4000 سنة من الموسيقى في المشرق - الجزء الأول
موسيقى المشرق في أربعة آلاف عام... موسيقى سومر وبابل وكنعان وآرام ، وأوَّل نوته موسيقية في أوغاريت.. الموسيقى في المسيحية وتبدياتها السريانية والبيزنطية وفي العهدين الأموي والعباسي وعلاقتها بفارس..
نص الحلقة
المحور الأول:
غسان الشامي: مساء الخير، موسيقى المشرق منذ فجر التاريخ المدوّن، يا لهذا المشروع المتعلق بالروح المتعلقة بدروها بالأعالي والسموّ، بالإيمان والفرح والحزن. منذ أن كشف صمويل كريمر في كتابه "ألواح سومر" عن الموسيقى وآلاتها ثم عن عاداتها وتقاليدها في عصر حمورابي وصولاً إلى اكتشاف أول نوتا موسيقية على رقيمٍ أثري في اوغاريت عام 1959 والاستماع إليها لأول مرة عبر أستاذ الفيزياء اللاذقي راوول فيتالي عام 1979 واذلي فك رموزها مع الباحث زياد عجّان وصولاً إلى تقميشها على يد الدكتور نداء أبو مراد وما تفرّعت به وتفرّع عن موسيقى المشرق جنوباً وشرقاً وغرباً وشمالاً من خلال مقاماتها ومن ثم تطويره فيها، كل هذا يجعلنا نرفع أيدينا بالتحية إلى الروّاد والمحدثين ومنهم الدكتور أبو مراد الذي سنتابع معه في حلقتين "مشوار الروح الموسيقية المشرقية" نعرّفكم به.
تقرير:
وُلد البروفيسور نداء أبو مراد في تونس عام 1959 عندما كان والده الدكتور مفيد أبو مراد يدرّس هناك، تخرّج طبيباً من فرنسا لكنه آثر علم الموسيقى ونال فيه شهادة الدكتوراه.
أبو مراد مؤلف موسيقي وعازف كمان بحسب النهج التقليدي التأويلي العربي الذي تسلمه عن فوزي سايب الذي وُلد عام 1929 وتوفي عام 2009، وله عشرون قرصاً مدمجاً ومشاركات في مهرجانات موسيقية دولية، وهو أيضاً باحث أكاديمي له كتاب تأسيسي لنظرية "السيمياء المقامية" وهي كناية عن نحو توليدي موسيقي للتقاليد المقامية المشرقية، منحه عليها المجلس الوطني للبحوث العلمية جائزة التميز العلمي عام 2017 في مجال العلوم المعرفية المتعددة الاختصاصات، وله ثلاثون دراسة في موسوعات ودوريات علمية محكّمة دولية وفك رموز مدونات موسيقية قديمة وإحياء تراثها الموسيقي من أوغاريت إلى العصر العباسي وصولاً إلى عصر النهضة، وآخر إنجاز موسيقي له هو "أربعة آلاف سنة من الموسيقى في المشرق".
يتولى أبو مراد عدة مسؤوليات جامعية فهو نائب رئيس الجامعة الأنطونية للشؤون الأكاديمية والبحث العلمي وعميد كلية الموسيقى وعلم الموسيقى في الجامعة الأنطونية ومدير مركز البحث في التقاليد الموسيقية ورئيس تحرير مجلة التقاليد الموسيقية، وكذلك قائد تخت الجامعة الأنطونية للموسيقى الفصحى العربية.
والدته السيدة إسبيرنس رزق وهو متأهل من البروفيسورة فيفيان نعيمة ولها ابنة اسمها سيسيل.
غسان الشامي: أهلاً بكم في أجراس المشرق، تحياتي لك دكتور أبو مراد، شكراً لك على استضافتنا.
نداء أبو مراد: أهلاً وسهلاً.
