صناعة الاستبداد في الثقافة العربية والإسلامية

23 شباط 2017 20:00

يعتبر الإستبداد ظاهرة ملازمة للتاريخ العربي والإسلامي, وما زالت هذه الظاهرة تكبر وتنمو حتى تحولت إلى كرة نار أحرقت اليابس والأخضر في خط طنجة – جاكرتا. والسؤال العلمي الذي يطرح في سياق قراءتنا للإستبداد العربي والإٍسلامي, هل كان الإستبداد مرتبطا بطبيعة الحاكم الطاغية المتفرد برأيه وحكمه, أم أن هذا الإستبداد مهدت له الثقافة العربية والإسلامية التي جامل بعض رموزها الحكام وجعلوا من الطغاة حكاما عادلين ينفذون ما أمر به الله؟ فهم أولو الأمر الذين لا يشق لهم غبار, وقد عينهم الله لإدارة البلاد والعباد وكل العلماء الذين قدسوا الحكام إعتمدوا على آراء المرجئة الذين كان موقفهم من الحكام والامامة هو الحجر الأساسي التي يرجع اليها الفقهاء والعلماء في العصر الحديث حول عدم شرعية الخروج على الحكام وحين يعرف المرء القوة المبنية، اجتماعيا، للأساطير الأصلية، وبصورة أعمق في المجتمعات التي تسعى إلى أن تحيا داخل حاضر أبدي، فانه يدرك حينها ما يتطلبه هذا النوع من تصفية الحساب، مع التاريخ، من مجهود ومخاطر وتضحيات.

نص الحلقة

يحيى أبو زكريا: حيّاكم الله وبيّاكُمُ وجعل الجنّة مثواكُمُ. <o:p></o:p>يُعتبَر الاستبداد ظاهرةً ملازمةً للتاريخ العربيّ والإسلاميّ، وما زالت هذه الظاهرة تكبُرُ وتنمو حتى تحوّلت إلى كرة نارٍ أحرقت اليابس والأخضر في خط طنجة جاكرتا.<o:p></o:p>والسؤال العلميّ الذي يُطرَح في سياق قراءتنا للاستبداد العربيّ والإسلاميّ، هل كان الاستبداد مرتبطاً بطبيعة الحاكم الطاغية المتفرّد برأيه وحكمه، أم أنّ هذا الاستبداد مهّدت له الثقافة العربية والإسلامية، التي جامل بعض رموزها الحُكّام وجعلوا من الطغاة حُكّاماً عادلين ينفّذون ما أمر الله به، فهم أولو الأمر الذين لا يُشَقّ لهم غبار، وقد عيّنهم الله تعالى لإدارة البلاد والعباد. <o:p></o:p>ومن الجدير ذكره أنّ الآداب السلطانية اعتمدت على نصوص رسائل عبد الحميد ابن يحيى الكاتب، ونصوص ابن المقفّع، وأعمال أرسطو المتحوّلة كرسالة سرّ الأسرار، ثم بعد ذلك أعيد إنتاج معظم الآداب السلطانية على مدار التاريخ الإسلامي.<o:p></o:p>لقد نجحت الآداب السلطانية في صناعة الخوف من الملك أو السلطان باعتبار أنه قادر على البطش والقتل.<o:p></o:p>لقد قدّم محمّد عابد الجابري مقاربةً رائعة في كتابه "العقل الأخلاقيّ العربيّ" الذي جاء بعد مشروعه في كتابيه "تكوين العقل العربي"، و"بنية العقل العربي"، وفيه يؤكّد أنّ الموروث الفارسي واليوناني صار جزءاً من صناعة الاستبداد العربيّ على أسسٍ ثقافية. <o:p></o:p>وفي نظر محمّد عابد الجابري، فإنّ ابن المقفّع الذي عايش دوائر القرار الأموي والعباسي نشر ثقافة الكسروية وأعطاها بُعداً عربياً وإسلامياً. وحسب الجابري أيضاً، فإن الثقافة الكسروية سادت من خلال كتب الأدب ومنها كتاب "عيون الأخبار" لابن قتيبة والعقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي.<o:p></o:p>والأصح أنه قبل هؤلاء كانت الفرقة الجهمية التي أسسها الجهم ابن صفوان الترمزي الذي أنكر أن يكون للمخلوق أيّة إرادةٍ أو اختيار في أفعاله، وإنّ جميع المخلوقين مجبرون على أفعالهم، وبالتالي ما يفعله الحكّام والسلاطين هو بأمر الله ومن الله.<o:p></o:p>وعلى غرارهم، المرجئة، قال ابن الأثير في النهاية "المرجئة تُهمَز ولا تُهمَز"، وكلاهما بمعنى التأخير، والإرجاء هو تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يُقضى عليه في الدنيا حكمٌ ما، وحسب المرجئة فإن الحاكم الظالم الطاغية يظلّ مؤمناً إلى يوم القيامة، وعندها يُنظَر في أمره.<o:p></o:p>وكل العلماء الذين قدّسوا الحكّام اعتمدوا على آراء المرجئة الذين كان موقفهم من الحكّام والإمامة هو الحجر الأساس الذي يرجع إليه الفقهاء والعلماء في العصر الحديث حول عدم شرعيّة الخروج على الحُكّام.<o:p></o:p>ويعطي المواردي أحد أبرز المؤلفين في الفقه الدستوري إن صحّ التعبير مكانةً كبيرة للحُكّام ويرى أنهم يتقاطعون مع الله في المُلك، مع التسامح طبعاً في اللفظ والمعنى.