لبنان والفرنجة
ماذا فعل الفرنجة في لبنان وبرّ الشام خلال مئتي عام؟ واقع المنطقة في القرون الوسطى وحياتها الاجتماعية والعمرانية والثقافية.
نص الحلقة
<h1> </h1>
<p> <strong>غسان الشامي</strong>: مساء الخير.</p>
<p>لقد أُشبعت حروب الفرنجة واحتلالهم المشرق بحثاً وكلاماً وخلافات في الرؤى، وبقيت المراجع الغربية متقدّمة على نظيراتها العربية. بالطبع ليس هذا مقصدنا، بل نقصد الغوص في بحث أكاديمي رصين وموثّق ومحدّد عن لبنان في القرون الوسطى خلال احتلال الفرنجة بين 1099 و1291، موضوع كتاب الدكتور الياس القطّار الموسوعي. لبنان الذي بات ملجأ للأقلّيّات في ذلك الزمان المتقلّب والمَشرق المشلّع إمارات يحكمها سلاجقة وتركمان والفاطميون في مصر، فيما كان المسلمون متناحرين والمسيحيون أيضاً، ما أوصل الفرنجة إلى شواطئ برّ الشام وقضاء لبنان والمشرق نحو مئتي عام من التاريخ في صراعات دموية إضافية.</p>
<p>الدكتور القطّار ضيف عزيز للمرّة الثانية في "أجراس المشرق"، مع أمل بمرّة ثالثة لاستكمال قراءة تاريخ لبنان.</p>
<p>قبل الحوار، تقرير عن لبنان والفرنجة:</p>
<p> </p>
<h3>التقرير</h3>
<p> </p>
<p>صحيح أن حملات الفرنجة بدأت بالوصول إلى المشرق منذ عام 1097، ووصلت إلى عرقة وطرابلس عام 1099، لكنها أكملت طريقها باتّجاه القدس. وقد سقطت المدن اللبنانية تباعاً وأولها جبيل عام 1103، وعرقة وطرابلس عام 1109، ثم حلبة وأنفي والبترون حيث شكّلت كونتيّة طرابلس. وسقطت بيروت وصيدا عام 1110، وتبنين عام 1117، وصور عام 1124. وشكّلوا بارونيّات تابعة لمملكة القدس اللاتينية. وبقي البقاع خارج الاحتلال الفرنجي.</p>
<p>لم تتوقّف المحاولات لتحرير المدن اللبنانية والمشرق حتى نهاية الاحتلال الفرنجي عام 1291، بدأها نور الدين زنكي واستمرّت في العصر الأيّوبي. عاشت الجماعات المحلية المشكّلة من عناصر دينية متنوّعة في مشكلاتها العقائدية، وأغلبهم من المسلمين والمسيحيين. كما وصلت جاليات أوروبية من البندقية وجنوا وكتلونيا وبروفنس وغيرها وحلّت في المدن. وكانت العلاقات بين الطرفين في حدّها الواقعي. فقد تعرّف الفرنجة إلى العادات والأزياء والسجّاد ونقلوها معهم. واعتمد الاقتصاد على زراعة الحبوب والكرمة والبقول. وانتشرت صناعات حرفية كالزجاج والفخّار والبُسط والثريّات والحرير. واستعادت مرافئ مدن الساحل دورها في التصدير إلى مدن الغرب.</p>
<p>نشط الفرنجة في العمران الحربي، فبنوا الحصون والقلاع ومنها رأس الحصن قرب طرابلس وعرقة وعكّار والقليعات وحلبة وطرابلس والقلمون والمسيلحة وجبيل والمنيطرة والجيّة وصيدا والشقيف وتبنين وغيرها.</p>
<p> </p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: أهلاً بكم. أهلاً بك دكتور قطّار ضيفاً عزيزاً كما قلنا. نحن نستفيد من علمك.</p>
<p>الياس القطار: سلمت.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: ما هي حال لبنان قبل وصول الفرنجة، الحال اجتماعياً وسياسياً؟</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: أولاً، القسم الأكبر من لبنان خصوصاً المنطقة الساحلية كانت خاضعة رسمياً لسلطة الفاطميين. ولكن عملياً كانت لكلّ مدينة سلطة محلية مهيمنة على الأمور الداخلية فيها. هذه السلطات المحلية أهمّها هي سلطة إمارة بني عمّار التي كانت تمتدّ من نهر الكلب إلى طرابلس، ومركزها طرابلس، إلى قرب اللاذقية تقريباً؛ أي هذا الشريط الحدودي من نهر الكلب، كما ذكرت، إلى اللاذقية. هي كانت إمارة غنيّة ومهمّة. المدن الأخرى كبيروت وصيدا وصور أيضاً فيها سلطات محلية، ولكن ليست بقوّة سلطة بني عمّار. وهم العائلة الوحيدة التي تركّز عليها المصادر في الكلام على مجابهة الفرنجة عندما جاؤوا في أواخر القرن الحادي عشر إلى المشرق. هذا على الصعيد السياسي. على الصعيد الاجتماعي، لبنان كالعادة مجموعة من الجماعات الدينية. في كلّ منطقة تقريباً هناك جماعة مهيمنة. في شمال لبنان هناك جماعات مسيحية منها الموارنة والأورثوذكس والسريان والنساطرة. في الوسط، في العهد الفاطمي كثر الوجود الشيعي في الوسط. وفي الجنوب الوجود الشيعي. <br /> أيضاً الوجود الشيعي هو ليس شيعة واحدة؛ هناك الشيعة الإمامية، الشيعة الإسماعيلية، العلويون أو النصيريون كانوا في الشمال وليسوا موجودين هنا في هذه المنطقة. إذاً هذا الواقع تقريباً تقسيمات، كيانات اجتماعية تقريباً طائفية أو دينية متوزّعة في لبنان.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: كيف فُتحت المدن اللبنانية؟