لماذا اختفى انتاج الفكر الاسلامي التنويري؟

رغم ما ألم ويلم بالعالم العربي والإسلامي من إنهيارات كبرى في المسألة الثقافية أساسا حيث أستبدلت الثقافة العقلية والعقلانية بالثقافة النقلية والصيحات التنويرية لم يكتب لها الإستمرارية ورجحت الكفة لصالح الثقافة النقلية التي أنتجت كتبا لا حصر لها في عذاب القبر, وعذاب النار, وطرق ووسائل التعذيب الرباني, وفلماذا إختفى الفكر الإسلامي التنويري في وقت عصيب كالذي يعرفه راهننا العربي والإسلامي ومن يتحمل مسؤولية تراجع الفكر التنويري.

نص الحلقة

يحيى أبو زكريا: حيّاكم الله وبيّاكم وجعل الجنة مثواكم.

يقول العلاّمة الراغب الأصفهاني في كتابه مُفردات ألفاظ القرآن "النور هو الضوء المُنتشر الذي يعين على الإبصار، وذلك دربان"، يقول، "دنيويٌ وأخروي"، والتنوير في اللغة العربية مصدر الفعل المُضاعَف نوّر، ومنه نوّر الله قلبه، عقله، طريقه، دربه، خطّته، دولته، رجاله، وزراءه، وما إلى ذلك.

ورغم ما ألمّ ويلم بالعالم العربي والإسلامي من انهيارات كبرى في المسألة الثقافية أساساً، حيث استُبدِلت الثقافة العقلية والعقلانية بالثقافة النقلية والخاطئة للأسف الشديد، إلا أنّ كلّ ذلك لم ينعكس قوة على إنتاج الفِكر التنويري الذي ظلّ متواضعاً منذ ثلاثة عقود وإلى يومنا هذا.

فأوروبا التي خضعت للظلامية لقرون جابهت كلّ ذلك بنهضةٍ عقليةٍ قويةٍ أفضت إلى إحداث نقلةٍ حضاريةٍ كبيرة في المسار الغربيّ، والجامدون على النصّ وأصحاب النزعة السلفيّة في العالم العربي يعتبرون التنوير بأنّه مضادٌ للدين والإسلام، وأنّ التجديد بدعةٌ، ولهذا كُفّر كلّ داعيةٍ إلى التجديد والاجتهاد الفكري وحتى الديني.

وللإشارة، هذا شبيهٌ بديوان الزنادقة الذي أسّسه الخليفة العباسي الثالث أبو عبد الله محمّد ابن عبد الله المنصور المهدي لمُلاحقة مخالفيه تحت عنوان الزندقة.

ويُشار أيضاً إلى أنّ التنوير والاجتهاد العقلي والعقلانية ليست دخيلةً على مسارنا الثقافيّ، وإنما هي جزءٌ من موروثنا الحضاريّ والعقليّ، وأبلَغُ دليلٍ على ذلك إخوان الصفاء وخلان الوفاء الذين كانوا حالة نقديّةً داخل الدائرة الإسلامية.

غير أنّ هذا المسار كان على الدوام يُجهَز عليه من قِبَل مُحنّطي العقول والتجديد، والتنوير هو عدوّ الشوفينية والأحادية والمذهبية والطائفية والقبلية والجهوية. وهو وحده الكفيل بجعل العقل العربي والإسلامي منفتحاً على الداخل الجغرافي والخارج الجيوسياسي والجغرافي على صعيد المكوّنات العقدية والأيديولوجية.

وقد أدّى موت التنوير في العالم العربي إلى بروز التكفير والتقتيل والسيف كعنوانٍ مدمّرٍ لإنجازات الماضي وما كنّا سننجزه راهناً ومستقبلاً، ويُسجَّل للباحث الهندي سيّد خان كأول رجلٍ في الهند الحديثة ينادي بضرورة وجود تفسيرٍ جديدٍ للإسلام، وهو الذي عاش بين 1817 إلى 1898.

وتوالت بعده الصيحات في مصر والجزائر وبعض الجغرافيا الإسلامية، غير أنّ هذه الصيحات التنويريّة لم يُكتَب لها الاستمرارية، ورجّحت الكفّة لصالح الثقافة النقلية التي أنتجت كتباً لا حصر لها في عذاب القبر وعذاب النار وطرق ووسائل التعذيب الربّاني وفضائل السواك والجلباب، وما إلى ذلك.

فلماذا اختفى الفِكر الإسلاميّ التنويريّ في وقتٍ عصيبٍ كالذي يعرفه راهننا العربي والإسلامي؟ ومَن يتحمّل مسؤولية تراجع الفكر التنويري؟ لماذا اختفى إنتاج الفكر الإسلامي التنويري ونحن نمرّ بأعقد وأحرَج مرحلةٍ في التاريخ العربيّ والإسلامي؟

لماذا اختفى إنتاج الفكر الإسلامي التنويري عنوان برنامج أ ل م، ويشاركنا في النقاش من مصر الحبيبة الأستاذ أحمد ماهر المُستشار القانوني المصري والمحامي والمُفكّر الإسلامي، ومن تونس الحبيبة الدكتور عبد اللطيف الحناشي أستاذ التاريخ المُعاصِر والراهن والباحث والأكاديمي  المعروف. مرحباً بكمُ جميعاً.

