الإستشراف والمستقبليات في الفكر الإسلامي

يعد علم الإستشراف من أهم العلوم التي تعتمد عليه الدول الراغبة في بناء حضارة و نهضة و تنمية و تخضع مسارها لتخطيط رياضي محكم يأخذ في الحسبان كل الإحتمالات و الإمكانات في الصعد كافة, و قوام الإستشراف مجموعة الدراسات والبحوث التي تكشف عن مشكلات محتملة في المستقبل، وتتنبأ بالأولويات التي يمكن أن تحددها, وهو خاضع لإجتهاد عقلي وعلمي وعبقرية دقيقة قادرة على رؤية القادم من الأيام أو السنوات... وللدراسات المستقبلية معاني ومرادفات عدة منها: علم المستقبل، وبحوث المستقبليات، ودراسات البصيرة، وبحث السياسات، والتنبؤ التخطيطي، والتحركات المستقبلية، والمنظور والمأمول المستقبلي، والتنبؤ المشروط المستقبلية ...إن الأمة التي لا تمتلك خريطة واضحة المعالم والتضاريس لهذا العالم سريعِ التغير والتحول والصيرورة والتي لا تمتلك بوصلة وخارطة لتحديد مسارها الصحيح هي أمة تُعرِّض مستقبلها لأخطار كبيرة.. إن علم المستقبليات والإستشراف ليس غريباً على الثقافة الإسلامية؛ فقـد كتب ابن خلدون عن (علم العمران) وذكر من فوائده: (يعرِّفنا بما هو واقع ومنتظَر)؛ فالذي يتقن هذا العلم برأي ابن خلدون يمكن له أن يستشرف. فهذا نوح عليه السلام أمضى ألف سنة إلا 50 عاماً يدعو قومه، وحين رأى بحكمته ونفاذ بصيرته أن لا فائدة تُرجى منهم دعا على قومه قائلاً: {إنَّكَ إن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} .

نص الحلقة

<p>&nbsp;</p> <p><strong>يحيى أبو زكريا:</strong> حياكم الله وبياكم وجعل الجنة مثواكم.</p> <p>يُعَدّ عِلم الاستشراف من أهمّ العلوم التي تعتمد عليها الدول الراغبة في بناء حضارة ونهضة وتنمية وتُخضِع مسارها لتخطيطٍ رياضي مُحكَم يأخذ في الحسبان كلّ الاحتمالات والإمكانات في الصعد كافة.</p> <p>وقوام الاستشراف مجموعة الدراسات والبحوث التي تكشف عن مشكلاتٍ محتملة في المستقبل، وتتنبّأ بالأولويات التي يمكن أن تحدّدها، وهو خاضعٌ لاجتهادٍ عقلي وعلمي وعبقريّةٍ دقيقةٍ قادرة على رؤية القادم من الأيام أو السنوات.</p> <p>وللدراسات المستقبلية معانٍ ومرادفات عدّة منها عِلم المستقبل، بحوث المستقبليات، دراسات البصيرة، بحث السياسات، التنبّؤ التخطيطي، التحرّكات المستقبلية، المنظور والمأمول المستقبلي، التنبّؤ المشروط المستقبلي.</p> <p>عندما سُئل أينشتاين عن سرّ اهتمامه بالمستقبل، ردّ قائلاً، ببساطةٍ لأننا سنعيش بقية عمرنا هناك.</p> <p>وعلى الرغم من أن القرآن الكريم يحثّ على ضرورة الذهاب بعيداً في الغيب والآفاق وقراءة المستقبل، إلا أن المسلمين سكنوا في كهف التاريخ وأبوا أن يغادروه. فالفقه ماضوي والأصول ماضوية والتفسير ماضوي والخطب المنبرية ماضوية والمواعظ ماضوية وكل نقاشاتنا ماضوية. وقد أعدنا إنتاج كل مساوئ التاريخ وتبنيناها عن بكرة أبيها.</p> <p>لقد ربط العقل المسلم عِلم المستقبليات بالغيب، واحتسب هذا العِلم من صلاحيات الله تعالى فنأى بنفسه عن الغوص في الاستشراف، والأصحّ أنّ استشراف المستقبل لا يعني عِلم الغيب بتاتاً، فقد أثبت تاريخ الدراسات المستقبلية أنها لا تصيب دائماً، ولا تخطئ دائماً، فهي ليست علوماً دقيقة أو رياضيات.</p> <p>في العام 1970، نشر المنشقّ السوفياتي أندريه أمالريك كتابه المشهور "هل سيبقى الإتحاد السوفياتي حتى العام 1984"، وتوقّع فيه أن ينهار الاتحاد السوفياتي عام 1984، وبنى توقّعاته بعد تحليل الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وشبكة علاقات الاتحاد السوفياتي الدولية، خاصة مع الصين والولايات المتحدة الأميركية.</p> <p>إنّ الأمّة التي لا تمتلك خارطة واضحة المعالم والتضاريس لهذا العالم سريع التغيّر والتحوّل والصيرورة، والتي لا تمتلك بوصلة وخارطة لتحديد مسارها الصحيح، هي أمّةٌ تعرّض مستقبلها لأخطارٍ كبيرة.</p> <p>إنّ عِلم المستقبليات والاستشراف ليس غريباً على الثقافة الإسلاميّة، فقد كتب إبن خلدون عن عِلم العمران، وذكر من فوائده كما قال، يعرّفنا بما هو واقعٌ ومنتظَرُ، فالذي يتقن هذا العِلم برأي إبن خلدون يمكن له أن يستشرف المستقبل.</p> <p>وهذا نبيّ الله نوح عليه السلام أمضى 1000 سنة إلا خمسين عاماً، يدعو قومه، وحين رأى بحكمته ونفاذ بصيرته ألا فائدة تُرجى منهم، دعا على قومه قائلاً "إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً".</p> <p>الاستشراف والمستقبليات في الفكر الإسلامي عنوان برنامج أ ل م. ويشاركنا في النقاش من الجزائر الحبيبة المفكّر الجزائري أستاذ عِلم الاقتصاد في الجامعة الجزائرية ومعظم الجامعات الدكتور بشير مصيطفى، ومن مصر الحبيبة الدكتور محمّد رضا عضو المنتدى لحوار الأديان والثقافات وحقوق الإنسان.