</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: المدن اللبنانية فُتحت بعد فتح القدس. كان الهدف الرئيسي للصليبيين الوصول إلى القدس. <br /> بعدما أخذوا واحتلّوا أنطاكية وأقاموا إمارة وأخذوا الرها وأقاموا كونتيّة في الرها مرّوا أمام طرابلس، مرّوا أمام الساحل اللبناني، ثم سقطت مدينة القدس. بعد سقوط مدينة القدس بدأ الفرنجة يفكّرون بتوسيع رقعة انتشارهم، وبدأ تقاسم النفوذ عند الفرنجة. المناطق اللبنانية، قسم منها خضع لمملكة القدس اللاتينية وقسم خضع لكونتيّة طرابلس التي سيؤسّسها ريمون دي سانجيل. البداية كانت مع ريمون دي سانجيل أحد قادة الفرنجة الذين حاصروا القدس. كل قائد أخذ منطقة له، أي منطقة كبيرة. كان يحلم بأن يكون ملكاً، لم تصادف الأمور لصالحه، ففكّر بإنشاء كونتيّة في طرابلس. وبدأت عملية إنشاء هذه الكونتيّة على مراحل. هو لم يحقّق الكونتيّة في حياته، بل ابنه هو الذي حقّقها. فبدأ بحصار مدينة طرابلس التي كانت بيد ابن عمّار. فأقام أو أنشأ أو بنى قلعة هي قلعة طرابلس لمحاصرة المدينة. طال الحصار فلم يتمكّن من أخذ المدينة مباشرةً. لذلك كانت محاولة أخرى لإقامة موقع قدم مهم له مستغلّاً وجود أحد الأساطيل الفرنجية، فاحتلّ جبيل. بدايةً احتلّ مدينة جبيل. بعد احتلال مدينة جبيل، تابع الحصار ولكنه توفّي قبل أن يكمل مشروعه، إلى أن جاء ابنه برترون نحو سنة 1109 فافتتح طرابلس وأنشأوا أول كونتيّة لهم ممتدّة على صالح إمارة بني عمّار أي من نهر الكلب إلى قرب اللاذقية في سوريا الحالية. أمّا القسم الباقي فاحتلّه الفرنجة بعد 1109: صيدا وبيروت. أمّا صور فبقيت حتى العام 1124 حين تمكّنوا من احتلالها. هذه المنطقة ضُمّت إلى مملكة القدس اللاتينية.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: نزل الفرنجة في عرقة سنة 1099، أي فور وصولهم إلى لبنان أول مكان نزلوا فيه هو عرقة. يذكر التاريخ أن المسيحيين استقبلوهم، وتحديداً الموارنة. هل كان الموارنة أدلّاء، بمعنى دليل للفرنجة في طريقهم إلى القدس؟</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: ينبغي تصحيح معلومة أساسية.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: هذه المعلومة يذكرها الدكتور كمال الصليبي.</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: ثمّة لبس حول الموضوع. عندما جاؤوا إلى عرقة حاولوا أخذ عرقة فلم يتمكّنوا. وصلوا أمام طرابلس. المصادر لا تتكلّم على الموارنة. الدويهي في مرحلة متأخّرة أي في القرن الثامن عشر يذكرهم بالإسم: الموارنة. أمّا المصادر الغربية فتسمّيهم السريان وليس الموارنة. عندما وصلوا أمام طرابلس نزل السريان إلى جوار طرابلس واستقبلوا الفرنجة. ولكن ماذا بإمكان الموارنة أن يقدّموا لجيش يضمّ... الجيش بحدّ ذاته هو 30 ألف مشاة وألفا فارس مع التوابع من البهائم التي في خدمتهم والنساء وشذّاذ الآفاق وكلّ الهاربين من أوروبا وآتين معهم؛ أي يمكن أن يصلوا إلى مئة ألف. الجبال اللبنانية ماذا بإمكانها أن تقدّم؟ لا شيء. في هذه الجرود ماذا لدينا؟ يقال إنهم أعطوهم زبيباً وجوزاً ولوزاً. هذا هل يكفي لتموين جيش بهذا الحجم؟ مَن قدّم المؤونة هو ابن عمّار، وهو الذي قدّم الدليل، دليلاً كهلاً. كان هناك دليل آخر جاء من قِبل السريان تابع مع هذا الجيش. <br /> ولكن التركيز كان من قِبل ابن عمّار على إيصالهم إلى القدس وليس من قِبل السريان أو الموارنة.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: نحن في محاولة لقراءة التاريخ بدقّة وموضوعية. السريان يمكن أن يكونوا على خلاف مع اللاتينيين الذين أتوا، كسريان لأنهم كانوا مونوفيزيت.</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: مَن من السريان؟ هناك نساطرة وهناك السريان الأورثوذكس.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: يذكرون أن البطريرك الجرجسي الماروني أرسل مطارنة للترحيب بهم في عرقة وإرسالهم أدلّاء.</p>
<p>الياس القطار: لا.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: هل هذه المعلومة دقيقة؟</p>
<p>الياس القطار: لا.</p>
<p>غسان الشامي: أبداً.</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: في البداية، عندما وصلوا إلى عرقة نزل الناس على البديهة وليس بصفة رسمية. هذا الاستقبال تمّ لاحقاً. بعد استقرار الأمور لصالح الفرنجة وبدأت محاولة الفرنجة التقرّب من المسيحيين والتقرّب من الكنيسة المارونية وتقريبها من الليتنة ومن الكنيسة، عندها نزل مطارنة إلى القاصد الرسولي واجتمعوا به. وقيل إن هذا القاصد الرسولي هو الذي أعاد الموارنة إلى حضن الكنيسة الكاثوليكية لأنهم كانوا يعتبرونهم خارج هذه الكنيسة.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: سنأتي إلى ذلك في الجزء الثاني.</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: الموضوع هو أن الحادثة مختلفة في الزمن.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: ما هو واقع حال لبنان في عهد نور الدين زنكي؟