أستاذ أحمد، لعلّه سؤالٌ مشروعٌ أن أتساءل عن ماهية الفكر التنويري اليوم في العالم العربي والإسلامي. لا شكّ أنّ الذي يدخل المكتبات، الذي يزور مَعارِض الكتاب العربي هنا وهناك، لا يكاد يعثر على كتابٍ يستفزّ العقل العربي ويستفزّ العقل المُسلم. لماذا اختفى التنوير في عصر الظلامية اليوم؟

 

أحمد ماهر: بسم الله الرحمن الرحيم. أرحّب بك وبضيوفك أخي الكريم دكتور يحيى، ونبدأ باسم الله، فنقول أنّ سبب عدم انتشار فقه التنوير يكمن في عدّة عناصر، أولها هو اعتياد العرب على الخنوع وعدم انشغالهم، ولا أنهم يطربون للتجديد في أي شيء، لا في النُظم السياسية ولا في النُظم الاجتماعية، نحن قوم static كما يُقال جماعة المكانيك والهندسة، نحن جامدون، نحن ناس ولذلك تجد ملوكنا حتى الموت، أمراؤنا حتى الموت، رؤساؤنا حتى الموت، لا أحد يتغيّر، وهذا الأمر أفرز تجمّداً للعقل وأفرز عدم حرية للفكر. أيضاً الناشرون في الوطن العربي لا يبحثون عن الثقافة، الناشرون في الوطن العربي يبحثون عن الربح، وبالتالي فالرواج كلّ الرواج للنقل وللقديم وما كان عليه القديم. أيضاً أمر آخر، الثقافة والقراءة، ديننا نزل أول ما نزل بإقرأ ونحن أفضل قوم في العالم لا نقرأ، فبالتالي لا نطرب للقراءة ولا لمن يقرأون ولا للمفكّرين ولا للباحثين، ونتيجة لعدم تجديدنا ونتيجة لعدم طربنا للتجديد، فنحن نرجم المُجدّدين ونكفّرهم بل ونسجنهم كالمسجون عندنا حالياً إسلام بحيري، كل جريمته أنه أراد التجديد، فهذا التجديد ملعونٌ ملعون في أرض الجمود، أرض الجمود العقلي والجمود الفكري والجمود الإدراكي. لذلك لا تجد كتاباً لأنّ الناشرين يخافون على مستقبلهم المالي والاقتصادي، لا تجد مفكّرين نظراً للجبن السياسي، لأنه أيضاً التنوير يحتاج شجاعة، أن تقاوم مجتمعاً بأسره هذا يحتاج شجاعة، التنوير يحتاج قراءة غير موجودة أيضاً. كل هذه العناصر كانت سبباً وغيرها طبعاً، كانت سبباً رئيسياً في جمود فقه التنوير.

 

يحيى أبو زكريا: أستاذ أحمد، دعني إذا سمحت أكتفي بهذا القدر من باب التباري الفكري بينك وبين الدكتور عبد اللطيف.

دكتور عبد اللطيف، سمعت ما قاله الأستاذ الفاضل أحمد ماهر من أنّ عدم شجاعة الناشرين، انعدام البيئة التجديدية في العالم العربي والإسلامي، وركون الناس إلى الماضي، نحن أمّة مسكونة في الماضي ولا نسكن في الراهن والمستقبل. لكن ألا يشير إلى انعدام التنوير وجود كُساحٍ عقلي في العالم العربي، وجود شلل ثقافي، انعدام العقل الذي يستطيع أن يقدّم لنا طروحات في ضوء الواقع أيضاً وليس في ضوء الماضي والتاريخ؟ ما الذي تقوله في ما ذكره الأستاذ أحمد وفي سؤالي الأخير أيضاً؟

 

عبد اللطيف الحناشي: شكراً ومرحباً مجدّداً بالأستاذ أحمد. في الواقع، من الضروري ان ننصّب الأشياء، العرب ككل الأمم وكذلك الوطن العربي ككل هو منتج، وهذا الإنتاج صحيح أنه محدود خاصة بما يتعلّق بالتنوير، ولكن رغم ذلك، هناك عناصر تنويرية مهمة جداً في العالم العربي وحتى في الحضارة العربية والإسلامية أقصد في عصر الدولة الأموية، في عصر الدولة العباسية، وكذلك في كل العصور تقريباً، إلى وقتنا الحاضر. أنا أذكر أنّه في مصر في الثلاثينات هناك من كتب لماذا أنا مُلحِد، وردّ عليه أحدهم وكتب لماذا أنا مؤمن، بالتالي كانت هناك مساحة هامة جداً من التنوير. قبل حتى الثلاثينات، في القرن التاسع عشر كان هناك رموز للتنوير العربي، شبلي شميل في مصر، فرح انطون في بلاد الشام وغيرهما كثيرون وقدّم هؤلاء إنتاجاً معرفياً مهماً جداً لذاك الوقت بل حتى لهذا الوقت، حتى لا نذكر الأفغاني ولا نذكر محمّد عبدو ولا نذكر خير الدين إلى غير ذلك. هذه نقطة أساسية ورئيسة.

أما العوامل فهي في الواقع معقّدة ومركّبة ومُتداخلة حقيقةً. أنا شخصياً أقول أن على مستوى التاريخ على الأقل يجب أن ننظر إلى فترة الاستعمار، هذا الاستعمار الذي ترك عند العرب بشكلٍ عام أو غرس فيه ما يمكن أن نطلق عليه بعقدة النقص، وهذه العقدة قد تمكّنت للأسف من العرب بشكلٍ عام. وحتى بعد الاستقلال، في فترة الاستقلال، الدولة الوطنية الحديثة ( لم )، برغم أنّ العديد من رموزها والعديد من قياداتها قد درسوا في الغرب وعاشوا تجارب سياسية في الغرب، إلا أنهم بعد تسلمهم السلطة قد ارتدّوا عن مبادئ وأفكار التنوير التي اكتسبوها وعاشوا على الأقل في فترة في ظلّها. ولذلك نحن كنا في كثير من البلدان أو أغلب البلدان إزاء دول لا تحترم الإنسان، دول استبدادية لا تحترم الفكرة ولا كذلك تسعى إلى التجديد، وهذا كان عاملاً أساسياً في ما نحن نعيش فيه.