</p> <p>مشاهدينا مرحباً بكم جميعاً.</p> <p>&nbsp;</p> <p><strong>كتاب "الإسلام والمستقبل" للدكتور محمّد عمارة:</strong></p> <p>يرى الدكتور عمارة أنّ التاريخ يُعَدّ عِلماً من علوم المستقبل وليس مجرّد قصص لتزجية الفراغ والاستمتاع، حيث أنه إذا كان ما نملكه من اختيارات ومواريث يعين على الخلق والإبداع بالشكل الذي يدعم النهضة الحضارية، كان الربط بين تراثنا ودراساتنا المستقبلية مطلباً قومياً وضرورة من ضرورات النهضة وشرطاً من شروطها.</p> <p>أيضاً في التاريخ العبراني القديم، كانت توجد سلطة الأنبياء والقضاة والملوك، ووُضّح ذلك في العهد القديم، كما وُضّح في تطبيقات العبرانيين حينما اقتنصوا من الدهر فتراتٍ قليلة أقاموا فيها لهم دولة وكياناً سياسياً.</p> <p>&nbsp;</p> <p><strong>يحيى أبو زكريا:</strong> دكتور بشير، عِلم المستقبليات اليوم أصبح عِلماً خطيراً توليه الدول اهتمامات كبيرة، عواصم الغرب أسّست معاهد لهذا العِلم، أكثر من 3000 مركز موزّعة في العواصم الغربية لقراءة المستقبل، بين قوسين فترولوجي.</p> <p>لماذا قصّر المسلمون في هذا العِلم؟ وأين هذا العِلم في مناطات التخطيط في عواصم القرار العربي؟</p> <p>&nbsp;</p> <p><strong>بشير مصيطفى:</strong> بسم الله الرحمن الرحيم. أولاً عِلم المستقبليات الثيوتورولوجي والاستشراف future making، الأول هو عِلم قائم بذاته، والثاني فنٌ تطبيقيّ ولكن يلتقيان في شيء واحد وهو المستقبل محل تحقيق ومحل اصطياد الإشارات ومحل تكوين السياسات للمستقبل.</p> <p>إذاً من خلال هذا التعريف، نكتشف بأنه تعريفٌ علميّ قائم على قواعد استراتيجية، وهو حديث النشأة، إنّه يعود إلى العام 1945 في الولايات المتحدة الأميركية، وازدهر مباشرةً بعد الحرب العالميّة الثانية إلى غاية الستينات في أميركا، ثمّ بعد ذلك انتقل هذا العِلم إلى أوروبا عن طريق فرنسا، وذلك على يد الخبراء الذين أسّسوا للاستشراف ولاسيما جاك أتالي والذي تخصّص في هذا العِلم، إضافة إلى ميشال بيرجيه وجان لوي غيغو.</p> <p>إلى غاية الستينات، قلت كان في أميركا عن طريق الذكاء الاصطناعي والمحاكاة، ثمّ بعد ذلك انتقل إلى أوروبا عن طريق فرنسا بين 1960 و1975 حيث ازدهر أكثر هذا العِلم وأصبح له كما ذكرت مؤسّسات، ولعلّ أشهر مؤسّسة خاصة بمنطقة البحر المتوسّط ومقرّها في باريس، وهي معهد الاستشراف البحر المتوسّط، وبالتالي تزامن هذا مع النهضة العلمية، وكذلك إعمار ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، والتفوّق الأميركي في القرن العشرين.</p> <p>في هذه الفترة، المسلمون لم يحالفهم الحظ، لأنّهم يعيشون مرحلة ما بعد الموحّدين ومرحلة النصّ، والجواب واضح، لأنّ العلوم، ليس فقط الاستشراف ولكن كل العلوم تراجعت مع فترة انحطاط المسلمين وأفول الحضارة الإسلامية، وكذلك تزامن نشوء هذا العِلم مع وجود أغلب الدول الإسلامية تحت الاستعمار فترة النصف الأول من القرن العشرين، وعليه من غير المستقيم أن تكون البلاد المُستعمَرة في أرضها، تكون مستقلّة في تفكيرها بحيث تخطّط للمستقبل أو تخطّط للاستشراف.</p> <p>إذاً هو تفسير تاريخيّ معقول في سوسيولوجيا المجتمع وسوسيولوجيا التحوّلات، وبقي الاستشراف محدوداً في النصّ، لأنه حتى المسيحية في عهد الظهور الإسلامي وفي عهد التفوّق الإسلامي في القرون الأولى للإسلام، عندما تمكّنت الحضارة الإسلامية من إنتاج المعرفة، كانت الحضارة الغربيّة عاجزة عن استيعاب العلوم، فاضطرت إلى نقل العلوم من دمشق وبغداد، وكانت أيضاً حريصة ومرتبطة بالنصّ، فالمسيح على سبيل المثال كان يعد أتباعه بأشياء استشرافية، كان يعدهم بالوعد الآخر، كان يعدهم بالجنة، كان يعدهم بالحياة الأخرى الهنيّة، وبالتالي كان النصّ الديني هو المتحكّم بالواقع الغربي إبان ظهور الحضارة الإسلامية.</p> <p>الآن تحوّل الوضع وأصبحت المعادلة عكسية، ففي وقت أفول الحضارة الإسلامية، أصبح النصّ هو المتحكّم، ولهذا ذكرت أنت أشياء نصيّة، ذكرت السورة الخاصة بنوح، وأنا أذكر لك إشارة استشرافية في سورة يوسف عليه السلام، وهي إشارة رائعة جداً، لأنها بطابع تطبيقي وليست كما جاء في النصّ المسيحي بطابع لاهوتي وطابع أخروي. لا، هي كانت عبارة عن نموذج أمن غذائي في الحبوب في مملكة مصر في ذلك الوقت، وهي خطة سبعة سبعة، سبعة في التخزين الاستراتيجي وسبعة في الاستغلال الاقتصادي ممّا مكّن مملكة مصر في ذلك الوقت في السياق التاريخي من تجاوز أزمة اقتصادية كبرى كانت في شحّ الحبوب وشحّ الغذاء.