<o:p></o:p>أما الكاتب والباحث الفرنسي ريجيس دوبريي صاحب كتاب "نقد العقل السياسيّ"، يقول أنّ العالم العربي لن يحصل على مستقبل الحرية إلا إذا ارتضى وقبل بتقويض أساطيره وبمواجهة ماضيه، فحين يعرف المرء القوى المبنية اجتماعياً للأساطير الأصلية وبصورة أعمق في المجتمعات التي تسعى إلى أن تحيا داخل حاضر أبدي فإنه يدرك حينها ما يتطلبه هذا النوع من تصفية الحساب مع التاريخ من مجهود ومخاطر وتضحيات.<o:p></o:p>صناعة الاستبداد في الثقافة العربية والإسلامية عنوان برنامج أ ل م، ويشاركنا في النقاش من تونس الحبيبة الدكتور عبد اللطيف الحناشي أستاذ في التاريخ المعاصر وباحث وأكاديمي، ومن مصر الحبيبة الباحث والأستاذ سامح عسكر. مرحباً بكم مشاهدينا جميعاً.<o:p></o:p>دكتور عبد اللطيف، سؤالٌ وجيه وبسيط. هل الثقافة العربية والإسلامية صنعت الطغاة، كرّست حُكّاماً، قدّست السلاطين وأعطتهم درجة الألوهية أحياناً؟<o:p></o:p><o:p> </o:p>عبد اللطيف حناشي: أهلاً وسهلاً بكم. بطبيعة الحال الثقافة بشكل عام هي جزء لا يتجزّأ من تراث الشعب أو أي شعب من الشعوب، وهذه الثقافة العربيّة بشكلٍ عام أثّرت بل تمّ توظيفها واستغلالها من قِبَل الحُكّام، ولكن هؤلاء الحُكّام أيضاً كانت لهم مجموعة من الفقهاء الذين، بالمعنى القديم للكلمة ولكن بالمعنى الحديث المنظّرين، الذين أعطوا لمثل هذا الاستبداد إن شئنا نوعاً من المشروعية. الحاكم العربي منذ بدايته كان يحكم باسم الله، وكان يوظّف الكثير من الأحاديث، وكذلك حتى السّوَر القرآنية من أجل الحكم، ومن أجل حكم الناس بطريقةٍ فردانيّةٍ، وهذه الطريقة هي التي يمكن أن نتحدّث عنها كاستبدادٍ، ليس فقط في الرأي، ولكن كذلك في الحُكم، وفي تسيير الأمور. بالنتيجة، الثقافة العربيّة الإسلاميّة هي التي يستمدّ منها الحُكّام، وعندما نقول الثقافة العربية بكلّ جزئيّاتها أو بكلّ مفرداتها أو بكل اختصاصاتها، هي التي يستمدّ منها أو استمدّ منها الحاكم الأصول والمقاييس والمعايير التي حكم بها، وإلى حدّ هذه الساعة أغلب الحُكّام يستمدّون أو يحاولون عند الضرورة أن يستمدّوا شرعيّتهم من خلال هذا التراث الواسع، ولكن يجب القول أنه تراثٌ كذلك متناقضٌ، بمعنى كما تفضّلت، يمكن أن يوظَّف بهذه الطريقة، وكما يمكن أن يوظّف بطريقة عكسيةٍ، بمعنى أن هناك باب التأويل هو موجود ويمكن توظيف كل هذا التراث بما نرغب وبما نريد.<o:p></o:p><o:p> </o:p>يحيى أبو زكريا: دكتور عبد اللطيف، أرجو أن تبقى معي. أنتقل إلى القاهرة للأستاذ سامح عسكر.<o:p></o:p>أستاذ سامح، عندما نتحدّث عن السلطان أو الحاكم أو الأمير في ذلكم الوقت وفي هذا العصر أيضاً، لا نتحدّث عن صانع ثقافة لأن الجهل كان سمة ملاصقة لحكّامنا للأسف الشديد، ابتلى الله الحكّام العرب بالجهل في الماضي والحاضر، لكن كان الفقهاء هم حصان طروادة الذين كانوا يستنبطون من القرآن ما يعضد مساره السياسي ورؤيته الأيديولوجية وما كان يقرّره من قرارات.<o:p></o:p>هلا جزّأت لنا هذا التاريخ الإسلامي وأعطيتنا مصاديق من هذه النمطية أو العلاقة الطردية بين الحاكم والفقيه؟<o:p></o:p><o:p> </o:p>سامح عسكر: السلام عليكم دكتور يحيى وسلامي أيضاً للدكتور عبد اللطيف الحناشي.<o:p></o:p>أولاً علينا أن نربط ما بين الاستبداد والانغلاق، الاستبداد والانغلاق، وأنا سأضرب مثلين معاصرين الآن نستطيع من خلالهما أن نفهم كيف يكون هناك استبداد وانغلاق مع بعض، هذه ثنائية تُسمّى ثنائية التدمير والتخلّف في جميع المجتمعات، الاستبداد والانغلاق.<o:p></o:p>سنسأل حضرتك سيّدي، نحن لدينا مثال كوريا، هل الشعب الكوري كان شعباً واحداً أم شعبين؟ الشعب الألماني هل كان شعباً واحداً أم شعبين؟ <o:p></o:p>الشعب الألماني شعب واحد والشعب الكوري كذلك هو شعب واحد، ولكن ما جعل أن يكون هناك شعبان وبثقافتين مختلفتين إحداهما ثقافة استبدادية متخلّفة ورجعية، والثانية ثقافة متحرّرة ديمقراطية، هي السلطة. السلطة في كوريا الشمالية كانت سلطة مستبدّة ومنغلقة أدّت إلى ما هي عليه الآن من تخلّف للمجتمع الكوري الشمالي، كذلك على النقيض تماماً، مجتمع كوريا الجنوبية مجتمع متحرّر ومجتمع منفتح ومجتمع ديمقراطي ومجتمع متعلّم، مستنير، توجد فروق، وهذه الفروق أنتجتها ثنائية التدمير والخراب، الاستبداد والانغلاق. <o:p></o:p>أما طبعاً أن تكون هناك علاقة ما بين الحاكم وما بين رجال الدين، هذه العلاقة متأصّلة ومتجذّرة في جميع المجتمعات وفي جميع الحضارات، بل هي مصلحة ثنائية ما بين رجال الدين وما بين الحاكم على حد سواء. يجب أن تكون هناك ثنائية الاستبداد والانغلاق، يتبعها بالكاد تحالف رجال الدين مع السلطة، لا بدّ طبعاً من أن يكون هناك رجل دين يبحث عن نصوص تأويلية، يبحث عن نصوص من تراثه هو لتبرير ظلم الحاكم، وتستطيع أن تقول أنه يبرّر الظلم بشكل مطلق، حتى لو يستطيع رجل الدين أن يضع العيب على الشعب سيجعله، في مقابل أنه لن يدين الحاكم أبداً، هذا رجل الدين، وإذا اضطرته الظروف أن يقف في وجه الحاكم سيُسجَن، لذلك هو كان يخشى من العواقب وغالبية رجال الدين في مجتمعات العرب هم أشخاص يحافظون على مناصبهم وعلى سمعتهم وعلى مصادر أرزاقهم.