بطبيعة الحال هذا أيضاً ليس حكماً مطلقاً، لأن يمكن أن نذكر في فترة المرحوم عبد الناصر خاصةً في الستينات، وقبل موته، كانت هنالك حركة تنويرية واسعة، لا بدّ من أن نذكر أعلاماً مصريين بحجم طه حسين وغيره من هؤلاء الرموز، كذلك حتى في عهود أخرى، مثلاً أذكر دولة الكويت التي تصدر كتاباً هاماً جداً شهرياً هو كتاب عالم المعرفة، لكن المشكلة هنا وهذا الأساس أنّ عملية التصحّر هي بدأت منذ السبعينات. أذكر كتاب صادق جلال العظم الذي أصدر كتاباً اسمه نقد الفكر الديني، وهو كتاب لا يكفر ولا علاقة له بالالحاد، ولكن رغم ذلك حوكم هذا المفكّر وحوكمت دار الطليعة التي نشرت هذا الكتاب، ومنذ تلك اللحظة وخاصة بعد هزيمة 67 وتغيّر السلطة في العالم العربي وقضية النفط إلى غير ذلك بدأ الاتجاه، اتجاه جديد هو الاتجاه الذي وصفتموه سيادتكم الآن، هذا هو الضلال والظلام وبدأنا نعيش فترة لا زلنا نعيش فيها.

 

يحيى أبو زكريا: دكتور عبد اللطيف، نعم، قلت بدأ التصحّر في السبعينات، لكن دعني أذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين والقارئين أيضاً، كل الرموز التنويرية في العالم العربي من انطون سعاده الذي كفر إلى شبلي شميل الذي زندق إلى قاسم أمين الذي أخرِج من الملّة إلى مصطفى عبد الرازق الذي حكم عليه بالإعدام الفكري والاغتيال المعنوي إلى طه حسين الذي قيل عنه أنه مصاب بداء عمى السوربون وعمى الحضارة، لم يسلم التنويريون في العالم العربي. وهنا أنتقل إلى الأستاذ أحمد ماهر.

أستاذ أحمد ماهر، كان التنوير سباحة ضدّ التيّار، ولعلّ محمّد عبدو أبدع عندما قال من قال بالتجديد قيل عنه زنديق، من قال بالتحقيق قيل عنه زنديق. لا يوجد مجدّد، مُفكّر تنويري إلا وزُندِق وكُفّر وأخرِج من المِلّة. بنظرك، من ذا الذي جعل كفّة الظلامية ترجّح على كفّة التنوير؟ هل نحن أمّة غير سوية؟ هل نحن أمّة أعدمنا العقل؟ هل نحن أمة نقلنا كل صراعاتنا، إشكالاتنا، قضايانا، إلى الماضي وليس إلى الراهن والمستقبل؟

 

أحمد ماهر: نعم، نحن أمّة تعاني من بعض الآفات الإدراكية، فعندنا مثلاً الفقهاء تجدهم يقولون الأمر ونقيضه في قرابٍ واحد من دون أن يدروا، وعندنا الأموال، أموال البترو دولار، أموال الخليج كلها مكرّسة لتطبع الملايين من كتب التُراث القديم على كامل عتهه وخبله، وكأنّه ليس في هذه الدنيا أو ليس في بلاد العرب مَن يعقلون، يقولون أنّه يقتلون المرتدّ، وإذا بحثت في كتاب الله لا تجد قتلاً لمُرتدّ، يقولون بقتل تارك الصلاة وإذا بحثت في كتاب الله لا تجد قتلاً لتارك الصلاة، يقولون باضطهاد المسيحي واليهودي لأنه كافر وإذا بحثت في كتاب الله تجد أنّ الله عزّ وجل أحلّ لنا طعامهم وأحلّ لنا الزواج من نسائهم، وقال لا نجادلهم إلا بالتي هي أحسن، لكن الفقه المعتوه والعقل المخبول الذي عليه العرب في غالب أمرهم جعل الرّكود المعرفي والركود في نموّ التطوّر الفكريّ في خبر كان. للأسف، نحن قوم اتّخذنا شعار "أخرجوهم من قريتكم إنهم أناسٌ يتطهّرون" لكلّ من قال كلمة تخالف الأئمّة. هل أنا مثلاً إذا قلت للناس ومشاهدينك أنني أخالف الأئمّة الأربعة في كذا وكذا، وليكن مثلاً على سبيل المثال أنني أخالف الأئمّة الأربعة في أنه ليس على الزوج نفقة أجر طبيب أو نفقة دواء لزوجته المريضة، لأنّ لديهم الزواج للتلذّذ وما هو التلذّذ في أمرأة مريضة؟ إذاً ليس علاجها على زوجها، إنما علاجها على والدها أو شقيقها أو عمها. هل هذا فقه؟

أما أن تقول لي المالكية والحنابلة قالوا لا يجبر الزوج على شراء كفن لزوجته المتوفاة ولو كانت فقيرة، هل هؤلاء قوم يعقلون؟ الذين احتفظوا بهذا التراث، هذا التراث فيه جريمة غير جريمة كتابته، جريمة الحفاظ عليه، جريمة الحفاظ عليه هذه جريمة عقلية يا دكتور يحيى، جريمة إدراكية، كون أصلاً تقول أنّ البخاري أصح كتاب بعد كتاب الله، وهو يعادي كتاب الله، لا يوجد كتاب في الكون يعادي كتاب الله بحجم البخاري ومع هذا تجد شعار أنه أصح كتاب بعد كتاب الله، وإذا تحدّثت يقول لك أنت لا تفهم، وإن أتيتهم بالدلائل يبدأون يناورون بفقه إبليس في التبرير.