</p> <p>&nbsp;</p> <p><strong>يحيى أبو زكريا:</strong> نعم دكتور بشير، عندما تغوص في المكتبة العربية وحتى الإسلامية، وأقصد بذلك روافد العالم الإسلاميّ، لا تجد كثيراً من الكتب في شأن المستقبليّات. لعلّي أذكر بعض الكتب التي صادفتها هنا وهناك، "ماهية الدراسات المستقبلية" لأمنية الجميل، "الإسلام والمستقبل" للدكتور محمّد عمارة، "أسس دراسات المستقبل في المنظور الإسلامي".</p> <p>وأشرت إلى أنّ الاستعمار كان سيّد القرار في الوطن العربي، وبالتالي لم يكُ لدينا عقل مستقبلي. لكنّ الاستقلال تحقّق قبل 70 سنة تقريباً في معظم الأقطار العربية والإسلامية.</p> <p>هل الجامعات العربية هي وراء التقصير في عدم الاهتمام بهذا العِلم؟ هل المنظومة السياسية بشكل عام ما كان يعنيها التخطيط المستقبلي، أم أمر مرتبط بواقع ثقافي مُنتكس هنا وهناك؟</p> <p>&nbsp;</p> <p><strong>بشير مصيطفى:</strong> الأمر مرتبط بفاعليات المؤسّسات، لأنّ ثلث بوابات هي بوابات الاستشراف عند التطبيق، الاستشراف أولاً هو الإيمان بالمستقبل كموضوع بحث، فليس كل الفروع العلمية في الجامعات تؤمن بأنّ المستقبل هو موضوع بحث، فأغلب الجامعات تعتبر الماضي موضوع بحث أو تعتبر الحاضر موضوع بحث، ولكن لا تعتبر المستقبل موضوع بحث، لأنّ الإشارات غامضة، فالملموس الحاضر غير الملموس الماضي، وغير الذي يفترض أن يكون ملموساً في المستقبل.</p> <p>فالإيمان بالمستقبل كموضوع بحث من ناحية النظرة العلمية ما زال قاصراً في الجامعات العربية والإسلامية لسبب واحد وهي بذور الاستعمار، لأنّه صحيح أنّه في مرحلة الاستعمار، بعض الدول بقي فيها الاستعمار مدة طويلة، تشكّل فيها الرأي العام وتشكّل فيها كذلك الرأي الثقافي، الجزائر قرن ونصف القرن، بعض الدول في المغرب العربي قرن أو أقل بقليل، لكن هذه إذا قلنا قرناً، ثلاثة أجيال، وإذا قلنا قرناً ونصف القرن فهي خمسة أجيال، فخمسة أجيال بالمنظور السوسيولوجي لا تسمح بالاستقلال الفكري بسرعة، لا بدّ للعملية من أن تأخذ وقتاً، ولكن نحن أخذنا وقتاً أكثر مما يجب في التحوّل من دراسة الماضي والحاضر إلى المستقبل موضوع بحث وموضوع تدقيق.</p> <p>هذه البوابة الأولى نحن قصّرنا فيها. البوابة الثانية هي اعتبار الاستشراف صناعة الحاضر، لأن المستقبل سيتحوّل إلى حاضر في وقت معين، فيبدو أنك عندما تتحدّث عن الاستشراف وتقول بأنّ صناعة المستقبل أو صناعة الغد هي نفسها صناعة اليوم وصناعة الأمس، لأنه ليس في مفهوم الزمن شيء إسمه ماض أو شيء إسمه حاضر، في الزمن هناك فقط شيء إسمه المستقبل، فالمستقبل هو نفسه الذي تحوّل إلى حاضر في لحظة تاريخية محدّدة ثم يتحوّل إلى مخزون تاريخي في لحظة تاريخية أخرى. &nbsp;ولهذا الماضي هو مستقبل في وقته والحاضر هو مستقبل في وقته، والحاضر قصير جداً يُعَدّ بالثواني خاصة مع تضافر المعلومات، وبالتالي الإيمان بأن الحاضر هو نفسه المستقبل والماضي هو نفسه المستقبل، هذا ما زال قاصراً.</p> <p>والبوابة الثالثة والأخيرة وهي سياسات عمومية، وهنا أنت تحدّثت عن وظيفة الدولة، صحيح أن الحكومات هي التي تطلق المخطّطات الاستشرافية، لأن الاستشراف يحتاج إلى معاهد متخصّصة، يحتاج إلى دراسات مموّلة، يحتاج إلى شيء إسمه النمذَجة، ويحتاج إلى تمويل هائل من الحكومات. وعليه السياسات العمومية بالنسبة للدول إذا لم تعطِ أهمية لاصطياد إشارات المستقبل، فإن الرأي العام سيتبع هذه السياسات ويكون هناك قصور، والسياسات العمومية في بلادنا العربية والإسلامية مع الأسف الشديد ليس فقط في ميدان الاستشراف، بل في مختلف الميادين الاقتصاد والتنمية، هي الآن عاجزة عن استعياب المعلومات وتخزين المعلومات وبالتالي تحويلها إلى مخططات تنمية.</p> <p>&nbsp;</p> <p><strong>يحيى أبو زكريا:</strong> دكتور إبراهيم رضا من مصر الحبيبة، كان ضيفي من الجزائر معالي الوزير الدكتور بشير مصيطفى يتحدّث عن غياب كامل من قِبَل العرب والمسلمين، غياب عِلم الدراسات المستقبلية واستشراف المستقبل.</p> <p>أولاً، لماذا بنظرك قصّر العرب والمسلمون في عِلم المستقبل؟ وما الذي يقدّمه لنا هذا العِلم من حيث صناعة النهضة والتنمية والحضارة أيضاً؟</p> <p>&nbsp;</p> <p><strong>إبراهيم رضا:</strong> الحمد لله رب العالمين وأصلّي وأسلّم على نبيّنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين. تحياتي لك ولضيفك الكريم.</p> <p>بالفعل سيّدي العزيز، هناك تقصيرٌ كبير، لأننا لم نقف وقفة جادّة على فتح باب الاجتهاد على مصراعيه، لأنّ الإسلام دينٌ متطوّرٌ بطبعه، يؤمن بالتعدّدية ويؤمن بالانفتاح ويؤمن بالآخر وبحق المختلف في أن يحتفظ لنفسه بالمساحة التي أقرّها الله سبحانه وتعالى له.