<o:p></o:p><o:p> </o:p>يحيى أبو زكريا: دكتور عبد اللطيف، بين يديّ كتابان إن صحّ التعبير. الكتاب الأول أكيد تعرفه الفرنسي "العبودية المختارة"، العبودية المختارة هو أقدم وثيقة في الفكر السياسي الاستبدادي إن صح التعبير، وهذا الفرنسي الرائع كتب هذا الكتاب قبل أزيد من ثلاثة قرون وما زال وثيقة للدارسين. وكتاب أيضاً للسيّد كمال الحيدري "السلطة وصناعة الوضع والتأويل" يتحدّث فيه عن دور السلطات الإسلامية في صناعة الفكر الإسلامي، في صناعة الخطاب الإسلامي.<o:p></o:p>كيف كان الفقيه يزيّن للسلطان ما يذهب إليه؟<o:p></o:p><o:p> </o:p>عبد اللطيف الحناشي: نعم، هذه ظاهرة إن شئنا إنسانية، ظاهرة سياسية. صحيح أن الحضارة العربية الإسلامية قد كان لها بين قوسين الفضل في ذلك، ولكن أيضاً نجدها في الحضارات الأخرى. بالنسبة للحضارة العربية الإسلامية وكما ذكرتم عمّا ذكره كذلك المرحوم عابد الجابري، هذه المصادر هي لم تكن في العمق مصادر عربيّة، بمعنى أنّ العرب لم يملكوا في البداية مثل هذا الشيء من التراث الاستبدادي، أعتقد أنّه منذ تأسيس الدولة الإسلاميّة أو الدولة العربية الإسلامية، بدأ هذا النهج أو المنهج، وهذا يظهر قد بدأ.<o:p></o:p><o:p> </o:p>يحيى أبو زكريا: دكتور عبد اللطيف، متى تأسّست هذه الدولة؟ عفواً لأن كل مؤرّخ يقول هنا منطلق الدولة، في نظرك كمؤرّخ متى بدأت هذه الدولة الإسلامية؟ هل مع الأمويين، مع العباسيين، مع الخلافة الإسلامية الأولى؟<o:p></o:p><o:p> </o:p>عبد اللطيف الحناشي: هناك مقاربتان أساسيتان. المقاربة الأولى تنطلق من المدينة عندما قام رسول الله محمّد صلّى الله عليه وسلّم بإقامة هذه المدينة، وكانت هذه المدينة يتعايش فيها جميع الطوائف وجميع الأديان، وبدأت من هنا البذرة الأساسية لهذه الدولة، ثمّ في مرحلة الخلفاء الراشدين، ولكن الدولة بالمعنى الدقيق للكلمة هي زمن الأمويّين، وزمن معاوية هو الذي كرّس بشكلٍ ممتدٍّ مسألة الاستبداد، وكرّس مسألة الحق الإلهي، وحكم باسم الله، وهذا بدأ من هنا يستقطب الفقهاء ويستقطب كذلك رجال الفكر إن صحّ التعبير لتبرير سلطته، وأصبح من أولي الأمر الذين يُعتمد عليهم، بمعنى هؤلاء جماعة الفقهاء والحل والعقد.<o:p></o:p>نعود الآن إلى سؤالك الأساسيّ، وهذا الاستبداد قد بدأ، حتى ماركس يتحدّث عن الاستبداد الشرقيّ، هو مرتبط ليس فقط بوجود الدولة الإسلامية، هو مرتبط كذلك بعوامل جغرافية، بعوامل مناخيّة، بل بعوامل كذلك حضارية بشكل عام، ولكن منذ بروز الدولة العربيّة الإسلاميّة وخاصةً في عهد عثمان، بدأ هذا المنحى في التمدّد ووصل ذروته في الدولة الأمويّة، وتمدّد بطبيعة الحال حتى عند الدولة العباسيّة والدويلات الأخرى البويهية وغير ذلك، وبلغ ذروته كذلك مع الخلافة العثمانيّة في العصور الحديثة. فبالتالي يمكن القول أنّ هذا السلوك الجديد القديم بين قوسين هو نتاج لهذه الثقافة، ولعب الفقهاء دوراً مميّزاً في إعلاء كلمة الخليفة، وفي أن يكون بالفعل حاكماً مستبداً، بل حاكماً طاغياً. ومن هنا يمكن أن نفرّق بين الاستبداد وبين الطغيان، فيمكن أن يكون هناك حاكم مستبد عادل، ولكن لا يمكن أن نجد حاكماً من الطغاة ولكنّه عادل. <o:p></o:p>في الحضارة العربية الإسلامية، بشكلٍ عام، يمكن أن نلاحظ في مراحل قليلة في الواقع هذا المستبدّ العادل، خاصةً في عصر عبد العزيز، تقريباً حقبة من الزمن قد سادت، أو في عهد عمر ابن الخطاب. ما عدا ذلك كان هناك الاستبداد وكان هناك الطغيان، وهذا الطغيان وهذا الاستبداد كما قلنا استند إلى نصوص سواء من الأحاديث أو من القرآن الكريم، ولكن بعملية إسقاطٍ وتأويلٍ معيّن لخدمة هذا الحاكم، وخدمة كذلك مصالحه، هذا الحاكم الذي يحكم الناس ويحكم كذلك مستقبلهم آنذاك إن صحّ التعبير، وكذلك إرادتهم تكون تحت إمرته، وهو أمر في طبيعة الحال قد استمر في تاريخنا العربي إلى الآن بتفاوتٍ وبأشكالٍ مختلفة.