إذاً نحن لدينا آفة عقلية، لا شك أنّ لدينا آفة عقلية، ونستخدم المال ونحن أمّة لا نعدم المال، نستخدمه لقهر أي فكر جديد ونحن ننشر الفكر القديم، لدينا قاعة اسمها قاعة الإمام محمّد عبدو في الأزهر ولدينا احتفال سنوي بالإمام محمّد عبدو، طالما حضرتك تحدّثت عن الإمام محمّد عبدو وأخي الفاضل الكريم زميلي في هذه الحلقة تحدّث عن الإمام محمّد عبدو، لكن هل يوجد سطر واحد، سطر واحد من الحرية الفكرية لمحمّد عبدو يُدرَّس في الأزهر؟ لا يوجد، لا يوجد في العالم الإسلامي سطر واحد يُدرَّس في الأزهر، الفتوحات المُسمّاة زوراً أنّها إسلامية، علامَ استساغوها واستساغوا سبي النساء ووطأهن في وجود أزواجهن؟ علامَ استساغوا بيعهم وبيع الأطفال، علامَ، من أية شريعة إلا الخبل العقلي والعته؟ فقه الكراهية، مَن الذي نشر فقه الكراهية؟ أنا أكره غير المُحجّبة، أنا أكره المسيحي، أنا أكره اليهودي، أنا أكره فلاناً وعلاناً، مَن نشر فقه الكراهية؟ وهل فقه الكراهية من الحكمة والموعظة الحسنة؟ هل فقه الكراهية الذي نكرّسه في الأولاد والصغار، في المدارس من الحكمة والموعظة الحسنة؟ نحن أمّة بلا عقل، أمّة بلا إدراك، لا بدّ من أن نخلع العمامة ونحلق اللحية حتى تستقيم أمورنا.

 

يحيى أبو زكريا: أستاذ أحمد ما دمنا بلا عقل، دعني أؤذّن بطريقة أخرى، وأقول حيّ على العقل، حيّ على التنوير، حيّ على الثقافة.

دكتور عبد اللطيف، هل هي واحدة من الأسباب طبعاً انتشار الظلامية والجمود على النص والبقاء في التاريخ الماضوي والبقاء أيضاً في مساوئ التاريخ الإسلامي للأسف الشديد؟ يا ليتنا استصحبنا محاسن التاريخ الإسلامي، لقد استصحبنا كل مساوئ التاريخ الإسلامي. هل هذا البقاء في الماضي والجمود على النص وبالتالي عدم التحرّر من الماضوية هو الذي أفضى إلى موت العقلانية في العالم العربي والإسلامي؟

تجيبني، لكن بعيد الفاصل من فضلك.

مشاهدينا فاصلٌ قصير، ثمّ نعود إليكم، فإبقوا معنا.

 

المحور الثاني

 

يحيى أبو زكريا: مشاهدينا أهلاً بكم من جديد. عدنا والعود أحمد، ومن أدرك حلقتنا الآن، نحن نعالج موضوع اختفاء الفكر التنويري مقابل الهجمة الظلامية التي تجتاح خط طنجة جاكرتا.

دكتور عبد اللطيف، كنت قد سألتك هل الجمود على الماضي، على النص، هل السكن في الماضي هو الذي أفضى إلى موت العقلانية اليوم؟ أتكلّم القرن الواحد والعشرين رجاءً ولا أريد أن أستصحب التاريخ كله. هل هذا الذي أفضى إلى موت العقلانية اليوم؟

 

عبد اللطيف الحناشي: لا بطبيعة الحال، هناك عوامل عديدة راهنة وليست حتى في التاريخ، نحن تحدّثنا عن العوامل التي أدّت إلى هذه الظاهرة، وشخصياً أرجعتها كذلك لعوامل سياسية، ولكن في نفس الوقت هناك عوامل تربوية، بمعنى المدرسة التي حافظت على النقل ولم تحيِ الحس النقدي لدى التلاميذ، كذلك الجامعة، وهذا أعتقد مهم جداً، كما أنّ الظروف الاقتصادية والاجتماعية السائدة في هذه المجتمعات قد ساعدت على مثل هذا التكلّس الفكري وهروب العقلانية أو على الأقلّ عدم تمدّد العقلانية بشكلٍ واسعٍ. أعطي مثالاً، أغلب الدول العربية، جزء كبير جداً من ميزانيتها تذهب للتسليح ولا تذهب لوزارات التربية أو وزارات التعليم العالي أو وزارات الثقافة، وهذا عامل قد يساعد أو قد ساعد بالفعل على غياب هذا الفكر العقلاني. لماذا غياب الفكر العقلاني؟ هو في الواقع كذلك هنالك الذهنية العربية التي يظهر أنها كذلك لها نوع من الاستعداد لتقبّل هذه الأفكار الظلامية التي وجَدَت كما أشار زميلي وضيفكم الكريم، هناك الأموال التي تُضَخّ من أجل تمرير هذا الفكر عبر الفضائيات وعبر دور النشر، من المهمّ ذكر أنّ هناك جهات تُصادر الكتب ذات النزعة العقلانية في الوطن العربي، وهذا بدأ كما ذكرت منذ السبعينات من القرن الماضي، وتواصل إلى الآن، هناك مجموعات ضغط إن صحّ التعبير التي تُعرقل نشر مثل هذا الفكر، فبالتالي هذا الفكر هو مُحاصَر، في حين أنها لا تتردّد في دفع المليارات من أجل نشر كُتب التضليل وكُتب الظلام والإظلام في العالم العربي. بيروت التي كانت في حدود القرن العشرين حتى وتنشر كُتب التنوير وهي واحة للحرية والديمقراطية، نجدها الآن أو نجد على الأقل دور النشر قد تراجعت إلى حدٍ بعيد، الكاتب التنويري أيضاً لا يجد فرصةً للنشر، كذلك هذا الكاتب والأكاديمي الذي ينتج هو مُحاصَر بواقع اقتصادي واجتماعي، وهذا يفرض عليه إما أحياناً الصمت أو المعارك. أنظر إلى حامد أبو زيد، ماذا حدث له في مصر، وعديد من رموز التنوير والفكر التنويري العربي، فبالتالي هذه العوامل كلّها هي صحيح أنها راهنة، ولكن كذلك في جزء منها مُتوارث. نحن بطبيعة الحال علينا أن نذكر أنّ هذا العالم العربي أو الوطن العربي لم يعرف ثورات، لم يعرف إصلاحاً دينياً حقيقياً، حتى وإن حدث فكان جزئياً أو كان عامودياً ولم يكن أفقياً. إذا نظرنا إلى أوروبا مثلاً وما عاشته سواء في عصر النهضة أو في عصر التنوير، هذه العمليات كلها قد رافقتها عمليات أخرى، هي الثورة الصناعية والثورة الزراعية، نحن للأسف في الواقع العربي الآن كذلك نعيش هذه التبعية المقيتة، هذه التبعية.