</p> <p>وعندنا في عِلم العقيدة إيمان المقلّد وإيمان المجتهد، وأعتقد أنّ سبب المشكلة في نظري أنّ الكلّ اعتمد على الإيمان التقليدي، ولم يحاول أن يجتهد كما كان فِعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أرض المدينة. وليس أدلّ على ذلك من أنه حينما أراد أن يبعث معاذاً إلى اليمن لكي يُعلّم الناس أمور الدين، قال له يا معاذ أرأيت إن عرض عليك أمر بما تقضي، قال يا رسول الله أقضي بكتاب الله، قال فإن لم تجد، قال أجتهد وأقضي بسُنّة رسول الله، قال فإن لم تجد، قال اجتهد رأيي ولا الو أي ولا أقصّر.</p> <p>هذا الإصرار من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهذا التضييق على معاذ في هذه المنطقة الفكرية العميقة، أراد النبيّ من خلالها أن يعلّمنا ألا نعتمد على التقليد الأعمى، وألا نظلّ على التراث القديم، أسرى لهذا التراث، ولا نؤمن بأنّ هناك عصراً جديداً. ولذلك الإشكالية التي نحن فيها الآن، أنّ أهل التطرّف والتشدّد يريدون منا أن نعيش عصر رسول الله، وهذا لم يطالبنا به النبي. نحن أمِرنا بأن نحيا بفكر رسول الله، لا أن نعود إلى عصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.</p> <p>&nbsp;</p> <p><strong>يحيى أبو زكريا:</strong> دكتور إبراهيم، لكنّ ألفاظ القرآن الكريم معظمها للمضارعة، يتفكّرون، يتذكّرون، يفعل فعلاً، فعل مضارع يدل على الاستقبال، على المستقبل، كما أن السنّة النبوية المطهّرة والشريفة تضمّنت ملاحم وفتن القادم من الأيام، وأشارت إلى المستقبليات بشكل يكاد يكون تجزيئياً.</p> <p>&nbsp;</p> <p><strong>إبراهيم رضا:</strong> أتفق مع سيادتك في ما طرحت، ولكن الإشكالية ليست في النصّ الديني، عندنا نصّ ديني وفكر ديني، النصّ الديني ليس فيه مشكلة. الإشكالية الحقيقية تكمن في الفكر الديني الذي يعتمد على التسلّف وعلى الاتّباع، ويرى أنّ كلّ مجدّد هو على باطل، بل ويحارب التجديد، ويتجاهل تلك النصوص الشريفة التي على رأسها قول النبي صلّى الله عليه وسلّم إن الله سبحانه وتعالى يبعث لهذه الأمّة على رأس كل مئة سنة مَن يجدّد لها أمر دينها.</p> <p>كذلك سيّدي العزيز امتلأ كتاب الله سبحانه وتعالى بالدعوة إلى التفكّر والتدبّر وإعمال العقل، حتى أننا نقول عن إمامنا أبو حنيفة أنه إمام أهل الرأي. لماذا نقول إنّه إمام أهل الرأي؟ لأن هناك بداية للحصار لمَن يعمل العقل، وكأن العقل لا بدّ من أن يقودك إلى الضلال، وعلينا ألا نحاول أن نأتي بجديد.</p> <p>تلك هي الإشكالية التي تربّت عليها تلك الأجيال، وقال فلان هي أقوى من قال الله وقال النبي، لماذا؟ لأنها مدارس تقوم على التقليد المذهبي الأعمى البغيض الذي لا يرى الآخر ولا يؤمن بالتعدّدية ولا يؤمن بالتنوّع ولا يؤمن بإعمال العقل ويرى أن العقل عاجزٌ، قاصر، لا يقوى على نتيجة.</p> <p>&nbsp;</p> <p><strong>يحيى أبو زكريا:</strong> دكتور إبراهيم، ومحنة العقل في الإسلام قديمة، ما زلنا نستحضر إحراق موسوعات وكتب إبن رشد، ما زلنا نستحضر تهافت الفلاسفة.</p> <p>مشاهدينا فاصلٌ قصير ثمّ نعود إليكم، فابقوا معنا.</p> <p>&nbsp;</p> <p><strong>كتاب "أسس دراسة المستقبل في المنظور الإسلامي"، محمّد بن أحمد حسن النعيري:</strong></p> <p>يهدف كتاب "أسس دراسة المستقبل في المنظور الإسلامي" لمؤلّفه محمّد بن أحمد حسن النعيري، إلى الحثّ على تأصيل العلوم إسلامياً، وذلك ببيان ما في الشريعة الإسلامية من مبادئ السلوك البشريّ وطبيعة الفطرة وسنن الاجتماع البشري، والإفادة من ذلك في مجال الدعوة الإسلامية وتنقية العلوم الاجتماعية من الأصول الوثنية والكتابية، وتقديم الفكر الإسلامي بالأسلوب المناسب لإشعار الناشئين المبهورين بالحضارة الغربية بالاعتزاز بدينهم الذي لم يفرّط في الكتاب من شيء وبناء العقلية الإسلامية المفكّرة والمخطّطة.</p> <p>&nbsp;</p> <p>&nbsp;</p> <p><strong><u>المحور الثاني</u></strong></p> <p><strong><u>&nbsp;</u></strong></p> <p><strong>كتاب</strong> <strong>"الدراسات المستقبلية</strong><strong>:</strong><strong> الأسس الشرعية والمعرفية والمنهجية لاستشراف المستقبل" تأليف فؤاد بلمودن:</strong></p> <p>غرض الكتاب كما يقول مؤلّفه الإسهام في الجهود التعريفية والتنظيرية للدراسات المستقبلية في العالم العربي والإسلاميّ، وتحقيق نوعٍ من التراكم العلميّ، ولذلك كان الكتاب في الأسس الشرعية والمعرفية والمنهجية لاستشراف المستقبل، وختمه بتأكيد حاجة الأمّة الإسلامية إلى الدراسات المستقبليّة.