غسان الشامي: أبدأ معك بكلمة تحبها هي "لسان المشرق الموسيقي"، محبتك لهذا التعبير تجعلني أسألك من أين يبدأ لسان المشرق الموسيقي؟
نداء أبو مراد: أظن أن لسان المشرق الموسيقي هو لسان أساسي ترعرع في هذه الأرض أرض المشرق، الهلال الخصيب، بلاد الشام، بلاد ما بين النهرين، هذا اللسان المقامي النزعة الأحادي هو موجود بأشكال متعددة خارج هذا النطاق إنما الأساس هو هنا وقد استمر عبر آلاف السنوات والشواهد الأولى عليه هي في بابل وفي الكتابات حول دوزان الآلات بخاصة اللير أي القيثارة، والشاهد الأساسي كتدوين موسيقي هو في أوغاريت 1500 سنة قبل الميلاد كما تفضلت وتحدثت عن ذلك في المقدمة. هناك لحن أساسي مدوّن وُجد عام 1959 لنشيد حوري باللغة الحورية أو باللسان الحوري وهو موجود على هذه المدونة أو هذا النقش الذي سنراه، لكن هذا اللسان ترعرع هنا واستمر وكما في اللغة الكلامية هناك نظرية تقول أن هناك اللغة والألسن والهجات والكلام. في الموسيقى يمكنني أن أتكلم بالطريقة عينها، هناك اللغة ككفاية بشرية مشتركة، كل البشر لديهم هذه الكفاية لكي يتواصلوا عبر أصوات منظمة أو منتظمة، وهناك أنظمة متعددة في العالم وهي ثلاثة أنظمة أساسية في الموسيقى أو ألسن هي اللسان المشرقي المقامي الأحادي الذي توجد إرهاصات عنه بدءاً من الهند ووصولاً إلى المغرب العربي وأوروبا في العصر الوسيط كان نفس النظام الموسيقي حياً حول البحر المتوسط. هناك لسان آخر هو اللسان الخماسي الموجود في الصين وفي أفريقيا وفي أميرانديا، واللسان الثالث هو اللسان التونالي الذي اشتُق عن اللسان المشرقي وهو الأساسي في أوروبا وفي الغرب.
غسان الشامي: أنا سأذهب معك إلى سومر، صمويل نوح كريمر في كتابه ألواح سومر يتحدث عن قصائد، أغاني، نشيد، إشادات بالمغامرات، بطولات الملك، ملاحم، هل بدأت الموسيقى ملَكية؟
نداء أبو مراد: الموسيقى هي ملازمة للإنسان، الإنسان هو حيوان ناطق وأيضاً هو حيوان متموثق، لا نستطيع أن نقول أن هناك موسيقى بدأت في بلاط معين إنما بدأت مع الإنسان، في دماغ الإنسان هناك كفايتين للتواصل كفاية كلامية وكفاية موسيقية، هذه وُجدت مع الإنسان في أول وعيه بالتاريخ واستخدمها للتواصل والتعبير واستخدمها في الطقوس الدينية والطقوس البشرية الاجتماعية المتعددة وصولاً إلى الحضارات الأولى الموجودة في أرضنا هذه وأيضاً وصولاً إلى البلاط، وهناك أنساق أساسية موسيقية، نسق قد يكون مرتبطاً ببيئة زراعية يسميها نيتشه "نسق ذيونيسي"، وهناك نسق مرتبط بالثقافات الرعوية وهو أبوليني، وأنا قد بلورت نسقاً ثالثاً هو نسق ابراهيمي، وكل هذه الأنساق هي موجودة في الموسيقات المتعددة في المشرق وفي البحر المتوسط بما في ذلك في البلاط في بلاط بابل أو في بلاطات أخرى.
غسان الشامي: سنعود إلى بلاط بابل ولفتني هذا في الموسيقى الملكية ولكن إلى جانبها أيضاً في الفصل الثالث والعشرين من ألواح سومر هناك قصيدة حب تقول "أيها العريس الحبيب إلى قلبي جمالك باهر حلوى الشهد"، هذا يدلّل على أن هناك جزءاً شعبياً في الروح. أريد أن أسألك ما هي الآلات التي استُخدمت في ذلك العصر للتعبير عن الموسيقى دكتور أبو مراد؟
نداء أبو مراد: الآلة الأساسية بالمطلق هي الحنجرة البشرية، الترنيم، الغناء، الإنشاد. الآلات الأخرى التي استُخدمت خاصة في بلاد ما بين النهرين فالآلة الأساسية كانت اللير أو القيثارة وكانت هناك أيضاً مجموعة من "الجنوك" أو "الهارب"، وهناك أيضاً بعض الآلات من صنف العود مع زند طويل.