 

يحيى أبو زكريا: دكتور عبد اللطيف، في هذا السياق، دعني أشير إلى عاملين بارزين، وأنقل السؤال إلى الأستاذ أحمد من فضلك.

إثنان إذا فسدا فسدت الأمّة، الحُكّام والعلماء. قد يُقال إنّ الحاكم في العالم العربي طاغية بامتياز، مُستبدٌ بامتياز، قليل ثقافة بامتياز، سلّمنا، الحكّام متورّطون في التدهور الثقافي في العالم العربي، لأنه أعطِني حاكماً مثقفاً أعطيك أمّة مثقفة، لكن العلماء أستاذ أحمد، الحواضر العلمية، مرجعيات العلم الشرعي في العالم العربي هي أيضاً تحافظ على التحنّط، هي أيضاً تحافظ على الرجعية الثقافية، هي أيضاً تقوم بإنتاج نفس الماضوي، تقوم بإنتاج نفس الأفكار الميتة التي سلفت. وبالتالي إذا كان الحاكم غير مثقّف والعالم يجترّ قضايا التاريخ وأفكاراً ماتت من الماضي فمن أين يأتي التنوير يا أحمد ماهر؟

 

أحمد ماهر: في الحقيقة أنه أولاً نعرة كلمة تخصّص حصرت الاجتهاد في هذه العمائم وتلك اللحى، فهذه النعرة يجب أن تنتهي من الوطن العربي، لا يوجد تخصّص في الدين إنما يوجد إخلاص في الدين. أنا ربما تحدّثت كثيراً أنه لا يوجد شيء اسمه علم الدين بل هناك أمر اسمه أنّ الدين عقيدة تنمو بالإخلاص وبالهداية، لكن العلم الذي يمكن تحصيله بوريقاتٍ ثم نُمتحن فيها ونأخذ الشهادة، هذا أنا أودّ أن أقول أمراً شخصياً، أنا رسبت أربع سنين في الشريعة في كلية الحقوق، أربع سنين متتالية، أرسب بالشريعة لأنني أقول رأيي لأنه ممنوع أن أقول رأيي. العمائم اتصلوا بالاستبداد، اتصلت عقولهم بالاستبداد ولذلك استبدوا أول ما استبدوا بأنفسهم.

 

يحيى أبو زكريا: يا أستاذ أحمد يبدو أنك كنت مشاغباً من أيام الدراسة وربك.

 

أحمد ماهر: لا والله، كنت أقول رأيي، فعندما يأتي العالِم وللأسف، وللأسف، ذكرت أنا بمقالات كثيرة لي أنه لا يوجد في الأمّة الإسلامية علماء، لا يوجد في الأمّة الإسلامية، وإذا كنتم تعتبرون مثلاً أنّ أبو حنيفة عالم فقولوا بالله عليكم ماذا قرأ أبو حنيفة حتى نعتبره عالِماً، وماذا قرأ الحاليون غير فقه أبو حنيفة والشافعي ومالك وابن حنبل حتى نعتبرهم علماء. أين إنتاجهم ؟مَن ينال دكتوراه، مَن يحصل على درجة دكتوراه في العالم الإسلامي من السادة أهل العمائم، المفروض أن الدكتوراه درجة بحثية، أين البحث؟ أين الجديد؟ إنهم ذبحوا العقل في سبيل النقل، لقد ذبحوا كل مُجتهد في سبيل كل ناقل، وخانوا الله ورسوله وجماعة المسلمين بذلك النقل، ذلك الجمود الذي أساء للإسلام والمسلمين عبر العالم كله المُتحضّر، لا تكاد تجد مسلماً إلا وهو مطأطأ الرأس من هذا الفقه المخبول الذي نتمسّك به وننفق عليه المليارات، المليارات. أنا طبعت عشرة كتب على نفقتي وهناك عشرة أخرى موجودة في المخزن من سبع سنين، الناس تأتي وتتصوّر قرب مكتبتي لكنهم لا يريدون القراءة. هذا هو العالم العربي، العالم العربي لا يبذل الجهد لأيّ جديد ولا يبذل الجهد لكلّ جديد ولا يبذل الجهد في سبيل مناصرة مَن يتحدّث بالجديد. كلّنا يؤمن بالبخاري من دون أن نقرأه، كلنا يؤمن بفقه الأئمّة من دون أن يعلم عوار فقه الأئمّة، وإذا قلت عوار فقه الأئمة يقول لك من أنت حتى تتحدّث عن الأئمّة، لأن الدين تم تشخيصه. الدين تم تشخيصه منذ أن أصبح الدين تخصّصاً، الدين يجب أن يكون بالإخلاص، لذلك الله سبحانه وتعالى قال الرحمن فاسأل به خبيراً، والخبير هو الممارِس للدين بإخلاص.