</p> <p>وقبل الخوض في لُجج الكتاب، يحسن التفريق بين التخطيط والدراسات المستقبلية، ومن أوضح الفروق أنّ المدى الزمنيّ في الدراسات المستقبلية أطول، والمستقبل فيها تعدّديٌ ومفتوحٌ وافتراضيّ، بينما يضيّق التخطيط من خيارات المستقبل وفي الغالب يتم الالتزام بمستقبل واحد معيّن.</p> <p>&nbsp;</p> <p><strong>يحيى أبو زكريا:</strong> مشاهدينا أهلاً بكم من جديد. من أدرك حلقتنا الآن، نحن نعالج موضوع المستقبليات والاستشراف في المنظور الإسلامي.</p> <p>معالي الوزير الدكتور بشير مصيطفى، عندما تغوص في بنيوية الإنسان العربي، في كينونة الإنسان العربي، تجد أن معظم الناس في العالم العربي يبحثون عن المستقبل، ولذلك راج الكهنوت والسحر والشعوذة، فرُبّ أمّةٍ تبحث عن مستقبلها في فنجان قهوة، ورُبّ أمّةٍ تبحث عن مستقبلها في ورق، ورُبّ أمّةٍ تبحث عن مستقبلها لدى كاهن وساحر ومشعوذ، وتجد هؤلاء الكهنة والكذّابين من أغنى الناس تقريباً، يعطون أموالاً طائلة، حتى الكثير من صُنّاع القرار في الغرب والعالم العربي يقصدون هؤلاء.</p> <p>إذاً هنالك نزعة لمعرفة المستقبل. إذا أردنا عربياً وإسلامياً أن نؤسّس لعقل مستقبليّ، لمؤسّسة مستقبلية تُبيّن لنا الطريق وتُرشدنا إلى جادة النهضة والتنمية، ما الذي يجب أن نفعله علمياً؟</p> <p>&nbsp;</p> <p><strong>بشير مصيطفى:</strong> الاستشراف صار عِلماً قائماً بذاته الآن، وهذا هو الفرق بين الشعوذة كما ذكرت أنت أو انتظار المستقبل، والطريقة الأميركية المبنية على الذكاء الاصطناعي أو الرؤية الأوروبية المبنية على اليقظة الاستراتيجية، إلى درجة أننا الآن أمام عِلم الفيوثورولوجي أو عِلم المستقبليات.</p> <p>الأسس العلمية لهذا العِلم، المعلومات، أولاً القدرة على اصطياد المعلومات الكامنة في المستقبل عن طريق السياسات العمومية وعن طريق النمذَجة، هناك تطوّر مستقبلي في جميع المؤشّرات ذات العلاقة بالديمغرافية، الموارد الاقتصادية، الأزمات، المخاطر، الفرص، كلّ هذا للمدى البعيد. هناك بعض الرؤى الاستشرافية مداها الزمني أو مداها في الوقت يصل إلى مئة سنة، مثلما هي الرؤية الصينية، 1950-2050، وهناك بعض الرؤى البعيدة المدى ولكن أقل من قرن، مثل رؤية عشرين عشرين لماليزيا أو رؤية 2030 لدولة قطر، و2030 للسعودية، و2030 كذلك لمصر.</p> <p>فبدأ الاقتراب تدريجاً من استشراف السياسات العمومية لبعض الدول العربية، ولكن الأمر يحتاج إلى كما ذكرت لك القدرة على اصطياد الإشارات أو المعلومات الموجودة في المستقبل، هذه المعلومات التي تمسّ جميع المؤشّرات نظراً لزخامتها وضخامتها أصبحت لا تقاس بالميغابايت والجيغابايت.</p> <p>&nbsp;</p> <p><strong>يحيى أبو زكريا:</strong> دكتور بشير، هناك إشكال، يرد إشكال فقط في سياق ما ذكرت، أنت خبير اقتصاد ما شاء الله وتعرف تجربة الدكتور شاخت في ألمانيا حيث تسبّب في نهضة ألمانية عامرة، نفس المخطّط طبّقته إندونيسيا ولم ينجح المشروع بتاتاً في إندونيسيا. علّق شاخت بقوله إن الإنسان الألماني غير الإنسان الإندونيسي.</p> <p>الإشكال أن الذين وضعوا الرؤى مثلاً في قطر أو في السعودية أو في غيرها ليسوا عرباً، خبراء جاؤوا من أميركا من أوروبا باعوا خبرتهم مقابل ملايين الدولارات. هل يمكن لغير العربي، لغير المسلم أن يضع لك خطة مستقبلية ناجحة؟</p> <p>&nbsp;</p> <p><strong>بشير مصيطفى:</strong> الطب موجود في أوروبا والهندسة موجودة في أوروبا، وعِلم الطب وعِلم الهندسة هما عِلمان محايدان، ليس هناك مسوّغ ثقافي في مثل هذه العلوم، كذلك الاستشراف هو أداة للتنمية وليست التنمية بحدّ ذاتها، ومخطّط شاخت في إندونيسيا هو عبارة عن تجربة تحمل محتوى ثقافياً، ولهذا الرؤية الثقافية في ما يتعلق بتجارب الدول تأخذ بعين الاعتبار القِيَم والثقافة الوطنية في رسم المخططات، لكن في موضوعنا اليوم، في موضوع الاستشراف، فهناك محدّدات علمية دقيقة تخصّ اليقظة الاستراتيجية وتخصّ التخطيط عن بُعد، وهذا مجال مفتوح لجميع الدول.</p> <p>وبالتالي، اقتباس طُرق الاستشراف عن طريق الدراسات المستقبلية، هي متاحة للجميع، بدليل أن القرآن الكريم لمّا تحدّث عن استشراف الآخرة، تحدّث عن استشراف الآخرة كمنفذ متاح لجميع الدول، بغضّ النظر عن المحتوى الثقافي، فأيّة دولةٍ تُسلِم فهي معنيّة بالآخرة. وعليه، سورة سيّدنا يوسف مثلاً الآن تطبّق في الغرب ولكن ليس بمسوّغ ثقافي ديني، ولكن بمسوّغ علمي بحت وهو المخزون الاستراتيجي، ونحن ندرّس في جامعاتنا العربية والإسلامية هذه الوحدة وهي وحدة المخزون الاستراتيجي.