غسان الشامي: يعني يشابه البُزُق؟
نداء أبو مراد: نوعاً ما.
غسان الشامي: الطنبور.
نداء أبو مراد: الطنبور نعم، وهناك أيضاً آلات قرعية متعددة وهناك آلات نفخية ومنها المزامير أو المجوز، وهذه الآلات حسب استخدامها ترتبط بهذا النسق أو بنسق آخر مثلاً الآلات الوترية المصنوعة من أمعاء والقصعة للّير فيها رمزية حيوانية كبيرة يعني هناك قرن ثور وأمعاء، اللير مصنوعة من الحيوان وهي رمزية حيوانية لها علاقة بالرعاة في الأساس، هذه الثقافة الأبولينية وهي تقترن بإنشاد القصائد وترافق إنشاد القصائد وقد استمر ذلك عند اليونان، والنسق الأبوليني مرتبط باللير وبإنشاد القصائد بينما المجوز الموجود أيضاً عند اليونان "الأولوس" هو نباتي ومأخوذ من القصب وهو مقترن أكثر بالثقافة الريفية الزراعية ولا غناء معه إنما هو أساسي للرقص ولطقوس النشوة، الدبكة مثلاً هي طقس إخصابي ذكوري يخصب الأرض الأم وهي طقوسية مقترنة بالفصول. إذاً هناك نسق ذيونيسي أو تموزي، قبل ذيونيسوس هناك هذا النسق من الأبطال الآلهة الذين يُقتلون ثم يستعيدون الحياة وهو نسق أساسي لكل هذه الطقوس المسارّة القديمة التي كانت تبحث عن التماهي بين الإنسان وهذا البطل الإلهي، التماهي معه أو الاتحاد معه وهذه هي الأديان الخلاصية.
غسان الشامي: أنت ذكرت النسق الثالث وهو النسق الابراهيمي، العالم ليونارد دورلي في كتابه "تاريخ العالم" يقول أن الموسيقى من شعائر أرباب بابل ومن واجبات الملك البابلي الاعتناء بأناشيد المعابد، هل في ذلك العصر تحولت الموسقى إلى موسيقى دينية وما اقتران ذلك بالنسق الابراهيمي الذي يعبّر عن ابراهيم الخليل كما قلت بمعناه الديني؟
نداء أبو مراد: الموسيقى هي دينية في الأساس لأن الإنسان هو حيوان ديني ناطق ومتموثق، الكفاية الكلامية والكفاية الموسيقية والكفاية الدينية، أظن أن الإنسان هو هكذا إنما الأديان تأخذ أشكال متعددة وفي الدين الواحد هناك أنساق، هذه الأنساق الثلاث التي نتحدث عنها الابراهيمي والسرّاني بدلاً من أن نتكلم عن الذيونيسي والصوفي الأبوليني أو الإنشادي الأبوليني، هذه الأنساق الثلاث موجودة إنما بنسب متفاوتة في كل دين وفي كل الشعائر. في بابل الاقتران باللير أو القيثارة هو نسق إنشادي أكثر منه ذيونيسي أو سرّاني. الابراهيمي يتبلور، ابراهيم الخليل هذا النبي الذي نشأ في بوتقة بلاد ما بين النهرين وحمل معه هذا السعي إلى الإله الواحد، هذا التوحيد موجود في حضارة بابل بالتأكيد وهذا التوق إلى الإله المتعالي تدريجياً الذي يخلق الكون من العدم وليس من كيان موجود سابقاً كما هي الحال في الأديان الوثنية. هذا النسق اقترن تدريجياً بترنيم النثر، ترنيم الآيات النثرية الموجودة في التوراة وفي الإنجيل، قراءة النصوص، الأسفار وأيضاً الإنجيل والقرآن الكريم، هذا هو النسق الابراهيمي المرتكز على ترتيل أو ترنيم الآيات وهو مختلف عن النسقين الآخرين إنما يتكامل معهما وكأنما هناك ثالوث نسقي جمالي موسيقي. النسق الابراهيمي وكأنما هو إذا أخذنا النموذج الثالوثي المسيحي هو نسق آبي أو نسق الآب. هناك السنق المقترن بالسرّانية وبهذا الإله الإنسان الذي يموت ثم يُبعث حياً وهو النسق الإبني، وهناك النسق الثالث المقترن بالإنشاد وبالحضور الإلهي في الكون وهو نسق الروح القدس.