</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: في عهد نور الدين زنكي، الزنكيون كان كلّ هدفهم هو أخذ دمشق والسيطرة على دمشق وإقامة مركز القوّة في دمشق. لم يدخلوا إلى لبنان. كانوا يقومون بمحاولات اختراق عسكرية كما جرى في حصن المنيطرة أو غير ذلك. ولكن لم يتمكّنوا من الدخول إلى الداخل اللبناني حيث يسيطر الفرنجة. لاحقاً في عهد صلاح الدين تغيّرت الأمور.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: قبل صلاح الدين، ألم يأتِ إلى بعلبك نور الدين زنكي؟ قصّته مع زمرّد وزواجه من زمرّد.</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: بعلبك موضوع آخر. بعلبك وسهل البقاع لم يخضع مباشرةً للصليبيين. من حين وصولهم كان ثمّة تأرجح. هم يحاولون أن يسيطروا على البقاع، ثمّ أتابك دمشق يستردّون البقاع، إلى أن انتهوا بتوقيع نوع من اتّفاق يقضي بتقديم غلّة أو ضريبة أو أتاوة معيّنة من غلال سهل البقاع للفرنجة. ولكن لم يتمكّن الفرنجة خلال هذين القرنين، المئتي سنة كما ذكرت، من احتلال البقاع والسيطرة عليه.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: وفي عهد صلاح الدين، كيف كان لبنان؟</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: تغيّرت الأمور لأنه بعد معركة حطّين وانكفاء الوجود الفرنجي إلى صور، بقوا في صور لاحقاً، صلاح الدين سيطر على صيدا، سيطر على بيروت، سيطر على جبيل التي كانت تحت حكم الفرنجة. إذاً المنطقة هذه كلّها سيطر عليها صلاح الدين. سيطر على تبنين، سيطر على كلّ الحصون الجبلية في كلّ المنطقة. <br /> ولاحقاً بسبب ضعف ورثة صلاح الدين تمكّن الفرنجة تارة بالحرب وتارة بالرشوة من إرجاع المناطق اللبنانية إلى سيطرتهم حتى نهاية عهدهم في لبنان.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: كذلك الأمر كان في عهد الظاهر بيبرص وقلاوون والأشرف خليل.</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: الأمور تختلف. بدأ مع بيبرص احتلال بعض الأطراف اللبنانية، إلى أن أخذ قلاوون طرابلس. <br /> أخذ طرابلس أي قضى على كونتيّة طرابلس، إلى أن تمكّن ابنه الأشرف خليل من إجلاء أو القضاء نهائيا على كلّ الوجود الفرنجي على الساحل اللبناني، ولم يبقَ إلّا أرواد، ثمّ أخذ المسلمون لاحقاً أرواد.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: ما العلاقات التي نشأت بين الفرنجة وسكّان لبنان؟</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: العلاقات ليست علاقة واحدة. أولاً لنفصّل الأمور كما يجب. العلاقة بالموارنة كانت علاقة أحياناً ودّيّة وأحيانا صراع ورفض لهذا الوجود.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: العلاقة بشكل عام. سنأتي إلى بعض التفصيل. ولكن هل هؤلاء الفرنجة وجدوا حواضن ليقيموا معها علاقات في لبنان؟</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: ليس كما يجب لأنّ الفرنجة لم تكن لديهم كثافة سكّانيّة في القرى والمدن تسمح لهم بالتصرّف براحة. فكانوا يفضّلون البقاء في القلاع التي تحميهم. ولذلك أكثروا من القلاع لأنّ الوجود الكثيف للفرنجة قُضي عليه في إحدى الحملات: أتى مئتا ألف فلّاح، قبل أن يصلوا إلى المنطقة قُضي عليهم في برّ الأناضول. <br /> فعملية احتلال أو استعمار...</p>
<p>غسان الشامي: استيطان.</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: الاستيطان، لم تنجح لأنه قُضي على هؤلاء الفلّاحين. لم تعد لديهم قاعدة سكّانيّة فلجأوا إلى القلاع. أقاموا علاقات بالفلّاحين، وعادةً الفلّاح يستكين، ليس مثل التاجر، ليس مثل ابن المدينة يذهب إلى مكان آخر. الفلّاحون بقوا في أرضهم، علاقات بسيطة على قاعدة الهرم أي من تحت وليس على المستوى العالي من فوق.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: قلت إن أغلب الساحل فاطميون. هل نشأت علاقات بين الفاطميين وبقايا السلاجقة والفرنجة؟</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: أولاً، السلاجقة والفاطميون كانوا على درجة من الكره لبعضهم البعض.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: نعم، ولكن كان قسم يحبّ السلاجقة وقسم مع الفاطميين.</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: الساحل لم يكن مع السلاجقة. الداخل نعم، لأنّ الأتابك في دمشق هم تقريباً مسيطرون على سهل البقاع. وكان ثمّة تأرجح؛ كانت ثمّة محاولات عدّة للسلاجقة للوصول إلى مدن الساحل اللبنانية لم تثمر كما يجب. بقيت الهيمنة الفاطمية حتى 1124 حين أُقصي الفاطميون نهائيا عن لبنان.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: والعلاقة بين الفاطميين والفرنجة لم تكن موجودة.