجب أن تكون الغلبة لإرادة الشعب وإذا كان هذا ما يريده الشعب ويرغب فيه وإذا كان الشعب يريد أن ينقاد هكذا فليس هناك أي إشكال، لكن ليس كالذي يجري في سوريا حيث إنّ ما يحدث فيها ليس إلا سفكاً للدماء وتجري فيها أنهار الدماء، وأنا شخصياً كنت قد عملت في سوريا وأعرفها جيداً والآن يحاول بعض القوى السياسية أو بعض الدول تقديم ما يجري في سوريا على أنها خطوات تُتّخذ من قِبَل المعارضة السورية لكن دعوني أقول: أنا أعرف سوريا جيداً، إذاً لا يمكن أن يجري هناك الحديث عن معارضة سياسية عند هؤلاء المقاتلين، أنا أعرف جيداً الشعب السوري وكنت قد عملت في سوريا أكثر من عشر سنوات، ذات يوم تحطّمت سيارتي في البريّة وجاء السوريون ليلاً وساعدوني من دون أي مقابل وأخذوا سيارتي إلى التصليح واصطحبوني إلى الفندق. والآن عندما أرى ما يجري هناك، أقول في نفسي لا أصدّق أنهم سوريون إما أنهم ليسوا سورييين أو إن السوريين قد تغيّروا إلى هذا الحد بشكل رهيب في غضون السنوات الخمس المنصرمة وهذا أمر لا يُصدّق كثيراً.

غسان الشامي: سعادة السفير أتيت على ذكر سوريا، هناك في سوريا دمار، قتل، هناك إرهاب، هذه الأزمة في سوريا كيف تقرأونها؟ هل تجدون حلاً لها؟ كيف تتوقّعون نهايتها؟

ليفون سركيسيان: التكهّن هو أمر صعب جداً، لأنّ التكهّنات السياسية هي أصعب ما يمكن القيام به وهو عمل غير مشكور، ذلك هو بالذات ومحطتنا الأخيرة، لكنني أريد وهذه أمنيتي ألا يكون هناك تدخّل خارجي وأظن أن الشعب السوري سيجد حلاً للمشكلة بنفسه. لكن للأسف الشديد هناك تدخّل خارجي بما فيه الكفاية.

غسان الشامي: أنت تعرف الشعب السوري جيّداً كما قلت وعشت عشر سنوات في سوريا، كيف ترى مستقبل هذا الشعب ما دمت تعرفه إلى هذه الدرجة؟

ليفون سركيسيان: أنا أعتقد ولا أستطيع تحديد مواعيد هنا أنه سيتم التوصل إلى ذلك في نهاية المطاف وعندها سيدرك الشعب وستدرك القوى السياسية أنه لا يجوز سفك المزيد من الدماء وإلا فإن الوضع سيستمر على هذا المنوال بلا نهاية، لذا عليهم الكفّ عن سفك الدماء ومحاولة حل تلك المسألة من خلال الحوار.

لقد طرحتم سؤالاً مُثيراً جداً، إذ تذكّرت زيارة وزيرنا إلى سوريا ولبنان في العام الماضي وقد التقينا هناك برئيس برلمانكم نبيه بري لكني لا أتذكّر بالضّبط هل كان ذلك خلال زيارة الوزير أم خلال زيارة رئيسنا، قال عندها نبيه بري كأنّ موجة من الغبار غطت العالم العربي كله والناس أصبحوا لا يبصرون بوضوح ولا يفهمون حقيقة ما يجري حولهم، حيث أعرب عن أمله بأن يزول الغبار وتتّضح الرؤية، وعندها سيتطلّع الناس بعضهم إلى وجوه بعض وسيدركون أخطاءهم.

غسان الشامي: سعادة السفير أتسمح لنا أن نذهب إلى فاصل، أعزائي فاصل ونعود لمتابعة هذا الحوار مع سعادة السفير المتجوّل لأرمينيا، على الغالب في الدول العربية، ليفون سركيسيان انتظرونا إذا سمحتم.