غسان الشامي: سيدي سنذهب إلى الموسيقى الكنعانية ومنها النوتة التي ظهرت والتي سنسمعها في أوغاريت على الساحل السوري، ما ميزة هذه النوتة؟ هل لها بنيان فكري مثلاً أم أنها جزء مما كان يقوم به الشعب؟
نداء أبو مراد: الموسيقى متلازمة مع الإنسان وهي موجودة في الطقوس. الموسيقى الأوغاريتية أو الأناشيد الحورية هي أناشيد طقسية، وهذا النشيد السادس الذي لدينا كل مقوماته ويمكن أداؤه من أوله إلى آخره هو القطعة الوحيدة الموجودة بكاملها، هو نوع من الابتهال من امرأة أو كاهنة ربما إلى الألوهة بهدف الخصوبة أي امرأة عاقر تود أن أن تصبح أماً.
غسان الشامي: هل هي زوجة إله القمر؟
نداء أبو مراد: ليس بالضرورة. هذا ابتهال جميل وهو منقوش بالحرف المسماري باللسان الحوري وموجود في هذه الحضارة الأوغاريتية.
غسان الشامي: سنسمعه.
(مقطع موسيقي)
غسان الشامي: كما قلت في المقدمة دكتور أبو مراد أن جورج فيتالي قدم النوتة عام 1979 وهو أستاذ فيزياء مع الباحث زياد عجّان بعد فك ألغازها، ما الفرق بين ما قدمته أنت وما قُدّم؟
نداء أبو مراد: هناك اجتهادات عديدة في فك الرموز الموسيقية عبر التاريخ، لدينا الإرث الأولي وهو الأوغاريتي ثم اليوناني ثم الكنسي ثم العباسي ومشتقات متعددة. الاجتهادات متعددة إنما الاجتهاد الأخير هو الذي وضعه البروفيسور ريتشارد دمبريل زميلنا البريطاني وهو كبير المتخصصين في الموسيقولوجيا للمشرق، ووجد منهجية جديدة لمقاربة ذلك على أساس أن هناك صيغ لحنية هابطة وهي إشارات لحركات موسيقية وهي التي أقنعتني أكثر. اطلعت على ما وضعه الأستاذ راوول فيتالي وإنما الصيغة التي اقترحها ريتشارد دمبريل هي المقنعة أكثر وعملت معه على أن نؤديها على أساس السلّم الزلزلي، السلّم الموسيقي المشرقي الأساسي.
غسان الشامي: أوضح لنا ما هو الزلزلي.
نداء أبو مراد: الزلزلي هو السلّم المقترن بمسافات الثانية المتوسطة الذي هو السلّم الأساسي لهذه الأرض. اللسان الموسيقي المشرقي هو زلزلي ومَن هو زلزل سنتكلم عنه لاحقاً.
غسان الشامي: هل من علاقة بين موسيقى الشاعر الإغريقي يوربيديس وموسيقى المشرق القديم؟ الناس كانت تقول بأن الموسيقى ظهرت عند الإغريق وفي الحقيقة لا ولكن هل من علاقة بين ما سُمع عند الإغريق وبين ما سُمع في المشرق؟
نداء أبو مراد: العلاقة واضحة، الإغريق هم ورثة هذه الحضارة وهذا معروف في كل الأطر مثلاً الفكرة الفيثاغورية الأساسية حول أنظمة دوزان الآلات والقانون وفكرتها عن التآلف السماوي هي مأخوذة عن نظام الدوزان البابلي بدون أي شك واللير موجود في هذه الأرض وقد أخذها الإغريق عنها، وهذان النسقان الذيونيسي والأبوليني أو الدوموزي أو التمّوزي أو الآدوني والأوزوريسي إلى آخره ومن ثم أُخذت إلى اليونان. اليونان لهم فضل في وضع نظام فسلفي، في الكتابة عن مجالات متعددة إنما على صعيد التنظير الموسيقي والموسيقى بحد ذاتها فهم ورثة بابل وكنعان.