</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: لا. الفاطميون في مرحلة من المراحل، السلطة في مصر لأنها كانت في خطر مدّت يدها للفرنجة وحتى إنها طلبت مساعدة الفرنجة. ولكن عندما أرسل نور الدين شيركو إلى مصر قضى على هذه المحاولة للتقرّب من الفرنجة. هذه هي المحاولة الوحيدة، ربما الظروف أملتها على الفاطميين. الفاطميون قاوموا كما يجب. حاولوا أن يقاوموا بأسلوبهم ولكن لم ينجحوا في النهاية في مجابهة الفرنجة.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: وماذا عن الإسماعيليين والعلويين والدروز والشيعة؟ كيف كانت علاقتهم بالفرنجة في هذه الفترة؟</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: لم تكن علاقات عدائية.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: هل يمكن تفصيلها أكثر؟</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: أولاً، هؤلاء كلّهم كانوا، كما قلت، فلّاحين وأولاد قرى. تقبّلوا أن يدخلوا في النظام. في كل قرية رئيس. هذا الرئيس مربوط بالنظام "الفيودالي" الذي يسمّونه إقطاعيا هنا. هو ليس إقطاعيا. النظام "الفيودالي" الأوروبي الذي فرضه الفرنجة على المنطقة. في أسفل هذا النظام "الفيودالي" دخلت هذه الجماعات في هذا النظام سواء كانوا مسلمين شيعة على أنواعهم أو مسيحيين أيضاً في شمال لبنان. دخلوا في النظام. هم لم يرفضوا النظام.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: والإسماعيليون تحديداً، البعض يقول إنه كانت ثمّة عمليات، مرّة مع الفرنجة ومرّة ضد الفرنجة.</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: الإسماعيليون، الفريق الذي كان البعض يسمّيه حشّاشين أو الفدائيين، كانوا يقومون بعدّة عمليات، تارة يقومون بعمليات ضدّ الفرنجة وتارة ضدّ صلاح الدين. ولكن كانوا على علاقة جيّدة لدرجة أن ملك الفرنجة قام بزيارة القلاع الإسماعيلية في شمال سوريا، خصوصاً القلاع الإسماعيلية وكان سنان رئيس الفدائية. <br /> وأمامه قام سنان بتقديم عروض فدائية: أناس (يتقلون) أنفسهم باسمه. وخاف ملك الفرنجة ممّا رآه. معنى ذلك أنه كانت ثمّة علاقة. حتى في شمال سوريا القلاع الإسماعيلية، كما نقول في العربية الدارجة "قبّ لهم باط" الفرنجة حتى أخذوا هذه القلاع، وأيضاً "قبّوا لهم باط" حتى أخذوا في جنوب لبنان بعض القلاع.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: اسمح لنا بأن نذهب إلى فاصل.</p>
<p>أعزّائي، فاصل ونعود إلى الحوار مع الدكتور الياس القطّار حول ما ورد في كتابه الموسوعي عن لبنان في القرون الوسطى خلال احتلال الفرنجة. انتظرونا إذا أحببتم.</p>
<p> </p>
<h2>المحور الثاني</h2>
<p> </p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: تحية لكم من "أجراس المشرق".</p>
<p>دكتور الياس القطّار، سنأتي إلى الذي كنت تريد أن تتكلّم عليه في المحور الأول. موقع الموارنة خلال الاحتلال الفرنجي، وتحديداً محاولة ليتنة الموارنة، أو الموارنة ضمن الطابع اللاتيني للفرنجة.</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: بعد إقامة بطريركية القدس اللاتينية وتقريباً محاولة إلغاء البطريركية التي كانت قائمة في القدس، البطريركية الأورثوذكسية أو السريانية وإلى آخره، حصلت محاولة من قِبل الكنيسة الكاثوليكية أن يضمّوا الموارنة إلى الكنيسة اللاتينية خصوصا لأنّ الموارنة هم نسيج شرقي، لديهم عاداتهم، لديهم ليتورجية، لديهم طريقة ممارسة حتى القدّاس؛ كيف نفتتح القدّاس وننتهي وهكذا.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: طقسهم كان سريانياً.</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: كلّها عادات شرقية تتجانس مع كلّ الكنائس الشرقية ولا تتجانس مع ما يمارسه اللاتين. <br /> فاعتبروا أنّ هؤلاء خارجون عن الكنيسة الكاثوليكية مع أنّ الظروف قطعت ألّا يكون ثمّة اتّصال مباشر مع هذه الكنيسة: الظروف العسكرية والتاريخية والسياسية. فجرّبوا أن يُخضِعوهم، نوع من إخضاع للموارنة. <br /> هذا الإخضاع لم يلقَ أصداء جيدة لدى الموارنة. هم أساساً يقولون في مصادرهم إنه طوال عمرهم كانوا تابعين لسلطة البابا. الممارسة على الأرض كان فيها انقطاع. لمّا صارت هناك مجامع وصارت هناك محاولات لتوحيد المسيحيين، ذهبت وفود من الموارنة إلى روما وشاركوا في هذه المجامع وأجروا اتّصالات بهم. ولكن كانت ثمّة ردّة من قِبل الموارنة على محاولة فرض عادات وتقاليد ليست موجودة في صلب تاريخهم وفي صلب عاداتهم. هذا أدّى إلى رفض وأدّى إلى حساسية وأدّى أيضاً حتى إلى أنه مرّات عدّة شارك الموارنة إلى جانب المسلمين ضدّ كونت طرابلس. وانتقم الكونت، وقيل إنه لمّا حصل هجوم من دمشق على طرابلس وقُتل الكونت في طرابلس أنه كيف مرّوا في الشمال؟ كيف مرّوا في هذه القرى المارونية لو لم يكن هناك قبول أو تسامح لمرور هذه القوّات؟ فأرسل الكونت، ابن الكونت المغدور، قوّة إلى مركز البطريركية ودمّر مركز البطريركية وهرب البطريرك يومها من المعبد الأزرق فوق في يانوح إلى دير ميفوق وأقام في دير ميفوق. كان هناك صراع. <br /> حتى أيضاً في مراحل لاحقة، في الحروب بين الفرنجة خصوصاً المدن الإيطالية في هذه الحروب كانوا يشاركون المسلمين، ليس بكثافة لكن...</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: يقدّر الصوري عددهم بأربعين ألفاً.</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: العدد هذا الأربعون ألفاً صار مثل أسطورة. نقرأ الصوري أربعين ألفاً، ونقرأ كلّ الرحّالة الذين أتوا كأنهم لم يلدوا، فبقوا أربعين ألفاً.</p>
<p>غسان الشامي: لا أحد يعرف .... ولكن بماذا استفاد الموارنة من الفرنجة؟</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: أولاً استفادوا ثقافياً، تعلّموا لغات أوروبية، وانفتحوا على اللاهوت الأوروبي، على لاهوت الكنيسة الكاثوليكية، وصارت لدينا بعض الكتابات، بالتأكيد ليست كتابات أيديولوجية مهمّة لكن على مستوى لا بأس به باستيحاء الأفكار التي كانت مطروحة في اللاهوت الكاثوليكي اللاتيني. فثمّة انفتاح وثمّة تعلّم من هؤلاء وثمّة عادات أخذوها منهم. في مئتي سنة ليس فقط الموارنة، المسيحيون عموماً وحتى بعض المسلمين أخذوا وتشرّبوا عادات. ثمّة احتكاك دائم في الأكل وفي اللبس وفي الشرب وفي الكلام. فصار ثمّة نوع من تداخل بين كلّ الجماعات التي كانت موجودة في لبنان سواء تداخل فكري أو تداخل في العادات العادية الشعبية.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: ولكن لماذا يقول الكثير ممّن أرّخوا لتلك الحقبة إن الموارنة دفعوا الثمن بعد رحيل الفرنجة من قِبل مَن أتى بعدهم، وتحديداً المماليك؟</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: مَن دفع الثمن أكثر ليس الموارنة بل الشيعة دفعوا ثمناً. لماذا؟ مثلما قلت أنا، أعود وأركّز على نقطة أنه لمّا دخل الفرنجة إلى المدن واحتلّوا المدن رحل أهل المدن إلى الداخل. في المدن ماذا يوجد؟ الغني أخذ أمواله والعامل العادي الحرفي حمل حرفته وذهب إلى بعلبك أو إلى دمشق وإلى آخره. لكنّ الفلّاحين مهما كانت هويّتهم فقد بقوا في أرضهم. الفلّاح أين يذهب؟ أين يأخذ بقرته وعنزته؟ أين يأخذها؟ مَن يستقبله؟ فبقي في أرضه. خضعوا لهذه السلطة. فلذلك لاحقاً عندما حصلت محاولات لتحرير الأرض من الوجود الفرنجي، وعندما كان الجهاد بمفهومه الديني العسكري الإسلامي مطروحاً، طبيعي ألّا يشارك المسيحيون في الجهاد، لا يحقّ لهم أن يشاركوا أساساً. والجماعات الإسلامية غير السنّيّة لم تشارك أيضاً في الجهاد. فلذلك خُوّن هؤلاء، وخصوصاً أنه دائماً يأتي في مراحل معيّنة أئمّة متطرّفون يحملون سيف النقمة على كل مَن لا يشارك بآرائهم، فدفعت الثمن جماعات مسلمة وأيضاً الجماعات المسيحية ومنهم الموارنة.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: كيف تعامل الفرنجة مع النساطرة واليعاقبة؟</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: مع اليعاقبة، بطريرك اليعاقبة زار القدس، وكانوا على علاقات جيدة جداً بالسريان الأورثوذكس اليوم الذين كانوا يسمّونهم اليعاقبة مع الفرنجة. والنساطرة أيضاً كانوا على علاقة جيدة. والدليل على ذلك أنه في طرابلس، المدارس خصوصاً مدرسة الطب كانت بيد النساطرة في ظلّ الوجود الفرنجي، وابن العبري درس هناك أي المؤرّخ الشهير واللاهوتي والبطريرك الكبير درس هناك.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: غريغوريوس ابن العبري.</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: النساطرة كانوا أيضاً من ضمن التعامل الجيّد مع الفرنجة. أمّا الأورثوذكس فكانوا في تحفّظ، لا جيّد ولا سيّئ، بقوا على حياد في علاقتهم.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: قبل الأورثوذكس، هل في تلك الفترة تمورَن الكثير من السريان؟</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: لا أعتقد. ليس لديّ أي مؤشّر تاريخي يقول إنهم تمورَنوا. لا يوجد. أن نجتهد، يمكن أن نجتهد.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: من دون اجتهاد.</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: ولكن أنا أريد وثيقة، ليست لديّ وثيقة.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: بالوقائع والوثائق.</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: ليست لديّ. لكن كان السريان موجودين متغلغلين في المناطق المارونية. أُقصوا لاحقاً في القرن الخامس عشر. كانوا موجودين في بعض القرى المارونية، ولكن أُقصوا لاحقاً.