المحور الثاني

غسان الشامي: تحية لكم من العاصمة الأرمنية يريفان، كوننا هنا في أجراس المشرق نذهب وإياكم إلى تقرير عن الهجرة والنزوح السوري إلى أرمينيا بعد الأزمة ثم نعاود الحوار بعدها مع سعادة السفير ليفون سركيسيان.

تقرير:

كان عدد الأرمن في سوريا قبل اندلاع الحرب عام 2011 نحو 100 ألف شخص أغلبهم في مدينة حلب، وبعد استهدافهم فيها وفي كسب واليعقوبية وعين العرب والتضييق عليهم في القامشلي وجدوا أن الملاذ الآمن هو في بلد أجدادهم، وقد وصل حتى بداية العام الحالي نحو 20 ألف سوري أرمني إلى أرمينيا، أي قرابة ثلث الأرمن الذين غادروا سوريا وتوزّعوا على لبنان وفرنسا والولايات المتحدة وغيرها.

اتّخذت الحكومة الأرمنية تدابير سريعة لتسهيل وصول المهاجرين واستيعابهم عبر حصولهم على تأشيرات دخول وإقامة وتجنيس من دون رسوم، وأجرت تعديلات تشريعية تُسهّل إقامتهم وشكّلت لجنة وزارية تترأسها وزارة الشتات لدراسة أوضاعهم وحل مشاكلهم الاجتماعية والتعليمية والصحية والاقتصادية والمعيشية حتى ولتأمين اندماجهم وتكيّفهم، وبات القانون يُجيز للسوري الأرمني الاستفادة من التعويضات والضمان الاجتماعي.

تتعاون الحكومة الأرمنية مع المنظمات والجمعيات الأهلية والخيرية في برامج مساعدات إنسانية واجتماعية للناجين من المحنة مثل الجمعية الخيرية العمومية الأرمنية وجمعيات أخرى كنَسية ومدنية بحيث تتلقّى العائلات السورية المحتاجة مساعدات مالية وهناك برامج ثقافية للجمعية مع الحكومة الأرمنية ومؤسسة كالوس كالبانيان تقدّم فيها المنح الجامعية لـ 400 طالب سنوياً.

فاسكين يعقوبيان - رئيس الجمعية العمومية الأرمنية - يريفان: عندما أنا أربط الطالب بأرمينيا فمن الإجباري أيضاً عائلة الطالب ستبقى حول الطالب مع ابنهم أو ابنتهم، وفعلاً هؤلاء الطلاب لم يعودوا يحاولون أن يذهبوا إلى أوروبا حتى يتابعوا دراستهم هنا. كلهم يتأملون أنه يوماً ما عندما تعود الأحوال إلى طبيعتها في سوريا سيعودون إلى بلدهم.

استقطبت العاصمة يريفان القسم الأكبر من السوريين المهجّرين إلى أرمينيا وتسعى بلديتها إلى تأمين مساكن لهم عبر مشروع سكني جديد وتوفير مدارس تدرّس المنهاج الرسمي السوري.

غسان الشامي: أهلاً بكم، سعادتكم كنتم قنصلاً في حلب، المدينة التي ضمت أكبر تجمع أرمني مهني وحِرَفي وثقافي فاعل في المشرق، لم يبق منهم إلا القليل يا سيّدي، هل ما حصل هو تهجير ممنهج للأرمن في تلك المدينة برأيك؟

ليفون سركيسيان: لا طبعاً، لم يكن ذلك تهجيراً ممنهجاً بحق الأرمن، وما عدا ذلك أودّ إجراء تصحيح صغير هنا، بالتأكيد بقي هناك قليل من الأرمن، لكنهم ليسوا قلّة قليلة، وفي الوقت الراهن يُقدّر عدد الأرمن الذين بقوا في حلب بما يُقارب 15 أو 20 ألف شخص.

غسان الشامي: الآن 10 آلاف؟

ليفون سركيسيان: أجل، هذا كحد أدنى.