غسان الشامي: إسمح لي أن أذهب إلى فاصل، أعزائي فاصل ثم عودوا لمتابعتنا في هذا الحوار عن موسيقى المشرق في أربعة آلاف عام مع الدكتور نداء أبو مراد.
المحور الثاني:
غسان الشامي: أهلاً بكم في أجراس المشرق، دكتور نداء أبو مراد هل من علاقة بين موسيقى المشرق وفارس؟ هل من تأثّر وتأثير؟
نداء أبو مراد: بالتأكيد هناك تأثّر وتأثير، التقاليد الموسيقية بهذه الأنساق المتعددة نبعت من هذا المشرق في بلاد ما بين النهرين والشام وبلاد فارس أخذت أساساً من هذه المنطقة وثم أعادت في مرحلة تالية، في الزمن الثاني كان هناك ازدهار كبير للموسيقى المشرقية الفارسية. هناك فرع فارسي للموسيقى المشرقية حتى ولو لم تكن جغرافياً بهذه الطريقة المثبتة إنما بالتأكيد الحضور الساساني في بلاد ما بين النهرين في تلك الآونة أخذ شكلاً موسيقياً في سبع مقامات معروفة في هذا الإطار، كان يتكلم عن هذه الأفازات والآلات الموجودة مثل "البربط" وغيرها من الآلات ترعرت في هذه البوتقة وهناك تكامل وليس هناك من فواصل حقيقية سوى أنه في الكلام المحكي أو المستخدم في الشعر أو في الطقوس الدينية هناك ألسن متعددة، اللسان الفارسي مختلف عن الألسن الآرامية والعربية وغيرها من الألسن السامية.
غسان الشامي: هل تفضّل أن نسمع شجريان؟
نداء أبو مراد: لمَ لا، هو يمثل التقليد الحالي ولا وجود للموسيقى الساسانية اليوم.
غسان الشامي: سأذهب دكتور أبو مراد إلى الديانة المسيحية، كيف استخدمت الموسيقى؟
نداء أبو مراد: التقليد الترنيمي الكنسي الأول مأخوذ من مصدرين أساسيين، المصدر الأساسي الأول هو موسيقى المجمع أو الترنيم المجمعي العبري الذي ترعرت في إطاره الكنيسة في القدس، وأيضاً الترانيم أو التقاليد الترنيمية الأخرى في البوتقة الكنعانية ولا فارق جوهري موسيقياً بين المجمع والتقاليد الترنيمية أو الإنشادية المتعددة في هذه البوتقة.
غسان الشامي: المجمعية العبرية هل هي كنعانية؟
نداء أبو مراد: هي مرتبطة بالسان المشرق الموسيقي، العبريون هم أولاد هذه المنطقة وهم شعبة صغيرة من هذه المنطقة، وفي الأطر الكنسية إن كان في العقيدة أو اللاهوت أو في الليتورجيا هناك شبك ونسج بين أنساق متعددة مأخوذة من إرث أو من تقاليد متعددة مأخوذة من هذه التقاليد المتعددة الثقافية من المشرق ومن اليونان وغيرها من المصادر وفي الموسيقى المسألة عينها. هناك الترنيم الأولي الآرامي ثم السرياني واليوناني أو في القبطية والأرمنية ثم اللاتينية، كل هذه الترانيم مصدرها هذه الأرض واللسان مشرقي. الترنيم الغريغوري هو ترنيم مشرقي وليس غربي ولكنه وُجد في بوتقة، علينا أن نتحدث أنه في مرحلة أولى حدثت قصة أساسية حول مار أفرام السرياني ثم هناك حدث أساسي حول القديس يوحنا الدمشقي.