 

يحيى أبو زكريا: أستاذ أحمد في هذا السياق فقط، ألا ترى أنه اليوم، اليوم، أي في سنة 2016 طبعاً ومع السنين التي خلت، أن الإسلام اختفى بالكامل وبرزت المذاهب، لم يعد هنالك شيء اسمه إسلام في الواقع، في المشهد الثقافي العربي والإسلامي وصارت هناك مذاهب، أي تمّ الاستعاضة عن الإسلام بالمذاهب والطوائف والمِلل والنِحل للأسف الشديد؟

 

أحمد ماهر: للأسف أصبحت حالياً سِمة المُتديّن أنّه يُعادي أهل المذاهب الأخرى أو أهل الفِرَق الأخرى، بمعنى السنّي لا يكون سنيّاً إلا إذا عادى الشيعة، السلفي لا يكون سلفياً إلا إذا عادى الصوفية، الحنفي لا يكون حنفياً إلا إذا عادى الشافعي وهكذا، وهذا من الجهل وهذا من ضعف العقول، وهذا من قلّة الثقافة، وهذا من عدم حرية المرأة أيضاً. لاحظ أنّ كل الذين نتحدّث نحن عنهم رجال، أين فقه المرأة في العالم العربي؟ وأين فقه القرآن في العالم العربي؟ عندنا فقه السنّة، أين فقه القرآن؟ هل كتب أحد فقهاً أسماه فقه القرآن في الشريعة والعقيدة؟ لا يمكن ولا يستطيع وإذا استطاع يخشى على نفسه أن يقولوا عنه قرآنياً، وليس كذلك فقط بل في يوم من الأيام إن شاء الله سيتطوّر القذف بكلمة قرآني لتكون قذفاً بالكفر، أنك تنتمي إلى القرآن أن تكون كافراً، إذ يجب أن تبتعد قدر الإمكان عن القرآن وينطبق عليك قول المولى عزّ وجلّ "وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً"، فنحن هجرنا القرآن وهجرنا فقه القرآن وعاديناه بأحكام من السّنّة نعتزّ بها، وللأسف نتصوّر بأننا على الحق المُبين، "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ".

 

يحيى أبو زكريا: أستاذ أحمد، دعني أيضاً أُشرك الدكتور الفاضل الأستاذ عبد اللطيف.

أستاذ عبد اللطيف، يبدو كما قال أستاذنا مالك بن نبي رحمة الله عليه في كتابه "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي"، أنه بالفعل توجد مشكلة أفكار في العالم الإسلامي، بمعنى، عندما تتأمّل المشهد الثقافي الأوروبي ترى تقسيمات للفكر، المدرسة الرومانسية، المدرسة العقلية، المدرسة المتجرّدة، وما إلى ذلك، مدرسة الرجل المتفوّق لنيتشيه، لكن في العالم العربي والإسلامي أحياناً تجد أفكاراً، أركول لديه أفكار، طيب تزيني لديه أفكار، هشام جعيط لديه أفكار، آخرون، لكن هذه الأفكار لمّا تتقولب في مدارس، بمعنى نؤتى مفكّراً، يُبدع إذا مات انتهى. في الجزائر عندنا مثل إن الإنسان عندما يكون حياً يشتاق إلى تمرة وإذا مات غرسوا بجنب قبره نخلة كاملة، نحن أمّة لا تقدّر الأفكار، لا تحترم الأفكار. تأمّل الفضائيات دكتور عبد اللطيف كلها للرقص والمواهب والخلاعة، دُلّني على برنامج ثقافي في فضائية عربية واحدة، كلها إما رذيلة أو عودة إلى الماضي للأسف الشديد، فما هي قصة الأفكار في العالم الإسلامي؟ هل العالم الإسلامي لا يحب الأفكار؟ هل العالم الإسلامي لا يحب الاجتهاد الفكري؟ هل عندنا كساح عقلي وبالتالي العقل الإسلامي هو الأغلى ثمناً لأنه ناضج، طازج، لم يعمل قط؟

 

عبد اللطيف الحناشي: نعم، هو كما ذكرتم أنّ الفضائيات لعبت دوراً، وكما ذكرت شخصياً لعبت دوراً في هذا الظلام والأظلمية التي نعيشها بالفعل، وكما أيضاً ذكرت  أنّ هناك ميزانيات وأموال كبيرة جداً تُضخّ من أجل هذا الذي يحدث الآن، ومنها مسألة المذهبية، وفقط أريد أن أذكر في مؤتمر القدس الذي عقد سنة 1931 بإشراف الحاج أمين الحسيني والشيخ عبد العزيز ثعالبي، كانت كلّ المذاهب موجودة ولم نسمع بهذا سنّي وهذا شيعي وهذا حنفي إلى غير ذلك.

أعود لما تفضّلت به بالنسبة للسؤال. مشكلة الوطن العربي، لا توجد مشاريع ثقافية ومشاريع فكرية، عكس ما يوجد في أوروبا، وهذا يرجع أيضاً إلى عامل تاريخي للأسف، بمعنى أن منذ عصر النهضة كانت هناك قطيعة ابستمولوجية، كان هناك، ثم تطوّر الأمر إلى إصلاح ديني عميق جداً بلغت ذروته في عصر التنوير، قضية فصل الدولة وقضية العقلانية وقضية العلمانية، التي الناس تعرف العلمانية فقط أنها إلحاد، والعلمانية ليست هي الإلحاد، هناك العلمانية المُلحدة ولكن هناك العلمانية المؤمنة، نحن لا نعرف هذه القضايا في العالم العربي. في عالم أوروبا، هناك سلطة المعرفة، هذه السلطة لديها إن شئنا نسيج كامل ليس فقط اجتماعي بل إنما نسيج فكري بل نسيج سياسي، أي أنّ العلماء هم الذين ينتجون المعرفة للسياسيين، السياسيون في أوروبا هم أصحاب ثقافة وأصحاب كذلك مشاريع ثقافية ومشاريع سياسية. في العالم العربي.