<o:p></o:p><o:p> </o:p>يحيى أبو زكريا: طبعًا يُشار إلى أنّ عمر بن عبد العزيز كان من الحكّام المُنصفين والعاقلين الذين أدركوا عفونة السلطة وتخلّى عنها، ويُشار أيضاً إلى أنه لما ردّ أرض فدك إلى بني فاطمة وعلي أشكل عليه أقرباؤه وأهله ولاموه إلى أقصى درجة، أن ردّ حقاً لأبناء فاطمة.<o:p></o:p>استاذ سامح عسكر، عندما نتكلّم عن الحاكم والنص، هو يستخدم نصوصاً قرآنيّة، هو يقيم الحد على السارق، لكن أي سارق، مواطن بسيط يسرق دونقة أو درهماً بغلياً بتعبير ذلك العصر ويقيم عليه الحد، لكن هو عندما يسرق الأموال وخزائن بيت مال المسلمين ويسرق الصفراء والبيضاء لا أحد يحاسبه نهائياً.<o:p></o:p>هل من هذا المنطلق بدأ النص يتمتّط، يتميّع، يفسَّر تفسيراً حسب الهوى؟<o:p></o:p><o:p> </o:p>سامح عسكر: هذا طبيعي، طالما توجد ثنائية تحالف رجال الدين مع السلطة سيوجد هذا النوع من السلوك البديل أو السلوك السيّىء. نحن عندنا في تاريخنا يا سيّدي، تاريخ المسلمين، بدأت ثقافة الاستبداد، نستطيع التأريخ لها كذلك تقريباً منذ تحوّل الخلافة الإسلامية من الديمقراطية والمبايعة إلى المُلك العضود في عهد معاوية ابن أبي سفيان، لكن هذا على الجانب السياسي. تحوّل بعد ذلك على مستوى الفقهاء في عصر الدولة الأموية. أشاعوا الثقافة الجبرية في مواجهة المثقّفين المتحرّرين وقتها كغيلان الدمشقي وابن صفوان وابن درغم ومعبد الجهلي، هؤلاء كانوا مثقّفين متحرّرين، كانوا بوجه السلطة الطاغية الأموية. تمّ تأصيل هذا الاستبداد الجبري في عهد الدولة الأموية ثم ترسّخ بعد ذلك في عصر الدولة العباسية، بداية من عصر العباس الثاني، الذي هو عصر التدوين، الذي كان فيه الإمام أحمد ابن حنبل والإمام البخاري ومسلم وأصحاب الكتب الستة. <o:p></o:p>من هذا التنقيط وهو من بداية العصر العباسي الثاني، تمّ تدوين الثقافة السلطوية المستبدة التي تمّ ترسيخها في عصر الدولة الأمويّة، وكان ذلك لمصلحة الحاكم وقتها، الذي انقلب على سياسات الخليفة السابق، والذي هو الخليفة المأمون، والموضوع طبعاً كان له جانب عقدي، إنما الجانب المسيطر أو الطاغي على فلسفة الخليفة المتوكل العباسي كان هو جانب سياسي، هو لم يكن يريد أي نفوذ للمعتزلة والمتحرّرين في هذا التوقيت، لأنه يرى أنّ هؤلاء المفكّرين هم مفكّرون أحرار يفكّرون أو يتحرّكون بناء على قاعدة الإرادة الحرة.<o:p></o:p>وبناء عليه فلسفة الجبر الأموية لم تكن هي التي سيطرت في هذا التوقيت، في عهد المتوكل، وبناء عليه نستطيع أن نؤرّخ أنّ الاستبداد كان سياسياً بدأ مع معاوية ابن إبي سفيان وفقهياً في عصر الدولة الأموية وتراثياً أو فكرياً بدأ منذ عصر التدوين والإمام أحمد بن حنبل. جاء بعد ذلك بداية من القرن الرابع الهجري، تمّ ترسيخ هذه، عندها بدأ الاستبداد يتبلور فكرياً وفقهياً وذهنياً وسياسياً، وبناء عليه أصبح الحاكم بداية من القرن الرابع الهجري هو ظل الله في أرضه وهو الخليفة الممثل لله. أصبح هذا المفهوم.<o:p></o:p><o:p> </o:p>يحيى أبو زكريا: أستاذ سامح، إذا تسمح قبل أن يمتدّ إليّ طغيان السلطان، أمضي إلى فاصل فأريحكم وأريح نفسي.<o:p></o:p>مشاهدينا فاصل قصير ثم نعود إليكم، فابقوا معنا.<o:p></o:p><o:p> </o:p><o:p> </o:p>المحور الثاني<o:p></o:p><o:p> </o:p>يحيى أبو زكريا: مشاهدينا أهلاً بكم من جديدٍ. من أدرك حلقتنا، نحن نعالج موضوع الاستبداد، الآفة، الطامّة في تاريخ العرب وراهنهم، والثقافة الإسلامية وصناعة الاستبداد والطغيان.<o:p></o:p>دكتور عبد اللطيف، تحدّثنا في المحور الأول عن الاستبداد وامتزاجه بالثقافة العربية والإسلامية في التاريخ. دعنا في الراهن، حيث الاستبداد راية وعنوان ومنهج ومسلكية وما إلى ذلك.<o:p></o:p>اليوم، إذا قسّمنا العالم العربي إلى قسمين، هنالك دول جمهورية، لكن مع ذلك كلها جاءت بدبّابات عسكرية، لا دور للشعب، وهنالك دول ملكية، الملك يورث أحفاده، أبناءه، ربما إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، آل فلان وآل علان، فنريد أن نعرف هل ما زال الاستبداد اليوم العربي في الدائرة الجمهورية وفي الدائرة الملكية يقتبس من الثقافة العربية والإسلامية؟