غسان الشامي: سنبدأ بالموسيقى السريانية، السريان ورثة الآراميين واللغة والثقافة الآرامية استطاعت أن تأكل المنطقة المشرقية وصولاً إلى فارس وأحياناً إلى الهند طيلة 1400 عام، ما هي مندرجات وصفات الموسيقى السريانية قبل أن نبدأ بمار أفرام، هل مار أفرام هو الأساس أم أن الموسيقى السريانية كانت قبله؟
نداء أبو مراد: الترنيم السرياني موجود وهو مرتبط بلسان المشرق الموسيقي، هذا اللسان الأساسي الذي يأخذ أشكال لهجات متعددة، هناك لهجة موسيقية وليس لهجة كلامية، هي تقليد "أ" أو تقليد "ب" وكلهم لهجات موسيقية. هناك لهجة موسيقية خاصة بالسريان وتأخذ شكلها لاربتاطها باللسان الكلامي، اللسان الموسيقي يتحول إلى لهجة موسيقية بارتباطه أو باقترانه باللسان الكلامي السرياني الآرامي المنبع، وهذه الألحان هي ألحان موجودة حتى اليوم في الأطر الشعبية الريفية الترنيمية أو الإنشادية الموجودة في كل هذه المنطقة. ماذا فعل مار أفرام في القرن الرابع، لكي يبث العقيدة المستقيمة الرأي في تلك الحقبة في وجه بعض البدع التي كانت موجودة استخدم الألحان الشعبية المستخدمة في بوتقة السريانية ووضع عليها كلاماً تعليمياً لاهوتياً بما يسمى "المداريش".
غسان الشامي: ما هي مميزات أعمال مار أفرام؟ كانوا يلقبونه بكنّارة الروح القدس والكنّارة هي آلة موسيقية، ما ميزة أعمال أو ما هي فارقية أعمال مار أفرام السرياني في السياق العام للموسيقى المشرقية؟
نداء أبو مراد: مار أفرام السرياني هو لاهوتي كبير ومعلم كبير، لديه تعليم أساسي في الكنيسة المشتركة المشرقية إن كان في فرعها السرياني أو في فرعها اليوناني لأن هناك شق يوناني معروف وبيزنطي وتُرنّم تعاليمه الكنيسة في الكنائس المتعددة. هو شاعر صوفي روحاني لاهوتي هائل وقد وجد أنه من المفيد أن نستخدم بعض الألحان الشعبية المستخدمة في تلك الحقبة ليرنّمها ولكي يتمكن الناس والشعب المصلّي أن يرنّم هذه الأناشيد، هذه الأناشيد موجودة حتى اليوم بطرق أو بصيغ متعددة في الكنائس الناطقة بالسريانية وبخاصة السريانية الأرثوذكسية والمارونية وهي معروفة ومدروسة.
غسان الشامي: إسمح لنا أن نسمع من مار أفرام. دكتور أبو مراد القسم الثاني من الموسيقى المشرقية هي الموسيقى البيزنطية ولكن قبل ذلك لنتكلم عن القديس يوحنا الدمشقي.
نداء أبو مراد: وقبل القديس رومانوس المرنّم.
غسان الشامي: لنقل ماذا قدما لهذه الموسيقى؟
نداء أبو مراد: هما من هذا المشرق، رومانوس المرنّم من بيروت كان يخدم في مار جريوس بيروت والقديس يوحنّا الدمشقي كان ابن وزير الدولة الأموية آل سرجون وكان اسمه منصور وكان وزيراً في مطلع حياته وسئم من هذه الدنيا وترهّب وذهب إلى دير مار سابا بجوار القدس وهو لاهوتي كبير.
غسان الشامي: لكن الميزة الموسيقية لما قدمه؟
نداء أبو مراد: لقد بلور ما يسمى بالنظام الثماني المقامي.
غسان الشامي: المقامات الثمانية كنسية أم شعبية؟
نداء أبو مراد: كنسية إنما مستمدة من لسان المشرق الموسيقي، هي نوع من صيغة تنظيمية لهذه المقامات التي كانت موجودة.
غسان الشامي: يعني اللحن الأول واللحن الثاني.