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: مع الروم الأورثوذكس، جرّاء أن الروم الأورثوذكس، ومعناها المستقيمو الرأي، بقوا على عقيدتهم الدينية، وهي مغايرة تماماً لعقيدة الفرنجة.</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: بقوا كما كانوا. لم يفرض عليهم شيء الفرنجة باستثناء قضيّة بطريرك القدس أنهم انتزعوا بطريركية القدس واعتبروا أنفسهم أحقّ في أن يكونوا بطاركة القدس. باستثناء هذه الحال بقوا كما هم، لكن كما قلت لم يكونوا في حال عداء ولا في حال ودّ، أي على الحياد.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: والكلام على أن الفرنجة قتلوا من المسيحيين ابتداءً من أنطاكية وهم آتون؟ هل هو موثّق؟</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: لا، هم لم يقتلوا مسيحيين. الفرنجة قتلوا يهوداً. مسألة نضعها بين هلالين أنه كانت ثمّة قناعة أنه سنة 1000 هي نهاية العالم مثلما خرجوا لنا بنظرية الـ2000. دائماً البدع هذه. أنه يجب أن تنظَّف الأرض من اليهود. وهم آتون عملوا مجازر بحقّ اليهود في كل أوروبا الشرقية. ولمّا دخلوا إلى القدس، لم يفتكوا فقط بالمسلمين، بل فتكوا أيضاً باليهود. المذابح التي عملوا كانت بحقّ المسلمين وبحقّ اليهود. أمّا المسيحيون فلا.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: كيف يمكن رصد العلاقات الإسلامية المسيحية خلال الاحتلال الفرنجي للبنان؟ العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، أتيت عليها قليلاً في المحور الأول.</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: فلنفصل أمرين عن بعضهما البعض. العلاقة السياسية العسكرية كانت علاقة حربية عدائية، هجمات متبادلة. ولكن خلال قرنين ليس كل يوم وكل سنة وكل ساعة ثمّة حرب. أمّا بقية الأيام حين لا يكون ثمّة هجوم وقرار بهجوم معيّن، كانت ثمّة علاقات تجارية لأنّ القوافل كانت تذهب من المدن الساحلية اللبنانية إلى دمشق. فكل إنتاج، ما يأتي من أوروبا يدخل إلى كلّ الناس، وما يأتي من الشرق، وهذا الشرق هو شرق مسلم، فلدينا من العراق إلى دمشق إلى فلسطين إلى لبنان، ما ينتج هذا الشرق من حرير ومن أقمشة وهذا كلّه إنتاج مسلم، يأخذونه إلى أوروبا، وما يأتي من أوروبا أيضاً يدخل إلى السوق المحلية. فالعلاقة الاقتصادية كانت لا بأس بها وكانت موجودة. ليست ثمّة قطيعة. ليس كما اليوم، افترضنا أنّ ثمّة قطيعة لسلع معيّنة مثلاً من إسرائيل نقاطعها. لا، لم يكن هناك القرار هذا.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: واجتماعياً؟ يبدو دائماً أن التجارة تبرد المسنّنات.</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: تبرد المسنّنات. ومجبرون على أن يعملوا تجارة كلّهم لكي يعيشوا.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: اجتماعياً هل كانت هناك زيجات؟</p>
<p>الياس القطار: لا أعتقد.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: تعتقد أنها لا توجد.</p>
<p>الياس القطار: لا أعتقد.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: هل من آثار عمرانية للفرنجة في لبنان؟ أكثر ما يبدو عندنا هي العمارة الحربية.</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: لا، لدينا الكثير. أولاً، لدينا الكنائس التي بناها الفرنجة. في صور لا تزال الكنيسة الفرنجية، مداميكها الأولى موجودة في خرائب صور. في بيروت كانت غير كنيسة. الآن تغيّرت هويّتها. في جبيل، ومن جبيل وبعدها على الساحل ثمّة كنائس فرنجية. وفوق في القرى كانت ثمّة نهضة عمرانية مهمّة جداً: كنائس تبنّت النظام الهندسي الفرنجي في البناء، الكاتدرائيات، وكنائس محلية نعرفها.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: وحيدة السوق، صغيرة، كنائس قرى.</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: ولكن خلال هذه الفترة، في الشرق كلّه ليست لدينا تحف فنّيّة، رسوم جدارية إلّا من عهد الفرنجة، وثمّة فوق: "بحديدات"، معاد، قرى الشمال؛ "بحديدات" ومعاد لا تزال الصوَر فيهما غير مشوّهة. وفي وادي قاديشا، ندخل إلى وادي قاديشا هناك تراث فني للأسف لا أحد يعرف عنه شيئاً في لبنان. كل هذه الجداريات، هذه رُسمت في عهد الفرنجة.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: "الفريسكات".</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: نعم، الفريسك على الجدران في هذه الكنائس. ليس الفرنجة هم مَن رسمها، ولكن في ظلّ الفرنجة رُسمت. وأقفلوا عليها، لاحقاً المسيحيون صاروا يضعون عليها كلس لمّا بدأ بيبرص ثمّ قلاوون ثمّ بدأوا بغزواتهم، ليخفوا هذه الآثار الدينية لأنها تصوّر صوَراً من حياة السيّد المسيح ومن الكتاب المقدّس.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: أنت رصدت في الكتاب العمارة الحربية، ويبدو أن القلاع كثيرة في لبنان.