غسان الشامي: لأنّ المعلومات تقول أنّ أغلب الأرمن والمسيحيين قد غادروا حلب؟

ليفون سركيسيان: أجل، أجل، أنا أيضاً أقول إنه قبل اندلاع تلك الأحداث لم يبلغ عدد الأرمن في حلب 10 أو 20 ألف شخص، وإنما 50 أو 60 ألف شخص على الأقل، لكن جلّهم خرجوا من هناك مع الأسف الشديد، لكني لا أعتقد وأكرّر هنا مُجدّداً أنّ ذلك لم يكن تهجيراً ممنهجاً لأغراض سياسية، بل حصل ذلك جرّاء هذه الأحداث المأساوية، وبطبيعة الحال كان يجب أن تحصل الهجرة، لأننا نعرف جيّداً مَن هم الذين يقومون بتلك العمليات، إنهم متطرّفون إسلاميون ومن الطبيعي أن يشعر المسيحيون بالخوف ومن الطبيعي أن يشعروا بالخطر وخرجوا من حلب. علاوة على ذلك الدمار والظروف الاجتماعية الرهيبة أي غياب الماء والكهرباء وغيرهما، وطبعاً كان يجب أن يغادروا المكان.

غسان الشامي: سعادة السفير كل الأنباء التي يأتي بها الصحافيون ووكالات الأنباء من حلب أن مثلاً حي الأرمن، الميدان في حلب، قد تعرّض كثيراً لتلك القنابل وجرار الغاز تتساقط، أليس هذا نوع من استهداف هذه الناس المسالمة؟

ليفون سركيسيان: كلا، أعيد هنا مرّة أخرى، أنا مُطّلع طبعاً ولقد كنت في حي الميدان مرات عدّة، لكني أكرّر هذا مُجدداً، لا أعتقد أنّ ما حصل كان يستهدف الأرمن حصراً أو أنه ضدّ المسيحيين، بل أعيد هنا مُجدداً الأمر الأهم هو أننا نعرف من هم المنفّذون ونعرف أيضاً ما هي الظروف الناشئة، لذلك يضطر الناس إلى مغادرة المكان، وفي المستقبل إذا عاد ولو جزء من هؤلاء الناس إلى ديارهم الخسارة ستكون كبيرة لأنّ الثقافة المسيحية والثقافة الأرمنية هما جزء من الأجواء الحلبية وجزء من النكهة الثقافية لحلب، لقد خسرت حلب كثيراً مما كان لديها.

أنا أتذكّر جيداً عندما كنت قنصلاً عاماً لدى حلب كان المسؤولون الكبار يقولون دائماً إن حلب تحتل دائماً المركز الأول في سوريا من حيث عدد المنشآت الثقافية وذلك بفضل الطائفة الأرمنية والآن أنقل كلماتهم: "وذلك بفضل إخواننا الأرمن" وبالطبع لن تكون أجواء كهذه في ما بعد، إذ إن حلب هي التي خسرت، إذ إن سوريا هي التي خسرت، وحتى من يُسمّون أنفسهم المعارضة هم أيضاً خسروا، خسروا مكوّناً ثقافياً كاملاً.