<o:p></o:p><o:p> </o:p>عبد اللطيف الحناشي: نعم بطبيعة الحال، هو يعتمد عليه ويستمد شرعيته من هذا التاريخ وبل من العديد من النصوص إن شئنا التأسيسية، سواء كانت الأنظمة الجمهورية أو التي تدّعي أنها جمهورية أو الأنظمة الملكية، أولاً كلّ هذه الأنظمة تحكم باسم الدين شئنا أم أبينا باستثناءات يمكن القول قليلة وقليلة جداً. هذه مسألة أساسية.<o:p></o:p>المسألة الثانية، أنّها في سلوكها السياسي بالنسبة للجمهورية برغم ادّعائها بأنها جمهورية لكنها في ممارساتها لا علاقة لها بالجمهورية، بل أن الأخطر من كل ذلك أنّ النخبة السياسية الحاكمة في إطار هذه الجمهوريات، أنّ أغلب من يحكم الآن قد درس في الغرب، وقد تشبّع بأفكار الليبرالية وأفكار الغرب ما بين قوسين الحداثية، ولكنّه في أثناء حكمه يلغي كلّ علاقةٍ له بهذا الفكر الغربيّ الديمقراطيّ، بل يرجع إلى مرجعيّةٍ أساسيةٍ هي المرجعية التي يستمدها من التراث العربي الإسلامي في شقّه الاستبدادي، من دون الحديث عن المملكات الأخرى التي تستند أولاً كما قلنا إلى الدين، وتمارس ممارسةً لا ديمقراطيةً بالمطلق. <o:p></o:p>هنا معنى الاستبداد ليس الاستبداد بالمعنى السياسي فقط، بل هناك بالمعنى الاجتماعي كذلك. إذا أخذنا مثلاً كمثال رؤية هذه الأنظمة للمرأة، فسنلاحظ أن نظرتها دونيّة ولا تعطي المرأة الحد الأدنى من حريتها كإنسانة، تعامُل هؤلاء مع الإنسان كإنسان أو مع بقيّة الطوائف الدينية، فسنجد أنّ هؤلاء يلغون التعدّدية، بل أنّهم بالتعدّدية ليس بالمفهوم السياسي، هذا بل التعدّدية الدينية التي من المفروض الاعتراف بها، وهذا الأمر كما قلنا ينطبق سواء عند الأنظمة التي تدّعي أنها جمهورية أو الملكية، حتى الجمهورية، إطارها هو يمكن أن يكون جمهورياً، حتى دستورها يمكن أن يكون ديمقراطياً، ولكن في ممارساتها نجدها تمارس الاستبداد السياسي، وكذلك الاستبداد بمنظورٍ اجتماعي وحتى من مناظير أخرى.<o:p></o:p><o:p> </o:p>يحيى أبو زكريا: أستاذ سامح عسكر، الاستبداد الجمهوري والاستبداد الملكي في عالمنا العربي كيف جيّر الثقافة الإسلامية، كيف جيّر الفقهاء، كيف سخّر الفتاوى لدعمه، لتحصينه، لتعزيز مواقعه هنا وهناك، وليس لإرشاده ودفعه نحو العدل والانفتاح على الأمة وإشراكها في صناعة القرار؟<o:p></o:p><o:p> </o:p>سامح عسكر: دكتور يحيى، المستبدّون في القرن الحادي والعشرين ليسوا كالمستبدين في القرن الأول والثاني الميلادي أو في القرن العاشر الميلادي، لكل زمن له استبداد بطبيعة خاصة وله مواصفات خاصة وأبعاد خاصة ووسائل خاصة وأدوات خاصة. بعد ظهور الدولة الحديثة وظهور السلطات والفصل بين السلطات والعقد الاجتماعي لروسو وتأصيل هذه الفلسفة، فلسفة العقد الاجتماعي بعد ذلك عصر التنوير وبعد ذلك في مجتمعات العرب، حدث انتقال، طبعاً نحن قلنا أن كل زمن له استبداده بطبيعة خاصة، المستبدون الآن لهم وسائل، من ضمن هذه الوسائل أنهم لا يخالفون طبيعة ما تعارفت عليه الدولة الحديثة بعد عصر التنوير. هذه الوسائل هي الخلط ما بين العدالة والمساواة وهذه نقطة مهمة جداً لا بدّ من أن ننتبه لها، هناك خلط ما بين العدالة والمساواة. أولاً العدالة ترتكز على الحقوق الطبيعية للفرد، الفرد له حقوق طبيعية كالمأكل والملبس والمشرب والعبادة والسلوك والحرية والرأي، كل هذه حريات طبيعية، حق للشخص وحق للفرد على مستواه الشخصي.<o:p></o:p><o:p> </o:p>يحيى أبو زكريا: أستاذ سامح، إذا سمحت، سؤال فقط ليس إلا. أستاذ سامح، استهللت أنت حديثك عن كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية، فكففتُ لساني. أشرت إلى جغرافيا لا علاقة لها بالعالم العربي والإسلامي، وأنا أتحدّث عن العالم العربي والإسلامي. ثمّ أشرت إلى جان جاك روسو صاحب العقد الاجتماعي وللأسف الغربيون هم الذين استفادوا من العقد الاجتماعي. في العالم العربي يوجد التعقيد الاجتماعي، التعقيد السياسي. لا يوجد عندنا عقد اجتماعي، لا يوجد عندنا دستور، الدستور يُداس عليه بالأقدام، لا توجد عندنا دول، عندنا شركات في خدمة رجال الحكم والسلطة. يجب أن نقول بكل صراحة لا توجد عندنا دول في العالم العربي، عندنا شركات، ربّ الشركة ورئيس الدولة ينفع أولاده، ينفع أقاربه، ينفع خالته، عمّته، جدّته، أبناء عشيرته، هذه الدولة العربية اليوم.