نداء أبو مراد: نعم أو المقام الأول والمقام الثاني، المقام الثالث والرابع هما المقامين الرئيسيين ويتفرع من كل واحد فيهما فرع آخر، ونظام ال"الأوكتو إيخوس" أي المقامات الثمانية، وُجد هذا التنظيم لأناشيد معروفة بتسمية القانون وأيضاً قبل ذلك القنداق الذي أوجده القديس رومانوس المرنّم، وهذه الأناشيد انتظمت وانطلاقاً من هذه البوتقة حول دير مار سابا في القدس وانطلاقاً من الشام، هذه الطريقة من تنظيم المقامات استخدمته كنائس أخرى أولاً السريانية الأورثوذكسية، ثانياً السلافونية، ثالثاً القبطية، ومسألة أساسية الترنيم اللاتيني استخدم هذا ال"الأوكتو إيخوس" وجلبه الإمبراطور شارلمان إلى بلاطه في إكس لا شابيل أو آخن وهناك وُضع ما سمي فيما بعد الترنيم الغريغوري على أساس هذه المقامات الثمانية. أود أن أشير إلى أن التقليد الموسيقي العربي البلاطي الأموي ثم العباسي تولد من هذه البوتقة.
غسان الشامي: هذا ما سأسألك عنه، سقطت الدولة البيزنطية وجاء العرب إلى الشام، كيف تم التلاقي انطلاقاً من العصر الأموي بين الموسيقى التي كانت سائدة في المشرق ومَن جاء من شبه الجزية العربية؟
نداء أبو مراد: هنا أيضاً مسألة التلاقح بين اللهجات المنتمية إلى اللسان الواحد، في الجزيرة العربية كان هناك اللسان المشرقي مشترك مع الجزيرة العربية، مع الساسان، مع الأقباط وصولاً إلى شمال أفريقيا والمغرب وأوروبا كلها كانت في هذا اللسان الأساسي. إذاً العرب كان لديهم لهجة موسيقية محددة منتمية إلى اللسان الموسيقي المشرقي الأحادي المقامي.
غسان الشامي: ابن مسجح مثلاً؟
نداء أبو مراد: ابن مسجح هو أحد الموسيقيين الأساسيين الذين وفدوا من الحجاز إلى الشام ثم إلى بلاد ما بين النهرين والإطار الساساني، وهناك نص جميل جداً في كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني يتكلم عن هذه التجربة أو هذه الرحلة الفريدة التي على أساسها وعلى منوالها الموسيقيون العرب ترعرعوا على أساس هذه التجربة. ماذا فعل ابن مسجح، أتى إلى بلاد الشام ويقول الأصفهاني حرفياً أنه أخذ عن الروم ضرب البربط وهو نوع من أنواع العود وهو العود الأساسي، العود الذي نعرفه بعد فترة أسسه منصور زلزل على أساس الرابط بين البربط الفارسي الرومي والمزهر العربي. أخذ ابن مسجح ألحان الروم أي الألحان الكنسية وتحديداً الأوسوتوخوسي أي الأوكتو إيخوس المقامات الثمانية الكنسية. أبو فرج الأصفهاني يقول أن ابن مسجح أخذ المقامات الكنسية الثمانية واعتمدها ثم رحل إلى ساسان ما بين النهرين في الإطار الساساني وأخذ هناك نغمات وضروب وطريقة للعزف وأخذ ما يناسب الوجدان العربي أو المذاق العربي وترك ما لا يناسبه، إذاً كوّن نوعاً من التوفيق بين لهجات متعددة، هناك تهجين وضعه وهذا التهجين هو أساس الموسيقى البلاطية الأموية ثم الموسيقى البلاطية العباسية.
غسان الشامي: لكن أيضاً في كتاب الأغاني وهو كتاب من أواخر القرن العاشر. هناك ثبت لكل أنواع الموسيقى والآلات والمغنيين، إذا أخذنا أسماء مغنيين عرب معبد، الغريض، جميلة، علام اعتمد هؤلاء المغنّون مقامياً في غنائهم في الموسيقى العربية؟
نداء أبو مراد: على تلاقح بين الغناء الحجازي والمقامات الكنسية الثمانية وهذا أجزمه، وماذا حصل في تلك الحقبة، هناك مدرسة أساسية في الإطار العباسي. أود أن أذكر شيئاً كتاب الأغاني يتحدث عن القديس يوحنا الدمشقي بتسميته منصور ابن سرجون ومن المرجح أن ابن مسجح التقى بالقديس قبل أن يذهب إلى مار سابا وتعلّم عن مثيله المقامات الثمانية. نرى في مرحلة لاحقة بعد ثلاثين أو أربعين سنة مدرسة تتكوّن في بغداد هي وليدة ابراهيم الموصلي.