غسان الشامي: برأيك ما هو دور تركيا في ما حصل لحلب؟

ليفون سركيسيان: إن دور تركيا واضح، وجميعنا نعلم أنها تتدخّل في الأمور بنشاط، ومن تركيا تأتي كل تلك الأسلحة، ومن تركيا يأتي هؤلاء المرتزقة، أو ماذا يُسمّون أنفسهم لست أدري، لكنها عصابات غوغائية تأتي من تركيا وبواسطتها وبإذنها، وحتى أنهم اجتازوا حدود تركيا ودخلوا كسب، هناك شيء مُثير للاهتمام: عندما كنت أعمل في دمشق وبالأخص بعد وفاة المغفور له حافظ الأسد كان المسؤولون السوريون الكبار يكرّرون دائماً، وللمناسبة لم يكن كلامهم مُجرّد سؤال، وإنما كانوا يحاولون إعطاء توجيهات خلال الحديث، وكانوا يقولون إنه يجب فتح صفحة جديدة في العلاقات الأرمنية - التركية ويقولون لي: "انظروا ها نحن فتحنا صفحة جديدة"، أما أنا فكنت أعارض دائماً وأقول: "نحن لا نستطيع فتح صفحة جديدة لأنّ كل صفحة جديدة يجب أن تكون لها تتمة في الصفحة التي تليها لاحقاً"، وكنت أقول: "نحن مستعدّون لتطبيع علاقاتنا مع تركيا"، لكن ذلك يجب أن يكون طبقاً للمعايير المُتّبعة دولياً ومن دون أية شروط وماعدا ذلك فإننا لا نستطيع نسيان تاريخنا، أتعلمون أنّ تركيا كانت وقتها تطالب حتى بحذف "المجزرة الكبرى" من نص إعلان استقلالنا، الأمر الذي لا يستوعبه عقل كل إنسان واعٍ، وهذا كنت أقوله للمسؤولين السوريين، وكنت أقول أيضاً إنهم فتحوا صفحة جديدة من دون أن يكملوا السابقة، وهل رأيتم ما الذي حصل؟ والآن عندما نلتقي يقولون لي دائماً "سعادة السفير كنتم على صواب، رئيسكم كان على صواب، يجب عدم نسيان التاريخ"، هم فتحوا كل الحدود مباشرة، عندما كان هناك نظام تأشيرات دخول صارم جداً بين تركيا وسوريا وقتذاك هم فتحوا الحدود بشكل فوري حيث إن الصناعة في سوريا قد عانت من ذلك بشكل ملموس ولا أستطيع القول بالضبط لكن الأحداث قد بيّنت الآن أنّ هناك الكثير من العناصر المناهضين لسوريا قد تسلّلوا إلى البلاد خلال تلك الفترة، لذا أعتقد أنّ دوراً تركياً يتجلّى بوضوح.

غسان الشامي: جاء أكثر أرمن سوريا إلى أرمينيا، هل سيتم استيعابهم نهائياً في أرمينيا أم هو استيعاب مؤقت برأيك؟

ليفون سركيسيان: أجل جاء كثير من السوريين الأرمن، فمنهم مَن جاء إلى أرمينيا ثم سافر إلى أوروبا ومنهم مَن بقي هنا، ومنهم مَن تم استيعابهم بشكل جيّد جداً وبالطبع منهم مَن يعيش في ظروف صعبة رغم أن دولتنا قدر المستطاع وليس فقط الدولة بل والمجتمع أيضاً وليس فقط من أرمينيا بل ومن حول العالم بما فيه شتاتنا أيضاً، يحاولون فعل شيء ما بهذا الاتّجاه قدر المستطاع وأعتقد أنه في حال ضبط الأوضاع في سوريا ونحن لا نعلم متى يحصل ذلك، قد يعود جزء منهم إلى سوريا بحكم العمل أو غيره، لكن الجزء الأكبر منهم سيبقى في أرمينيا، وأنا متأكّد من هذا الشيء.

غسان الشامي: الآن يقولون لدينا في المشرق حركات تكفير، حركات إرهاب هي تقوم بكل عمليات الذبح التي تسمعون عنها أو ترونها، هل هناك تخوّف من هكذا حركات على أرمينيا؟