</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: فوق العادة.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: وهذا أيضاً دليل على أنّ الفرنجة عاشوا فقط في القلاع؟</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: تقريباً كانوا يظلّون خائفين لأنه، مثلما قلت، لم يكن لهم نسيج من الفلّاحين منهم. حسب المناطق: بعض المناطق كان فيها نوع من سلم أهلي بينهم وبين الفرنجة، ومناطق أخرى في حالة حرب دائمة. <br /> ولكن الظاهر ليس فقط القلاع. تقريباً في أكثرية القرى لدينا أبراج: أبراج صغيرة، أبراج كبيرة، والقلاع الكبيرة الشهيرة سواء في تبنين أو الشقيف، الشقيف لأنها في جزّين هناك، أو مغارة نيحا أو طرابلس التي لاحقاً أدخل عليها المماليك تغييرات، أو قلعة جبيل، واضحة قلعة جبيل بشكل واضح جداً للعيان.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: رصدت أيضاً الأحوال الاجتماعية خلال هذه الفترة: وضع الناس اجتماعياً، كيف؟</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: الفرنجة شيء والسكّان المحليون شيء آخر. السكان المحليون يعيشون كما هم في الريف، حياة ريفية بدائية. أمّا الفرنجة، ففي المرحلة الأولى كانوا متشدّدين وحياة تقشّف وحياة حرب. في المرحلة اللاحقة، على ما يبدو من المصادر الغربية أنهم صاروا يُتّهَمون بالانحلال الأخلاقي والفسق وشيء من هذا النوع. أي لدينا مرحلتان: المرحلة الأولى هي المرحلة الحربية والفتوحات، والمرحلة الثانية لمّا استقرّوا واستراحوا في وضعهم فتغيّر نمط حياتهم.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: أي الثراء أدّى إلى انحلال أخلاقي؟</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: بالتأكيد. عادةً الثراء يؤدّي إلى ذلك.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: نعم. ولم تحصل زيجات بين الفرنجة و... الحياة الاجتماعية، هناك عسكري محتلّ ولكن عليه أن يتعاطى مع الآخرين. ألم تحصل هذه المصاهرات مع الناس نهائياً؟</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: المصادر لا تتكلّم على ذلك. ليس لديّ مؤشّر بمصدر يقول إنه حصلت زيجات. ربما في المناطق المسيحية حصل اختلاط وزيجات، ولكن في المناطق الإسلامية أشكّ في أن تكون ثمّة زيجات.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: وهذه العائلات ذات الأسماء الفرنجية في لبنان، هي مَن بقي هنا؟</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: ليس فقط العائلات. ثمّة قرى في لبنان فيها من بقايا الفرنجة. لدينا عائلات كبيرة مثل عائلة دوغيز: كونت دوغيز، موجودة بلدوين، إلى آخره. في طرابلس توجد هذه العائلات.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: شرمند.</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: شمبور، يقال إنها نسبة إلى قصر شمبور أو تسمية أخرى، لا أعرف. ولكن الأهم من هذا أنه لمّا انتهى الوجود، لمّا الأشرف خليل قضى نهائياً على الوجود الفرنجي، الفرنجة الذين كانوا موجودين لديهم خياران: يهربون، إلى أين؟ مقفل عليهم: إمّا يموتون أو يختارون الدين القائم. في المناطق حيث الوجود المسيحي هربوا إلى فوق إلى تلك القرى العالية، ويقال إنّ لدينا في إهدن بعض العائلات من أصول فرنجية، تحمل أسماء فرنجية. مَن هم في جنوب لبنان، لدينا أشكال، ألوان، عيون، السحنة،</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: تحوّلوا إلى شيعة.</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: هؤلاء اختاروا أن يعتنقوا الدين القائم خصوصاً الدين الشيعي. لذلك ثمّة قرى ليست لها علاقة بالعرق العربي، فلا هو عرق فارسي ولا هو عرق عربي، فكأنه عرق أجنبي. تبنّوا الدين القائم وعاشوا هناك. مَن أتى قبل مئتي سنة إلى أين يرجع؟ لم يعد له شيء هناك. فالأفضل أن يبقى هنا ويعتنق الديانة الموجودة أو المذهب الموجود.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: وماذا عن الثقافة والأدب في هذه الفترة؟ مئتا سنة، النتاج الثقافي.</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: ليس لدينا نتاج مهم في الفترة هذه. في التاريخ الإسلامي لدينا كتبة حوليّات، ليس لدينا إنتاج فكري مهم لأنه ليس قليلاً مئتا سنة حرب، الناس رؤوسهم تشتغل بالحرب. الأوروبيون استفادوا أكثر منّا. <br /> الأوروبيون انفتحوا على الثقافة العربية وتعلّموا لغة عربية واقتبسوا من كتب القانون وكتب الفلسفة وكتب الطب. فكل ما يمكن أن يقتبسوا منه أخذوه وكتبوه باللاتينية. الأوروبيون ثقافياً استفادوا أكثر ممّا نحن استفدنا.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: أنت تقول في خاتمة كتابك إن الفرنجة خرجوا منكسرين عسكرياً ومنتصرين سياسياً. وعكس هذا حصل للمسلمين. هل هذا ما تقصد؟