<o:p></o:p><o:p> </o:p>سامح عسكر: يا سيّدي هم أثّروا علينا، مفهوم الدولة الحديثة الذي تم اختراعه في الغرب وتم تطبيقه ونجاحه في الغرب أثّر علينا بالتبعية بعد عصر الانفتاح، نحن تأثّرنا منه بالتبعية بعد عصر الانفتاح وبداية من القرن العشرين، تم إنشاء السلطات والفصل بين السلطات، هذا حادث وموثّق تاريخياً. نحن تأثّرنا بالحضارة الغربية عن غير عَمد، نحن تلقائياً نحن تأثّرنا بهم.<o:p></o:p>الفكرة التي كنت أتحدّث عنها أن المستبد حالياً حتى يوافق مفهومه الدولة الحديثة وكي لا يتعرّض للهجوم من المجتمع الغربي هو ينادي بفكرة المساواة، والمساواة يا سيّدي هي شعار تطبيقي لا يعترف بالحقوق الطبيعية للفرد. نحن مثلاً في مصر هل ينفع حالياً أن يخرج رئيس الجمهورية ويقول نحن نساوي ما بين المسلمين والمسيحيين؟ هل نحن حالياً اعترفنا بأن للمسيحي وضعية خاصة في المجتمع المصري؟ هل نحن اعترفنا أن الشيعي ليس له حقوق خاصة في المجتمع المصري؟ المجتمع المصري ضد فكرة أن يتولّى عليه مسيحي أو شيعي. هذا في كل الحكومات وفي الوزارات وفي المحافظات، على المستوى الإداري غير مسموح لأي مسيحي أو شيعي أن يمسك بالمجتمع المصري.<o:p></o:p>إذاً عندما تأتي لتتحدّث بالمساواة أنت لا تعترف بهذا الواقع، أصبح شعاراً، هو شعار المساواة هو شعار غير قابل للتطبيق. فما الحل؟ الحل هو فكرة العدالة، الحقوق الطبيعية. لو أنا مسيحي لكن كفء لمنصب ما، إذاً ما المانع أن أمسكه بغض النظر عن ديني؟ نحن لدينا يا سيّدي دول إفريقيا كدولة الغابون يحكمها رئيس مسلم، إنما دولة الغابون نفسها عدد المسلمين فيها حوالى 15 بالمئة، كذلك الحال في إفريقيا الوسطى، المسلمون هناك أقلية ومع ذلك الحاكم كان بفترة ما رئيساً مسلماً.<o:p></o:p>إذاً هذه الدول وصلت لفكرة العدالة قبل أن نصل إليها ولديهم تسامح ديني لا يوجد عندنا، والحاكم هناك إذا كان مستبداً فهو مستبد بطبيعة خاصة لا تخصّ الحقوق الطبيعية للفرد، أهم أمر حتى ننتقل إلى الحضارة أو التحضّر بمعنى عام، ولا يوجد استبداد، يجب أن نركّز على فكرة العدالة بمضمونها وبتعريفها الحقيقي، هي الحقوق الطبيعية للفرد.<o:p></o:p><o:p> </o:p>يحيى أبو زكريا: دكتور عبد اللطيف، أرجو أن تُعمِل معي النظر في معظم الدساتير العربية في الدول الملكية والجمهورية، بند أساس لعلّه الأول أو في المرتبة الثانية أو كنقطة ثالثة، ودستور الدولة الإسلام، مرجعية الدولة الإسلام، المآل للإسلام، حسب التعبيرات القانونية الدستورية.<o:p></o:p>هذا البند هو سلاح ذو حدين. جميلٌ جداً أن تكون الهوية الإسلامية هي وجه الدولة ونتمنّى من دولنا أن ترقى بالإسلام الحضاري الأصيل، لكن أن يكون هذا البند مطيّةً لحكّامنا حتى يعملوا السيف كما عُمِل به في العصر الأموي والعباسي، تلك لعمري ثالثة الأثافي دكتور عبد اللطيف.<o:p></o:p><o:p> </o:p>عبد اللطيف الحناشي: نعم، للأسف هذا هو السائد، ويوظّف الدين الإسلامي توظيفاً في غير جدوى الإنسانية والإنسان بشكلٍ عام، بل يسعى الحُكّام من خلاله للاستبداد ولقمع كلّ طموحات الشعوب، وللأسف كذلك لدينا مجتمعات متنوّعة من حيث القوميّة، ومن حيث الديانة، ومن حيث الطائفة، ولذلك فإنّ ما أشرتم إليه منذ البداية، قضية الدولة في العالم العربي وفي الوطن العربي وحتى في العالم الإسلامي، هي دولة هشّة، دولة غير مدنية في العمق، ولذلك ما يحكمها وكما تفضّلت هو عدم اندماجها، هي الدولة الحديثة كما تمت في الغرب بعد قرون من الصراع، تمكّنت من إيجاد إن شئنا مجتمعاً متكاملاً، مجتمعاً كما تفضّل زميلنا يعتمد المساواة والعدالة ويعترف بالآخر، بمعنى أنه يعترف بجميع مكوّناته الدينية والطائفية والقومية، ولا يمكن أن يستند إلى بعد آخر. <o:p></o:p>في العالم العربي الإسلامي يعتمدون الإسلام كمطيّةٍ لتحقيق أهدافٍ وغاياتٍ إما قبلية كما قلت، هذه الولاءات يسمّوها التحتية، أو لأهداف قبلية أو جهويةٍ أو دينيّةٍ أو طائفيّةٍ، وهذا يتنافى بالأصل مع الدولة الحديثة، أو مع الأسس التي تبنى عليها الدولة الحديثة، وهذا المُعطى قد استمرّ منذ العصور الإسلاميّة إلى الآن.<o:p></o:p>ولذلك، ما نشهده الآن في الكثير من الدول في المشرق العربي خاصةً من صراعاتٍ مُسقَطة ذات بُعدٍ طائفي أو بُعدٍ قومي إثني هي تعبّر عن عدم التكوين السليم لهذه الدول، كذلك تعبّر عن عدم قدرة هذه المجتمعات للحسم في قضايا كان من المفروض أن تحسم فيها منذ زمان، ولكن للأسف ونتيجة للاستبداد السياسي القائم، لم يُسمَح لتلك الشعوب بأن تخوض في قضايا فكريّة، وأن تحسمها، في وقتٍ بطبيعة الحال يساعد على بناء الدولة الحديثة كما هو في الغرب.