ليفون سركيسيان: نحن أيضاً مُعرّضون للخطر إلى حد ما لأنّ هؤلاء الإرهابيين وهؤلاء المتوحّشين كما سبق أن وصفتموهم أنتم ولا يمكن وصفهم إلا بتلك الكلمات: وكيف لنا أن نصف شخصاً يقوم بذبح طفل عمره ثلاث سنوات أو يقوم بذبح شخص له خلفيّة دينية أخرى، إذ لا يمكننا وصفهم إلا بتلك الكلمات، بالطبع سيكون ذلك صعباً جداً لأنّ العالم المسيحي في حال خوف، لأنني لا أستطيع أن أفهم عدم وجود دين لهؤلاء الأشخاص وأظن أنهم يتكلّمون باسم الإسلام لكنهم لا يفهمون ماهية الإسلام لأنّ الدين يجب أن يدعو إلى التسامح أولاً، أما هم فيسودهم عدم التسامح والتطرّف والمسيحيون يشكّلون أقليّة في الشرق حيث إنهم حتى لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم رغم أن الدولة تحاول فعل ذلك لكنها أيضاً ليس بوسعها تنفيذ ذلك على أكمل وجه، لذلك فإنّ مستقبل المسيحيين في المشرق فعلاً معرّض للخطر، ولكن كما ذكرت سابقاً عطفاً على الطائفة الأرمنية وعلى الذي حصل في حلب أو الذي سيحصل في ما بعد وأقول الشيء ذاته عن مسيحيي المشرق أيضاً: المشرق يفتقد الكثير مما لديه وإذا افتقد وهو فعلاً قد افتقد جزءاً مما كان لديه سيدرك بعد مرور وقت مدى خسارته، وليس المشرق فحسب بل والعالم المسيحي أيضاً، علينا ألا ننسى أنّ المشرق هو مهد المسيحية، وأعني أنّ المسيحية تفتقد مهدها، لا المسيحيين فقط، بل وكل العالم يجب أن يُفكّر في ذلك، لأن المسيحية تشكّل أحد أسُس الثقافة العالمية وهكذا يقومون بتجريد الثقافة من مهدها، لذا يجب التفكير في ذلك، لكننا قليلاً ما نفكّر في ذلك ولست أدري لماذا؟ والغريب هو أنني غالباً ما أسمع عبر وسائل الإعلام العالمية، عن تفجير آثار قديمة ما قبل المسيحية وما شابه ويتحدّثون عنه بكثرة ويتم التعبير عن الأسف وإلخ.. لكن لا يتحدّث أحد عما يجري من هدم وتدمير للآثار الثقافية المسيحية، لِمَ؟ لا أستطيع فهم ذلك، وفي دير الزور على سبيل المثال جرى تفجير خمس كنائس مسيحية، لا أحد يتحدّث عن ذلك، وجرى تفجير كنيسة الشهداء في دير الزور، التي شُيّدت تخليداً لذكرى ضحايا الإبادة الجماعية الأرمنية وهل تعلمون متى جرى تفجيرها؟ جرى تفجيرها في يوم استقلال أرمينيا ولا أحد يريد التحدّث عن ذلك.

غسان الشامي: سعادة السفير أنتم هنا هل تخشون من حركات تكفيرية وإرهابية؟

ليفون سركيسيان: الخطر موجود لدينا بقدر ما هو موجود في العالم برمّته ونحن نرى كيف انتشر حتى وصل إلى أوروبا أي إن هذا التخوّف موجود في أرمينيا بقدر ما هو موجود في العالم كله.

غسان الشامي: الحضور الأرمني الواسع الآن بات في لبنان، في دول المشرق، ما العلاقة السياسية بين يريفان وبيروت، بين يريفان وأرمن لبنان؟

ليفون سركيسيان: أجل، جيّد جداً، لدينا علاقات سياسية رفيعة المستوى، هي علاقات على مستوى رفيع، لدينا سفارة هناك، وأيضاً توجد سفارة لبنانية هنا، لقد جرت زيارات كثيرة وكما ذكرت في حديثي قبل قليل فإن زيارة وزير خارجيتنا قد جرت في العام الماضي وبعد أيام أي في بداية شهر تموز من هذا العام يجري الإعداد لزيارة رئيس وزرائنا إلى لبنان، نحن على تواصل دائم مع الأرمن والجالية الأرمنية كذلك مع الأحزاب التقليدية الأرمنية، لدينا علاقات جيّدة وفريدة من نوعها، ونحن مثلاً راضون جداً عنها، وأعتقد أنهم كذلك في لبنان أيضاً.

غسان الشامي: في لبنان منذ سنتين بلد بلا رئيس والرئيس فيه مسيحي، كيف تنظرون لدور الأرمن في لبنان مستقبلاً؟

ليفون سركيسيان: بحسب رأيي فإن سبب غياب الرئيس هناك غير مشروط بضرورة شغل شخص مسيحي لذلك المنصب، وإنما بسبب التطوّرات السياسية في المنطقة بقيَ لبنان بلا رئيس، أما دور الأرمن هناك فهو بمقدار ما يكون دور كل طائفة في لبنان.