</p> <p>كذلك، اصطياد المعلومات وتحويلها إلى مخطّطات عمل ومخطّطات تنمية ومخطّطات للتخطيط، هذه الآن أصبحت متاحة للجميع، لكن بنظرة اقتصادية براغماتية بحتة، والمسوّغ الثقافي يؤخذ عند تطبيق النماذج وعند اختيار الآلية في تطبيق النماذج.</p> <p>&nbsp;</p> <p><strong>يحيى أبو زكريا:</strong> دكتور إبراهيم، هذه الأمّة واحدة من كوارثها ومصائبها الانعطاف إلى الماضي. ذهبنا إلى الماضي في كل إشكالاتنا وتركنا المستقبل وتفاصيله للكتلة الغربيّة، شئنا أم أبينا، وأنا قلت سابقاً إنه يوجد في الغرب 3000 مركز استراتيجي استشرافي يدرس مستقبل الزراعة في موريتانيا، مستقبل الجماعات الأصولية في هذه الدولة وتلك، مستقبل السياسات، الاقتصادات، وما إلى ذلك من الأمور.</p> <p>ألا يتطلّب تأسيس مؤسّسة عقلانية مستقبلية إلى مجموعة من العقول، بمعنى أنّ إنتاج عِلم المستقبل ليس منوطاً بفردٍ واحدٍ، نحتاج إلى علماء سيكولوجيا، علماء سوسيولوجيا، علماء اقتصاد، علماء سياسة، حتى علماء أنتروبولوجيا، علماء الزلازل، جيولوجيا وما إلى ذلك.</p> <p>هذا مُفتقد في العالم العربي، العقل الجمعي، لمّا يتحقّق شيء إسمه العقل الجمعي في العالم العربي؟</p> <p>&nbsp;</p> <p><strong>إبراهيم رضا:</strong> بالتأكيد سيّدي، أثمّن كلّ ما جاء على لسان حضرتك، ولذلك نحن لم نمتلك المؤسّسة المُستنيرة التي تستطيع أن تؤمن باستشراف المستقبل، وتضع بعض الآليات للوصول إلى نتائج مُحدّدة. كلّ ما نراه في عالمنا العربي والإسلامي هو مجرّد أفراد يتمتّعون ربما بتلك الرؤية وتلك النظرة، إلا أننا في مصر على سبيل المثال، بعد أن مرّت ثورة 25 يناير و30-6، رأت الدولة المصرية أنه لا بدّ من أن نذهب إلى المستقبل، وأن ننظر إلى القادم، وأن يكون هناك شكل جديد لطبيعة الدولة ولطبيعة الفكر، ومن هنا بدأنا نتوجّه في أكثر من اتجاه.</p> <p>الاتجاه الأول، العمل على تجديد الفكر الدينيّ، بمعنى أن يكون هناك فَهْم مستنير، هذا الفَهْم يستطيع من خلاله علماء الأمّة أن يصلوا إلى أن يجعلوا هذا الجيل يستمتع من خلال العمل لما هو قادم، لأننا كنّا أسرى لخطاب دينيّ يعمل على تجهيزنا جميعاً للقبر، ولعذاب القبر، ولثعابين القبر، ولغضبة الرب سبحانه وتعالى، مع أن الله تبارك وتعالى هو مَن علّمنا، "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ".</p> <p>إن من الإحسان أن نكون ممّن ينتمون إلى دولة قوية تستطيع أن توفّر للأجيال القادمة حياة طبيعية ملؤها الرفاهية والاستقرار، وليس الجماعات الدينية المتعصّبة والمتشدّدة. الإشكاليّة أننا نحتاج في عصرنا إلى اجتهاد المجامع الفقهية، وليس اجتهاد الأفراد وحدهم، لأنّه من السهولة على أصحاب الفكر المتشدّد أن يتّهموا كلّ فرد يعمل على تجديد الفكر وعلى إشاعة روح التسامح، أما عندما نعمل على أن يكون هناك دولة المؤسّسات التي تستهدف الاستنارة وتعمل على تقوية الفكر الدينيّ المُستمَدّ من كتاب ربنا وسُنّة نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم.</p> <p>عند ذلك سنرى أن البذرة الأولى التي بذرها النبي صلّى الله عليه وسلّم وخالف فيها الأعداء، أنّه لم يقتل الأسرى، بل استثمر فيهم واستشرف المستقبل من خلالهم، فقال لهم إنّ من علّم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة فسوف يعود إلى بيته وأهله ووطنه آمناً، مُعافى، لماذا؟ لأنه يريد أن يعمل على بناء الشخصية المسلمة القوية، وصدق صلّى الله عليه وسلّم، وهو يعلّمنا، والمؤمن القوي خيرٌ وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف.</p> <p>إنّ مظاهر الضعف والقوّة عندنا الآن هي من يصلّي ومن يزكّي ومن يذهب إلى المسجد ومن يتردّد على دور العبادة، عِلماً بأن مظاهر القوّة الآن تكمن في العلم والمعرفة واتّباع منهج الله سبحانه وتعالى وخدمة الأوطان والتفاني من خلال&nbsp; بذل قصارى الجهد لكي نصل إلى دولة وأمّة قوية مترابطة تتمسّك بقول الله تعالى، وهذا أيضاً من باب الاستشراف القرآني، "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا".</p> <p>أحد الصحابة يقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حينما قال له توشك الأمم أن تتداعى عليكم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، وهذا أيضاً لبّ الاستشراف لما هو قادم، أوَمِن قلّة نحن يا رسول الله، قال لا بل أنتم يومئذٍ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل. نحن نريد الكيف وليس الكمّ، لأننا بحاجة شديدة إلى الفكر المستنير.</p> <p>&nbsp;</p> <p><strong>يحيى أبو زكريا:</strong> صحيح. طبعاً دكتور إبراهيم، أشرت إلى التكفيريين، والتكفيريون حاربوا حتى ربهم جلّ في علاه، ودمّروا التفكير، ودمّروا الدول والمجتمعات ونشروا العنف الأعمى، والحوار هو المدخل إلى بناء مستقبليات رائعة.