 

يحيى أبو زكريا: دكتور عبد اللطيف، في العالم العربي، هنا مداخلة منّي وأرجو أن تجيبني عليها.

دكتور عبد اللطيف، الغرب، أشرت إلى أن الغرب شكل ثقافة، مرجعية وحضارة، وكل ذلك نتوافق عليه، الغرب جاء إلى العالم العربي في بداية القرن التاسع عشر وما تعلمنا منه، وذهبنا إلى عقر داره اليوم، أزيد من 50 مليون مسلم في الغرب، لم نصدّر لهم إلا الإرهاب، أخذنا منهم المساوئ ولم نأخذ منهم المحاسن، بمعنى حتى في مسألة التلاقح الفكري، الإقتباس الحضاري لا يوجد عندنا هذا. لماذا بنظرك؟

 

عبد اللطيف الحناشي: مع كامل احتراماتي لكم، أختلف مع ما ذهبتم إليه، لأنني أنا ضدّ التعميم المُطلَق، هناك في نفس الوقت حتى هذا الإرهاب الذي تفضّلت به يمكن أن نرجع أسبابه وعوامله إلى هذا الغرب كذلك، هو كان عاملاً مساعداً، هذه السلفية في التاريخ لم تساهم في حركة التحرّر لا في الجزائر ولا في تونس ولا في مصر ولا في أي مكان، بسرعةٍ برزت الآن في أواخر القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، مَن هو السبب؟

صحيح أنّ هناك ذهنية موجودة على استعداد أو لديها قابلية لأن تكون بهذا الشكل، ولكن في نفس الوقت هناك حتى في العالم العربي، هناك متنوّرون، هناك مُبدِعون في مجالات عديدة، لكن هناك في نفس الوقت أزمة عميقة هي أزمة اقتصادية، أزمة اجتماعية، أزمة فكرية، هي أزمة حتى نفسية. أنا أشرت في بداية الحلقة وهذا ركّز عليه فرانس فانون وكذلك مالك ابن نبي، هذا الاستعمار، وأنا لا أحمّل الاستعمار المسؤولية بشكل مُطلق ولكن هو ساعد على هذه العقدة أو ركبنا عقدة النقص في الذات العربية بشكل عام، لا يجب أن ننسى هذه الفترة الاستعمراية الطويلة التي ساعدت على هذا الذي نتحدّث عنه اليوم. إذاً فهذا الذي نعيشه هو لأسباب كما قلت مُركّبة ومُعقّدة، لكن المشكلة الأساسية، كما ذكرت، هذه القطيعة المعرفية، هذا الإصلاح الذي لم نعرفه نحن، والمشكلة الأخطر من ذلك هو أنّ المفكّر العربي إن كان هناك مفكّر عربي هو يجترّ ويأخذ بالعرض، لا يملك القوة للابداع الفكري، كلّ المناهج التي نعتمدها الآن هي مناهج غربية بالأساس، بمعنى لا يوجد إبداع حقيقي في هذا العالم العربي، إبداع عميق وإنما نحن نتناسل.

 

يحيى أبو زكريا: دكتور عبد اللطيف، أشرتَ إلى واحدٍ من أهمّ المفكّرين في القرن العشرين، وهو الأستاذ فرونس فانون رحمة الله عليه، وأشير هنا إلى أنّ فرونس فانون هو أول مفكّر كتب في سيكولوجية الاستعمار، هو كما تعلم طبيب نفساني ودرس الاستعمار كحال نفسية، لكن في كتابه سيكولوجية الاستعمار يقول أنّ قابلية الداخل وهشاشة الوضع الثالثي، العالم الثالث، هو الذي أدى بالاستعمار إلى التغوّل، وهي نفس مقولة مالك بن نبي القابلية للاستعمار، ومقولة المُفكّر الجزائري بلقاسم نايت بلقاسم القابلية للاستدمار.

أستاذ أحمد ماهر، على صعيد القابليات، يبدو أنّه نملك هذه القابلية الماضوية، إجمع اثنين، مفكّراً يتحدّث عن بناء الحضارة وشروطها، وداعية سلفياً يتحدّث عن جمال حور العين وطراوة حور العين، ستجد الملايين يهرولون وراء داعية الحور وتجد هنالك خمسة أشخاص بعضهم فيه عنّة عقلية يستمعون إلى هذا المفكّر.

الأمّة الإسلامية أيضاً لم ترقَ إلى المستوى الحضاري والفكري الذي يجعلها مؤهّلة لصناعة التنوير والفكر والحضارة؟

 