غسان الشامي: هل للأرمن دور في جمع اللبنانيين على دفع الاستحقاقات الدستورية، الدفع اتّجاه الرئاسة؟

ليفون سركيسيان: أعتقد أنه قد يكون للأرمن دور ما، لكني لا أريد تمييز دور الأرمن أو التشديد عليه، لأنّ الأرمن هم مواطنون لبنانيون ولهم الدور ذاته كأبناء باقي الطوائف.

غسان الشامي: سعادتك مُختصّ بتاريخ الكنيسة الأرمنية، هي فرصة، ما دمنا نتكلّم عن لبنان وأنت مُختصّ بتاريخ هذه الكنيسة الكبير، إن كان في اتشميادزين أو إن كان في كيليكيا، كيف يمكن جمع كرسي اتشميادزين مع كرسي بيت كليكيا في انطلياس في لبنان؟

ليفون سركيسيان: أجل، لقد فهمت سؤالكم منذ البداية، أتعلمون أن هناك كثيرين يتحدّثون عن ذلك على نحو اعتيادي، لكن غالباً ما يتحدّث عن هذا الموضوع أشخاص غير مُلمّين كثيراً بتاريخ كنيستنا، فكنيستنا موحّدة ومتضامنة، ولقد ذكرتم أنتم أن لدينا كرسيين رسوليين اثنين، لكن في حقيقة الأمر لدينا أربعة كراسٍ رسولية، هو الكرسي الأم في اتشميادزين المقدسة وكاثوليكوسية بيت كيليكيا الكبير وبطريركية القدس وبطريركية القسطنطينية وهذا لم يكن بإرادتنا بل بسبب بعض المواقف والظروف السياسية، وهنا لا بدّ من القول إنه كان لدينا كاثوليكوسيات عدّة عبر التاريخ، كان لدينا مقرّ للكاثوليكوس في آختامار، كذلك في كاندزاسار، وكانت لنا كثوليكوسية حتى في جسر الشغور في سوريا وهلمّ جراً، وذلك لأنّ مركز السلطة السياسية كان يتغير في أرمينيا وقتذاك، مثلاً كيف أصبح الكرسي الأم في كيليكيا؟ هذا وكان العرب يحكمون في سهل آرارات آنذاك، في حين حصّل البكرادونيون استقلالاً سياسياً في إقليم شيراك وبالطبع انتقل الكرسي إلى شيراك وبعد سقوط المملكة البكرادونية انتقل الكرسي إلى كيليكيا، وفي عام 1441 م وكانت مملكة كيليكيا أيضاً قد سقطت قبل ذلك بنحو خمسين عاماً، والظروف السياسية كانت غير ملائمة هناك، ولا سيما بعد ظهور السلاجقة وإلخ... وتم اتّخاذ قرار بنقل الكرسي إلى مقرّه السابق أي اتشميادزين، لكن الكاثوليكوس كان رجلاً طاعناً في السن وقال، أنا ليس لدي مانع لذهابكم إلى اتشميادزين وانتخبوا كاثوليكوساً هناك، وهكذا لم يأت هو إلى اتشميادزين حيث تم انتخاب كاثوليكوس جديد هناك، أما هو فبقيَ في كيليكيا وتوفي هناك وتم تنصيب كاثوليكوس جديد آخر خلفاً له، وهكذا انتقل الكرسي الأم إلى اتشميادزين في حين تم تأسيس كاثوليكوسية في سيسية في كيليكيا ، وبعد ذلك لم تكن هناك أية مشاكل بين الكرسيين ووفديهما، فقد ظهرت هناك بعض المشاكل ذات الخلفيات السياسية في الخمسينات من القرن الماضي ولربما كانت هناك بعض القوى وهي ليست أرمنية طبعاً، التي لم يكن في صالحها بقاء الكرسي الأم مقراً رئيسياً للكنيسة.