<o:p></o:p>في الغرب الآن، لا نسمع صراعاً طائفياً بين طائفة وأخرى، ولا نسمع بصراعٍ كذلك قومي بين قوميةٍ وأخرى، لأن الدولة الحديثة قد بنيت على أسس صحيحة، والأسس الصحيحة هي  الديمقراطية، والديمقراطية هي الدولة العلمانية، العلمانية بالمعنى ليس اليعقوبي وإنما بالمعنى السليم، هي دولة مؤمنة ولكنّها لا تعطي الدين كعامل أو كمعطى أساسيّ للتمييز بين هذا المواطن وذاك المواطن، وهذا أمرٌ للأسف سائد في أغلب الدول العربية والإسلامية. الآن وبعد العام 2011 في تونس وخاصة بدستورها الجديد كمثال، وهذا مثال نادر الآن في العالم العربي، أنّ الفصل السادس الذي يقرّ بحرية الضمير وحرية المعتقد، وبرغم أنّ الفصل الأول يعترف بأنّ الجمهورية التونسية دينها الإسلام ولغتها العربية، ولكن في نفس الوقت يعترف بحرية الضمير ويعترف بالاختلاف سواء في الدين أو في الطائفة أو كذلك في القوميّة، وهذا معطى أساسي لبناء الدولة الديمقراطية.<o:p></o:p><o:p> </o:p>يحيى أبو زكريا: أستاذ سامح عسكر، أردت أن أجنّبكم التاريخ، لكن دعني أعود قليلاً إلى الحاكم الأموي أو العباسي، وكيف يصنع الأيديولوجيا إن صحّ التعبير، كان يجمع المؤرّخين، الفقهاء، المتكلّمين، المفسّرين، المحدّثين، المحدّث يضع له أحاديث على مقاسه، المفسّر يفسّر له آيات لتنطبق عليه، المؤرّخ يستنبط أحاديث من أقوال المصطفى في الطلقاء وما إلى ذلك، بل إن بعض الكتّاب يقولون له مثلاً أنت في الشام إذاً الشام ورد ذكرها في القرآن في أحاديث موسى وعيسى وما إلى ذلك، فيصنع ديباجة لهذا الحاكم الذي يقوى بهذه السلطات النصية، قال الله وقال الرسول، وهذا الارث الذي صنع الطاغية هو عينه الذي يستند إليه فقهاء اليوم في تمجيد الطاغية وفي السكوت عن فعاله وظلمه وبطشه وسرقته. <o:p></o:p>أنا أعجب، حاكم عربي يسرق مليار دولار على سبيل المثال، والفقير إذا تكلّم هذا الفقير يُقتَل لأنه أشكل على هذا الحاكم اللص. فكيف السبيل لإلغاء هذه الثقافة السلطانية، الآداب السلطانية التي صنعت لنا الطغاة في التاريخ، وبالمقابل نصنع ثقافة تنويرية لصناعة حاكم مثقف يتّقي الله ويعلن عن ثروته أمام الناس، أيها الناس هذه أموالي، لأنّ معظم الحكّام صاروا أغنياء بعد أن صاروا رؤساء للأسف الشديد؟<o:p></o:p><o:p> </o:p>سامح عسكر: علينا أن نرى ما هي العوامل التي أدّت إلى أن يكون هناك استبداد مطلق أو سكنت فيه الخليفة له سلطة مطلقة تقترب من درجة الألوهية في القرون الثلاثة الأولى، هذه الظروف هي كانت الانغلاق، المجتمعات في هذا التوقيت، في القرون الأولى والثانية والثالثة، ليس فقط مجتمعات العرب بل كانت موجودة حتى في مجتمعات أوروبا ومجتمعات الصين، كان الحاكم هو له سلطة مطلقة، يُعتبر إلهاً. إذاً التراث الذي صاغ العلاقة بين الحاكم والمحكوم في هذه الفترة هو تأثّر بوضعية الحاكم في هذا الزمن، ونحن باعتبار أننا نقدّس هذا التراث استوردنا هذه الفكرة واستوردنا هذا المفهوم عن الحاكم، حتى تمّ صوغه، صوغه في الأحاديث. نحن قلنا قبل قليل أن في الأحاديث الحاكم هو سلطان الله في الأرض وهو خليفة الله في الأرض ّوظل الله في الأرض. هذه الفكرة تمت بلورتها وتم صوغها في التراث الإسلامي والسنّي بالخصوص. نحن حتى نتجنّب نحن هذه الفكرة ونتجنّب هذا المنتوج السيّىء للعلاقة ما بين الحاكم والمحكوم في القرون الثلاثة الأولى لا بدّ من الانفتاح والسبب في شيوع هذه الرؤية.<o:p></o:p><o:p> </o:p>يحيى أبو زكريا: أستاذ سامح، عفواّ، حتى بعض الدول التي حُسِبت على مدارس إسلامية أخرى عرفت نفس المشكلة. بعض الحكّام في الدولة الصفوية كانوا ظلّ الله وكانوا أمر الله وكانوا نواب الإمام وما إلى ذلك. هذه بليّة ثقافية إسلامية، شملت الجميع للأسف الشديد.<o:p></o:p><o:p> </o:p>سامح عسكر: هذا الموضوع الحقيقة سأحيله للخلاف ما بين الإمامة في الفقه الشيعي وما بيني الخلافة في الفقه السنّي، ونحن باعتبارنا مجتمعات سنّية نحن تأثّرنا أكثر بالخلافة في الفقه السنّي، نحن 80 بالمئة مجتمع سنّي نحن تأثرنا بفكرة الخلافة.