</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: نعم، نعم. هذه ظاهرة أحبّ أن أركّز عليها قليلاً. صحيح أنهم انتصروا عليهم عسكرياً وأُقصي نهائياً الفرنجة من هنا، ولكن ماذا كان يحصل؟ الدويلات الإيطالية التي كانت قائمة بالتجارة، الدويلات الإيطالية تجلب من أوروبا حديداً وخشباً الذين ليس لدينا منهما، وتأخذ من هنا إنتاج الشرق كلّه. اغتنت المدن الإيطالية خصوصاً البندقية وجنوا، والأخرى كذلك لكن ليس بدرجة هاتين المدينتين. صار ثمّة رأسمال تجاري ضخم. عادةً المدن لمّا تكثر فيها الأموال، لأنها ذهاباً وإيّاباً تجلب الأساطيل حجّاجا وتجلب بضاعة وتأخذ بضاعة، فتكدّست الأموال في أوروبا. بينما عندنا لم يتكدّس شيء هنا. نحن في حالة حرب فقط. لمّا تتكدّس الأموال في أوروبا ماذا يحصل؟ الغني يفكّر في أن يبني بيتاً جميلاً. حين يبني بيتاً جميلاً سيقتبس من أين؟ من الثقافة التي لم تكن موجودة عنده في القرون الوسطى. يقتبس من الحضارة الرومانية والحضارة اليونانية: الفيلّا الرومانية. <br /> في هذا البيت صار يحتاج إلى مَن يعزف له موسيقى، يحتاج إلى مَن يرسم له، يحتاج إلى مَن ينحت له. في مسألة أن نجلب خشباً ونجلب حديداً، كانت أوروبا في القرون الوسطى تقريباً مليئة بالغابات. صارت ثمّة حركة نسمّيها .... ... تقطع الأخشاب لتبيعها. حين تقطع الأخشاب لتبيعها أي فتحت ممرّات. الممرّ صار أنه حيث تقطع تزرع، فيزيد الإنتاج. هذا الإنتاج إلى أين ذهب؟ إلى الأسواق. أي ثمّة دورة اقتصادية طويلة عريضة عادت وعاشت في أوروبا عبر الأسواق. والأسواق في المدن أيضاً الحكّام يشجّعون هذه الأسواق. إذاً ثمّة عملية عودة إلى الماضي المجيد، الماضي الروماني أو اليوناني في أوروبا. بالتدريج، أخذتهم قرناً: هم رحلوا في القرن الثالث عشر، في الرابع عشر، في الخامس عشر لدينا ...... أي قمّة النهضة في إيطاليا، أي الفنّانون.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: فنّانو عصر النهضة.</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: بناء الفاتيكان، ميكيلانج، كل هؤلاء في الـ....... لكن ثمّة 300 سنة من التراكم الحضاري الذي انتشر من إيطاليا إلى أوروبا. بينما في الشرق ماذا حصل عندنا؟ أولاً اقتصادياً كان ثمّة تدمير اقتصادي، مالية الدولة مالية فقيرة، ليست ثمّة أموال لأن كلها حروب حروب حروب حروب. ليس ثمّة إنتاج لأنّ الحرب أيضاً لا تترك الزراعة موجودة ولا إنتاج صناعي كما يجب. افتقر الشرق مادياً فافتقر ثقافياً. اغتنى الغرب مادياً</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: ولا يزال.</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: ولا يزال. لكن المشكلة أن أولئك ساروا إلى الأمام ونحن سرنا جيّداً إلى الوراء ولم نسِر جيّداً إلى الأمام.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: بما تبقّى لديّ من وقت، أريد منك توصيفاً لواقع المدن الساحلية اللبنانية خلال المئتي عام. <br /> يبدو أنّ أكثر مدينة أخذت وهجاً هي طرابلس.</p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: هي طرابلس.</p>
<p><strong>غسان الشامي: لنبدأ بطرابلس، واقعها.</strong></p>
<p><strong>الياس القطار</strong>: طرابلس أولاً كانت فيها مكتبة من أيام بني عمّار لأنّ ابن عمّار حاول أن ينافس المكتبة الموجودة في القاهرة، واقتنى كتباً وكان مقصداً للشعراء مثل كلّ الأمراء الذين كانوا قبلاً. فلمّا جاء الفرنجة، قيل إنهم أحرقوا المكتبة. لا أعتقد أنهم أحرقوا المكتبة لأنّ هذه المخطوطات ذهبت إلى أوروبا، موجودة في مكتبات أوروبا. إذاً لم تحترق المكتبة. استفادوا هم من هذه الكتب واستفادوا عبر الذين ذكرناهم، النساطرة واليعاقبة، فكان فيها جامعة تخرّج في الطب، تخرّج في العلوم، تخرّج في الفكر، تخرّج في الفلسفة. فطرابلس بقيت مستمرّة كلّ الفترة الفرنجية كظاهرة ثقافية. المدن الأخرى: بيروت لم يكن فيها شيء مهم. صيدا ليس فيها. صور بالعكس؛ <br /> لمّا سقطت القدس إلى أين انتقل مركز الثقل الملكي؟ انتقل إلى مكانين: إلى صور وإلى عكّا. فازدهرت صور وأخذت صور رواجاً مهمّاً طوال هذين القرنين إلى أن سقطت نهائياً.</p>
<p><strong>غسان الشامي</strong>: أشكرك.</p>
<p>أعزّائي، الأصولية المسيحية العمياء كانت أحد أسباب مآسي أوروبا وأحد أسباب حروب الفرنجة ومآسيها في بلادنا. والأصولية التكفيرية الإسلامية في بلادنا الآن سبب أساس في دمار مجتمعاتنا وما بقي من حاضرنا. <br /> هل نتّعظ؟</p>
<p>شكراً للدكتور الياس القطّار على إضاءاته في "أجراس المشرق"، وللزملاء في البرنامج وقناة الميادين الذين يقرعون معي هذه الأجراس، ولكل مَن تابعنا.</p>
<p>وسلام عليكم وسلام لكم.</p>
<p> </p>