غسان الشامي: دائماً سياسية في الكنيسة؟

ليفون سركيسيان: أجل، أجل إنه كذلك. أما الآن فلا توجد أية مشاكل بين كرسيَيْنا على الإطلاق، وأقول مجدّداً لدينا أربعة كراسٍ رسولية ولا داع لذلك، فهذا تاريخنا ونحن لا نريد ذلك ولا نستعدّ لتقويض دعائم تاريخنا.

غسان الشامي: سعادة السفير للأرمن ملامح مُضيئة كثيراً في المشرق منذ فجر التاريخ، الأرمن ما الدور الذي يلعبونه حالياً، حضرتك كخبير في واقع بلاد المشرق والعرب، ما هو مستقبل الأرمن هناك؟

ليفون سركيسيان: أقول لكم بصراحة: إني أعتقد وأرى وأنا متأكّد من أن الأرمن سيواصلون النشاط ذاته ما داموا مُقيمين في المشرق العربي وسيبقون المواطنين الشرفاء أنفسهم المُخلصين لبلدانهم وسيبقون مُحبّين للعمل والثقافة وسيستمرون في صنع الثقافة وتكوينها أي بالتعاون مع كل الذين يمثّلون قوى سليمة ومع الذين يهتمّون بمستقبل بلدانهم.

غسان الشامي: أعزائي من علامات التمسّك بالهوية أنك لا تجد أرمنياً ولو في أقصى بلاد الاغتراب لا يُعلّم أبناءه لغتهم الأم، ومن ثم ثقافتهم، هذا هو الانتماء، شكراً لسعادة السفير البروفسير ليفون سركيسيان على ثراء اللقاء معه، شكراً للزملاء في أجراس المشرق والميادين، شكراً لكم على المتابعة، قبل أن أقول لكم سلام عليكم وسلام لكم سنترككم حتى نُغني هذا الحوار ونُعرّفكم بما يُقدّمه أو قدّمه الأرمن مع تقرير عن أرشمندريت، كوميداس أرشمندريت الذي حفظ جزءاً من التراث والموسيقى العربية وتابعوه معنا وسلام عليكم وسلام لكم من يريفان في أرمينيا.

تقرير:

قرّرت الحكومة الأرمنية في تموز عام 2014 إنشاء متحف معهد كوميداس في يريفان للحفاظ على التراث الإبداعي للكاهن والموسيقار الكبير سوغومون سوغومنيان المولود عام 1869 والذي حمل اسم كوميداس وبات رمزاً لثقافة شعب، وحاملاً لإرث عبابته وناشراً لموسيقاه وأغانيه التقليدية والوطنية ولتراتيله الدينية وقدّاسه في أوروبا، ومُكتشفاً لمقام ونظريات الأصوات الأرمنية ومانحاً إياها هويّتها الخاصة.

شيّد المبنى على أنقاض قصر للثقافة صمّمه عام 1949 المهندس المعماري كوريون هاكوبيان، ونفّذته اللجنة الأرمنية الوطنية التابعة للمجلس الدولي للمتاحف قرب حديقة وانفيون كوميداس، وافتُتح عام 2015.

يهتم المتحف المعهد بتطوير البحث العلمي بشأن أعمال كوميداس لاستكشاف ونشر التراث الثقافي والفني الخاص به، ويضم قاعات المعارض الدائمة والمؤقتة ومركزاً للبحوث وقاعة للحفلات الموسيقية ومكتبة ودار نشر، ويتكوّن المعرض الدائم فيه من ثماني قاعات تعرض وثائق أصلية وأغراضاً خاصة بكوميداس وأعمالاً فنية تعكس حياته وعمله، كما يضمّ صوراً ودراسات بحثية وكتباً ومتعلّقات شخصية ومُلصقات من حفلاته ومُحاضرات ومنشورات أصلية، وتنظّم المعارض الدولية والبرامج التعليمية والحفلات الموسيقية فيها.

نجى كوميداس من الإبادة عام 1915 بفضل أصدقائه الأتراك، لكن ما رآه أصابه بمقتل نفسي فنقل عام 1919 إلى باريس حيث توفي عام 1935 وبعد عام نقلت رفاته إلى يريفان.

من النادر إيجاد فنان أرمني لم يتأثّر بكوميداس.