<o:p></o:p>هذه نقطة. النقطة الثانية، موجود في الفكر الشيعي شيء اسمه تمرّد على الوضع القائم، له جذور طبعاً من أيام ثورة الإمام الحسين في كربلاء، تستطيع أن تقول أنّ الفكر الشيعي بالعموم هو فكر معارض، فكر متمرّد، له شعور نزعوي تجاه معارضة الحاكم وهذا الموضوع أثّر طبعاً على حرية الإرادة، ونستطيع أن نقول أنّ الفكر الشيعي عامة هو قريب من الفكر المعتزلي من ناحية حرية الإرادة، بينما الفكر السنّي فكر جبري صرف وهذا هو الذي أثر على مفهوم الخلافة وعلى تشرّبنا هذا المفهوم بعد ذلك. ونستطيع أن نضرب مثلاً معاصراً. إيران مثلاً هذه الجمهورية الموصوفة بمجتمعات الغرب بالجمهورية الراديكالية الإسلامية. هل الحكم في إيران كالحكم مثلاً في المملكة العربية السعودية؟ أنا أتحدّث عن مسألة الحكم وليس السياسات، أما السياسات فنتّفق ونختلف عليها، كل دولة لها سياسات مقبولة وفيها سياسات مرفوضة إنما الحكم في إيران هناك ديمقراطية، حيث يُنتخب الرئيس وحتى المُرشد نفسه يُنتخب من مجلس الخبراء الذي يُنتخب بدوره من القاعدة الشعبية. <o:p></o:p><o:p> </o:p>يحيى أبو زكريا: أستاذ سامح، سوف أخصّص حلقة للنظم الإسلامية المعاصرة.<o:p></o:p><o:p> </o:p>سامح عسكر: إذاً هذه الديمقراطية أثرت على أكبر سلطة في البلاد وهي المُرشد العام للجمهورية وهذا غير موجود في المملكة العربية السعودية، هذا فارق، هذا الفارق تمّت بلورته في الخلاف ما بين الإمامة في الفقه الشيعي وما بين الخلافة في الفقه السنّي.<o:p></o:p><o:p> </o:p>يحيى أبو زكريا: أستاذ سامح، طبعاً سأخصّص حلقة للنظم الإسلامية المعاصرة. أرجو أن تبقى معي.<o:p></o:p>دكتور عبد اللطيف، سواء توافقنا، سواء اختلفنا، في موضوع الثورات العربية، طبعاً هناك من قال أنّها فوضى خلاّقة لكوندوليزا رايس وبرنار هنري ليفي، ومنهم من قال أنّ الشعوب المقهورة خرجت عن مظلوميتها، وأنتم في تونس تذكرون ما كان يلم بالشعب هناك. المهم لا أريد أن أناقش في جذور هذه الثورات، لكن رغم ما جرى فإنّ الحاكم العربي لم يتعلّم، فإن السلطان العربي لم يتعلّم. كان يفترض أن هذه الدماء والانهيارات وحركة القتل والتدمير الذاتي الممنهج تدفع أقلاً الحاكم العربي نحو الانفتاح، نحو إشراك الأمّة في صناعة القرار، نحو إقرار مبدأ التداول على السلطة، نحو سنّ تشريعات للخير، للتوزيع العادل للثروات، ما زال الحاكم العربي سبحان الله يزداد فساداً وطغياناً، لا التجربة الراهنة تعلّمه ولا التجربة التاريخية تعلّمه.<o:p></o:p>كيف نصنع حاكماً عربياً يتّقي الله في أمّته دكتور عبد اللطيف؟<o:p></o:p><o:p> </o:p>عبد اللطيف الحناشي: نعم، للأسف، لأن الحكّام العرب حتى لا نعمّم ولكن الأغلبية تكاد تكون مطلقة هم لا يملكون الإرادة ولا يملكون القرار السياسي، بل هم للأسف في غالبيتهم أداة من أدوات الأجنبي، هؤلاء ليسوا فقط أداة، ولكن فكرهم وسلوكهم يُملى عليهم، وجودهم ليس مستمَداً من الإرادة الشعبية، وإنما هو مفروض على الشعب بطرقٍ مختلفة، وهذا أمرٌ عرفناه على الأقل منذ بناء الدولة الحديثة، الدولة الحديثة التي بنيت على أسس غير متينة، ولذلك نحن نرى هشاشتها اليوم.<o:p></o:p>لذلك أنا أعتقد أنّ السبيل لإبعاد هذا النوع من الحُكّام، ووجود نوع آخر من الحكّام الذين يتفاعلون تفاعلاً إيجابياً مع طموحات شعوبهم، هو عن طريق الدولة المدنية، الدولة الديمقراطية، الدولة المدنية هنا التي لا تلغي الدين، لا بل الدين هو جزءٌ منها، الدولة المدنية التي تحترم كل الأديان وتحترم كل الطوائف وتحترم كل القوميات إن وُجِدت في داخلها، الدولة المدنية التي تعترف بحق المواطن، وهذا المواطن هو الذي ينتخب إرادته، من خلال إرادته ينتخب من يحكمه من على خلفية برنامجٍ واضحٍ، وهذا الحاكم بطبيعة الحال يجب أن يُنتخَب من القاعدة، وهذا أمر ليس من السهل، ولكن على الأقل ما حدث وما يحدث الآن بكل سلبيّاته، أنا أعتقد سيولّد أو سيساعد على توليد هذه الشخصية التي تتحدّث عنها.<o:p></o:p><o:p> </o:p>يحيى أبو زكريا: دكتور عبد اللطيف، أحسنت، أحسنت. رُبّ حاكمٍ رقّى أمّة، وربّ حاكمٍ دمّر أمة.<o:p></o:p>دكتور عبد اللطيف الحناشي من تونس الحبيبة شكراً جزيلاً لك، أمتعتنا.<o:p></o:p>الأستاذ سامح عسكر من مصر الحبيبة شكراً جزيلاً لك، أمتعتنا. <o:p></o:p>مشاهدينا وصلت حلقتنا إلى تمامها، والطغيان لم يصل إلى تمامه، ما زال مسترسلاً في عالمنا العربي.<o:p></o:p> هذا يحيى أبو زكريا يستودعكم الله الذي لا تضيع أبداً ودائعه.<o:p></o:p>