غسان الشامي: في هذه المدرسة العباسية هل تجد ذروة الموسيقى في المشرق العربي هنا؟ كيف بدأ السياق؟ أحد الخلفاء كان من الممكن أن يصبح خليفة وترك الخلافة وهو ابراهيم ابن المهدي، ما هو الأثر الموسيقي الذي تركته الفترة العباسية مقامياً، لحنياً، موسيقياً، تواصلياً مع العالم؟
نداء أبو مراد: على شكل الحضارة العباسية، لنقل الحضارة العربية المشرقية العباسية هي نوع من التوفيق بين مسارات متعددة، ثقافات متعددة، عرف العرب كيف يوفّقون وكيف يتم المزج بذكاء وبذوق بين روافد متعددة وأن يضعوا ذلك في سياق حضاري رفيع وفي الموسيقى الأمر نفسه إنما الموسيقى العباسية ليست وليدة مكان الحداء في الحجاز فقط وليست وليدة ترنيم الشعر كما كان يتعاطى به شعر المعلّقات، لاي مكن أن نحجّم ذلك ولا يمكن أيضاً أن نقول أن التقليد العباسي هو فقط فارسي أو رومي أو سرياني، إنه تهجين بين هذه المنطلقات. أود أن أقول أن هناك ملاحظة أساسية، المقامات التي اعتمد عيلها الموسيقيون في البلاط العباسي، المدرسة الأساسية هي مدرسة ابراهيم الموصلي وابنه إسحاق وخال إسحاق وهو منصور زلزل، هذه المدرسة اعتمدت على نظام الأصابع والمجاري على العود. لا نريد أن ندخل في التقنيات إنما هناك أربعة بأربعة مقامات وكأنما هي الأوكتو إيخوس أو الأوستوخوسية تطبيق للمقامات الكنسية الثمانية على زند العود بطريقة التطويع، وما فعله منصور زلزل أنه وضع دستان العرب أو وسطى العرب وسمّي فيما بعد ب"دستان زلزل" إنما هو يؤكد أو يحاكي هذه المسافات الأساسية في السلّم الذي نطلق عليه الآن تسمية السلّم الزلزلي وهو نوع من الأبجدية النغمية الأساسية للسان المشرق الموسيقي.
غسان الشامي: تكونت في العصر العباسي؟
نداء أبو مراد: تكونت قبل ذلك في أوغاريت.
غسان الشامي: ولكنها عُجنت بين يدي ابراهيم الموصلي.
نداء أبو مراد: طُوّعت في إطار عربي كما طوّعه الحوريون والأوغاريتيون في إطار أوغاريتي وحوري وكما طوّعه العبريون أو طوّعته الكنيسة، هذا اللسان مع أبجديته وتركيبته النحوية والصرفية هو لسان واحد إنما لهجات متعددة. هناك لهجة عباسية تولدت من روافد متعددة وعلينا أن نعتزّ أن هنالك لسان مشرقي واحد مع تفرعات متعددة والعصر العباسي أعطانا ذروة من هذا التلاقح بين شيء ما أتى من الحجاز مع اللسان العربي الكلامي مع لسان موسيقي عربي، وتزاوج مع الألحان الكنسية بشقيها السرياني والهلّيني ومع الفارسي الساساني ونما تقليد هائل هو التقليد العباسي.
غسان الشامي: سأنهي هذه الحلقة الأولى معك ببعض الكلام ثم بعزف من الفترة العباسية. أعزائي تقول أنشودة "زوجة إله القمر" المسماة "نيكال" يف لهجتها ولغتها الحزينة قبل 3400 عام وكأن الحزن هو اللاصقة الدهرية لقلب إنساننا. سأرمي على قدمي عرشك المقدس خاتم رصاص، سوف أتطهر وأتغيّر من الخطيئة، قلبي مطمئن بعد أن أوفيت نذري، ونحن سنوفي نذرنا بمتابعة كشف موسيقى المشرق في حلقة ثانية شاكرين للدكتور نداء أبو مراد كما أشكر زملائي في الميادين الذين يقرعون معي أجراس المشرق وأشكركم أنّى كنتم قائلاً سلامٌ عليكم وسلامٌ لكم ومعكم الدكتور نداء أبو مراد.