</p> <p>وللأسف الشديد، عندما تتأمّل الواقع الثقافي الإسلامي، هناك مستقبليّات في بعض وسائط الاتصال، في بعض القنوات، لكن نحن نبحث عن الأعور الدجّال، أين هو؟ في الصين؟ في الاتحاد السوفياتي السابق؟ في أميركا؟</p> <p>ذهبنا نحو الخرافات والأساطير ولم نؤسّس لعقلانية للأسف الشديد قوية. ولله ذرّ إبن رشد الذي يقول إن الله لا يمكن أن ينزل شرائع تتصادم مع العقل البشري المجرّد.</p> <p>دكتور بشير، دعني في هذه اللحظة أترحّم على الدكتور مهدي المنجرة رحمة الله عليه عِالم المستقبليات المغربي. هل تناءى إلى بصرك، هل تبادر إلى ذهنك، هل اطّلعت على كتب في المستقبليات ضمن الخارطة العربية والإسلامية؟ وإلى من تشير؟ من الآن يمكن القول إنه رائد في هذا المضمار؟</p> <p>&nbsp;</p> <p><strong>بشير مصيطفى:</strong> ليس هناك الكثير، المهدي المنجرة يُعَدّ رائداً حقيقياً في المجال الأكاديمي. إلى حد الساعة الفكر العربي والفكر الإسلامي ما زال عاجزاً عن إنتاج المعرفة الاستشرافية، لأنّ الاستشراف هو أداة لصناعة المستقبل، وما دامت السياسات العمومية لا تشعر بالخطر، وليس هناك إمكانيات اصطياد الفُرص الكامنة في المستقبل، فلا يمكننا الحديث عن رُوّاد أو عن مؤلّفين، شأن ما هو موجود في الثقافة الغربيّة على سبيل المثال، جان لوي كيغو وغيره، وجاك أتالي وريني باري وميشال بارغ، ممكن أن نعدّ الكثير، لكن عندما نأتي إلى الوطن العربي والوطن الإسلامي، لا نجد فارساً من فرسان الاستشراف، ولهذا حان الوقت أعتقد لإطلاق مؤسّسات بحثية، وطبعاً المؤسّسات البحثية إذا انعدمت في دولة ما، فالعقل يتعطّل لأنّ، الفضاء لاقتناص الإبداع الفكري يكون عبر الثينك تانكس، أي عبر هذا النوع من المؤسّسات.</p> <p>فالمؤسّسات البحثية في عِلم الاستشراف غير موجودة، والسياسات العمومية لا تشعر بالخطر، لأن الاقتصاديات هي اقتصاديات ريعيّة مبنية على الطبيعة، مبنية على النفط، مبنية على الزراعة، ومبنية على المعادن. وبالتالي الحكومات في الوطن العربي تشعر بالأمان من المستقبل، في حين أن الدول التي قفزت في الاستشراف شأن كوريا الجنوبية واليابان، هذه كانت تشعر بالخطر القائم في الاقتصاد الغربي، خاصة بعد تجربة إلقاء القنبلة الذرية في هيروشيما، أصبح هناك في الدول الآسيوية شعور بالخطر.</p> <p>فالشعور بالخطر يدفع إلى الإبداع في العلوم، لكن في بلادنا العربية الشعور بالخطر غير موجود، وهذا المدخل الاقتصادي مهم، وهناك المدخل الثقافي الذي لم يمكنا من إنتاج روّاد في الاستشراف أو مؤلّفين أو عباقرة في الاستشراف، وهو الثقافة الشعبية، فالثقافة الشعبية التي تركها المستعمر ولّدت شيئاً من البذور غير الاستشرافية. فعلى سبيل المثال في المغرب العربي، المقولة السائرة الآن هي أحيني اليوم واقتلني غداً، وهذا المثل أحيني اليوم واقتلني غداً، سريعاً ما تحوّل إلى ثقافة عامة وصلت حتى إلى الجهات القائمة على الشأن العام.</p> <p>عموماً، لا يمكن أن نتحدّث عن روّاد في الاستشراف أو مؤلّفين في الاستشراف ما لم يكن الرائد أو المؤلّف متمكّناً من ثلاث عمليات. العملية الأولى هي اصطياد الإشارات وهذه الإشارات موجودة في المستقبل، والعملية الثانية هي تحليل المُعطيات، والعملية الثالثة هي صناعة السياسات.</p> <p>إذا انعدمت هذه العمليات الثلاث في الإنتاج المعرفي فلا يمكن الحديث لا عن استشراف ولا عن روّاد للاستشراف، وما عدا ذلك ربما أكاديمياً، مثلما نجده في التخصّصات العلمية الموجودة في الجامعات، مثل التحليل والاستشراف في الجامعات الجزائرية، ولكن هذا جانب نظري بحت لا علاقة له بالتحوّلات الجارية إما في العالم أو الإقليم أو الداخل.</p> <p>&nbsp;</p> <p><strong>يحيى أبو زكريا:</strong> دكتور بشير، تسنّى لي الاطّلاع على كثير من أطروحات الاستشراف في الغرب، والكتب الاستشرافية، من باب الذِكر لا الحصر، طبعاً لا نستطيع أن نستعرض كل ما قرأته في هذا السياق، كتاب للسويدي ياسام ولسون "المسلمون في الغرب في العام 2050"، تصوّر كيف تتبع الولادات الإسلامية في الغرب ودور المسلمين وانخراطهم في المعادلة السوقية، في أسواق العمل، ومجموعة من الإشارات.</p> <p>لكن بالعودة دكتور بشير، إلى المنظور الإسلامي. الله تعالى أمرنا أن نتوزّع في الجغرافية العالمية، "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ"، وأحياناً القرآن يكرّر بعض التفاصيل لنتعلّم منها. لِمَ لم نتعلّم من قرآننا؟