أحمد ماهر: سبق وذكرنا أنّ العقل العربي ليس بخير، وإنّه لا بدّ علينا أنّ أطباء علم النفس الإدراكي وأطباء علم النفس والأطباء التربويين في العالم العربي لا بدّ أن نستمع إليهم لنرتقي بالعقل العربي لينتج لنا معرفة حقيقية يُعتدّ بها، أنا أودّ أن أقول أنّ الدواعش، كان هناك إحصائية أعدّتها وكالة ألمانية، أنّ الدواعش في سورية من 93 دولة وقوامهم أكثر من 600000 مقاتل، هذا فكر، هذا فكر ماضوي، فقه سلفي، وكما أقول، أنّ داعش هي نبتة سلفية، وهذا فكر أيضاً، بنكهة أزهرية، وهذا فكر أيضاً، بهوية إسلامية مُزوّرة، فنحن للأسف نتيجة تعظيم هؤلاء المُتخصّصين وتعظيم المتخصّصين للنقل وعدم تطويرهم وخيانتهم لله ولرسوله ولجماعة المسلمين، فقدنا كلّ هوية، وفقدنا العقل، ونحن أصلاً لدينا أمراض عقلية وأمراض إدراكية، فبالتالي الأمة الإسلامية لم تنتج العلم، وحتى منذ زمن بعيد وسحيق، أكثر مفكّرينا أو الذين أنتجوا لنا الفقه المعتوه ليسوا عرباً. هل أبو حنيفة عربي؟ هل الإمام مسلم عربي؟ هل الإمام البخاري عربي؟ مفكّرونا كلهم ليسوا عرباً. إذاً الأمّة، يجب أن نعرف نحن علّة هذه الأمّة ونبدأ العلاج الفوري بأساتذة مُتخصّصين، أما نحن تتوالى علينا الأيام والسنين والدهور والقرون دونما تغيير ودونما بحث في العقلية العربية، فطبعاً حضرتك عندما تتحدّث عن نيتشيه وفولتير يعتقد بأنك تتحدّث بمسائل جنسية لأن العربي لا يعرف نيتشيه أو فولتير ولا أي من هؤلاء أبداً أو يعتبر أنك علماني كافر. نحن نحتاج لإعادة المعرفة العربية وإعادة تقويم العقل العربي، نراعي الحوامل، الحوامل العربيات نرى صحتهنّ حتى يلدن لنا أصحاء عقلياً.

 

يحيى أبو زكريا: يا أستاذ أحمد، الغرب الذي يتربّص بنا وبالتأكيد يتابع مناقلاتنا ومقاربتنا فقط سيسمع منك مقولة أنّ المسلمين مصابون بداء الكساح العقلي، فيفرض علينا حَجراً جماعياً، يحجر على مليار و600 مليون مسلم.

 

أحمد ماهر: الحقيقة لا خير فينا إن لم نقلها، لا بدّ من أن نشير إلى موضع السلبيات فينا وإلا لا نستطيع أن نعالج شيئاً.

 

يحيى أبو زكريا: أحسنت. دكتور عبد اللطيف من هنا نبدأ، كما قال خالد محمّد خالد في كتابه في الخمسينات، من هنا نبدأ، أما آن لنا أن نشخّص الأدواء، هذه أمراضنا، هذه قضايانا، هذه سلبياتنا، هذه نقاط ضعفنا، وفي نفس الوقت هذا بديلنا، هذا مشروعنا، هذه حضارتنا ومن هنا نبدأ؟ ما الذي تقوله في ذلك دكتور عبد اللطيف؟

 

عبد اللطيف الحناشي: أقول أنّ البداية الحقيقية هي من المدرسة، المدرسة، إعادة النظر بالمناهج، وإيلاء المواد العلمية أهمية قصوى، يجب القول أنّ أغلب الذين يقودون الآن هذا الفكر الظلامي هم متخرّجون من كليات علمية، هم أطباء، هم مهندسون، هم من علماء المعلوماتية، إلى غير ذلك.

إذاً المدرسة هي أساسية. الآن العالم العربي هو يعيش أزمة عميقة جداً، ليس فقط أزمة في العلوم وأزمة في التدريس، وإنما حتى أزمة اقتصادية واجتماعية، وحتى الأزمة القيمية، نحن نعيش هذه الأزمات فبالتالي يجب أن ننطلق أولاً من مدرسة، ثانياً يجب أن نعطي الحرية، حرية الإبداع وفي التربية ولكن حتى في المجالات الثقافية المُتعدّدة. الآن أنتم ذكرتم أن حتى الفضائيات، لا تجد فضائية تعتني بالجانب الثقافي، بالجانب الفكري والجانب الإبداعي، وزارات الثقافة لا تهتم إلا بالأمور بين هلالين واسمح لي بكلمة تافهة لا قيمة لها، لا تساعد على تطوير الحسّ النقدي، لا نستفيد من تجارب الأمم، هذه الحرية هي ضرورية ولكن في نفس الوقت يجب إقرار إن العديد من الدول كانت في مرحلة الاستبداد ولكنها في نفس الوقت أنجبت علماء. أمريكا اللاتينية التي كانت في الستينات والسبعنيات تحت الطغاة أنتجت غابريال ماركيز، وأنتجت كذلك علماء في الفلسفة وغير ذلك، والآن يحصدون ذلك. فبالتالي نحن يجب أن نحافظ أو نساعد على التراكم المعرفي، التراكم المعرفي النقدي، يجب إعادة النظر في ما آلت إليه جامعاتنا الآن، يجب إعادة النظر في البرامج العلمية والأدبية وإعطاء أهمية للعلوم الاجتماعية وكذلك العلوم الإنسانية. ليس صحيحاً أنّ العلوم الصحيحة هي التي سوف تقدمنا فقط، يجب أن نعطي الأهمية للعلوم الصحيحة لكن العلوم الاجتماعية هي أيضاً هامة جداً جداً بالنسبة إلى مجتمعاتنا.

 

يحيى أبو زكريا: دكتور عبد اللطيف وكم يبكيني عندما أسأل بعض طلابي ما الذي تريد أن تصبح عليه مستقبلاً، يقول لك مغنّياً أو لاعب كرة قدم. للأسف الشديد أول آية نزلت على المسلمين إقرأ، أضاع المسلمون القراءة ففقدوا الدور وفقدوا الكيان وفقدوا الحضارة وباتوا على هامش الأمم.

الدكتور عبد اللطيف حناشي من تونس الحبيبة شكراً جزيلاً لك. الأستاذ الفاضل أحمد ماهر من مصر الحبيبة شكراً جزيلاً لك.

مشاهدينا وصلت حلقتنا إلى تمامها. إلى أن ألقاكم، هذا يحيى أبو زكريا يستودعكم الله الذي لا تضيع أبداً ودائعه.