</p> <p>&nbsp;</p> <p><strong>بشير مصيطفى:</strong> حقيقةً، التحوّل من النصّ إلى التطبيق لا بدّ له من سلطان ولا بدّ له من المؤسّسات، لأنّ النصّ يظلّ نصاً، والأمر لا يتعلّق فقط بإشارات الآخرة وإشارات المستقبل في القرآن الكريم، ولكن يتعلّق كذلك بالرقم. على سبيل المثال وهو المُعطى المكمم، كثير من آيات القرآن الكريم تتكلّم عن الأرقام، وأحصاهم وعدّهم عدّا، على سبيل المثال، وفي هذه الآية الله تعالى يتحدّث عن الإحصاء كعملية لإنتاج الرقم ويتحدّث عن الرقم بحد ذاته كمخزون للمعرفة وهو العد.</p> <p>كذلك يتحدّث في سورة الكهف عن عدد الذين كانوا في داخل الكهف، وبالتالي العدد منذ 14 إلى 15 قرناً والرقم منذ 14 قرناً، 15 قرناً، يُعتبَر إعجازاً علمياً في مجال إنتاج المعرفة في السياق التاريخي، ولكن المشكلة ليست في النصّ. النصّ غني بإشارات المستقبل، لكن المشكلة هي في التحوّل من النصّ إلى المنظومات كما أنت ذكرت الآن كتاب ديمغرافيا 2050 أو المسلمون في الغرب، هي نفسها فكرة المُعطى المستقبلي المتعلّق بالديمغرافية والأمر لا يتعلّق بالديمغرافية فقط والسكان ولكن يتعلّق بآلاف المعطيات الكامنة في التحوّلات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، يمكن إدراجها ضمن مصفوفات معينة وإخضاعها للطُرق الكمية، ولاسيما النماذج.</p> <p>فهذا الاقتراب العلمي هو الذي يُخرِج النصّ من الحيّز الميت إلى الحيّز الديناميكي، فالمعرفة تنقسم إلى قسمين كما تعرف، هناك المعرفة الساكنة وهي المخزون من المعرفة التاريخية التي لم تتقدّم بسبب عجز العقل على تطوير المعرفة، وهناك المعرفة الديناميكية وهي نقل النصّ من حيّز الفكرة الميتة إلى مخطّطات ونماذج النمو التي تسمح بتطوير المجتمع والوصول بالمجتمع إلى مستوى الرفاهية كما حدث في دول آسيوية ودول أميركا الشمالية.</p> <p>&nbsp;</p> <p><strong>يحيى أبو زكريا:</strong> دكتور إبراهيم، متى تتحوّل الثقافة العربية والإسلامية من الاعتماد على فعل كان للماضي، ناقص للماضي، إلى يكون؟ متى ننتقل وتحدث هذه الانتقالية المباركة من كان إلى يكون؟</p> <p>&nbsp;</p> <p><strong>إبراهيم رضا:</strong> أحيّيك سيّدي. الله تبارك وتعالى أنزل قرآناً يُتلى إلى يوم الدين، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ"، وكأنّ الله تبارك وتعالى أراد أن يعلّمنا أننا ربما يكون إسلامنا هو التديّن الشكليّ، الذي يعتمد على المظهر، ولا يعتمد على الاستجابة الداخلية.</p> <p>فلا بدّ أولاً حين نريد أن نتغيّر من أن نعيد النظر في فَهْم النصوص، هذا أولاً، المعرفة التي تفضّل زميلي العزيز وأشار إليها، الساكنة، نقلها لعالم التطبيق، قبل التطبيق لا بدّ من حُسن الفَهْم وحُسن الاستيعاب ومواكبة العصر، وأن نرى في أنفسنا أننا أهل لكي نكون خلفاء عن الله في الأرض، لأنّ خطاب الهزيمة الذي قزّم كلّ ما هو عصري.</p> <p>الخطاب الذي يسود العالم الإسلامي هو خطاب ماضوي لا يتحدّث إلا عن الأوائل من الصحابة، ويرى أنّ مَن دفعوا أرواحهم وأموالهم في سبيل الله من الصحابة هم النموذج الذي لن يستطيع كائن من كان أن يأتي بمثل ما أتوا به، عِلماً بأنّ أبناءنا من خيرة أبناء الوطن الذين يقفون على الحدود ليلاً ونهاراً، ويقدّمون أرواحهم، سواء في العريش أو في رفح أو في فلسطين المحتلة أو في غيرها من بقاع الأرض، أيضاً نماذج مضيئة، وعلينا أن نُحسن الفَهْم والتدبّر.</p> <p>&nbsp;</p> <p><strong>يحيى أبو زكريا:</strong> طبعاً دكتور إبراهيم، كنت أتمنّى أنه في مطلع 2019، كنّا نتمنّى لو رأينا مفكّرين عباقرة يتحدّثون عن الاستشراف، وإذا بالشاشات العربيّة تزدحم بالكهنة والمُتنبّئين الذين يرفعون المفعول المنصوب، وأيضاً ينصبون المجرور، فيخلطون بين الفعل والفاعل والمفعول، وأصبحت هذه الأمّة مجروراً بالجهل والأميّة والكهنوت والشعوذة.</p> <p>دكتور إبراهيم رضا من مصر الحبيبة شكراً جزيلاً لك، معالي الوزير المفكّر الجزائري الدكتور بشير مصيطفى من الجزائر الحبيبة شكراً جزيلاً لك.</p> <p>مشاهدينا وصلت حلقتنا إلى تمامها. إلى أن ألقاكم، هذا يحيى أبو زكريا يستودعكم الله الذي لا تضيع أبداً ودائعه.</p> <p>&nbsp;</p> <p><strong>"ماهية الدراسات المستقبلية" لأمنية الجميل:</strong></p> <p>تحاول الدراسة التي صدرت عن مكتبة الاسكندرية ضمن سلسلة أوراق، استعراض أهم النقاط المفصلية التي مر بها علم المستقبل في خلال رحلة تطوره منذ أربعينيات القرن الماضي، من مجرّد أفكارٍ ناشئة في أذهان بعض الدارسين، وصولاً إلى الشكل الحالي الذي وصل إليه هذا العلم، والذي صارت له تطبيقاتٌ واضحةٌ وجليّة في مجالات وتخصصات علمية عديدة ومؤثّرة في مسار المجتمعات والدول.</p> <p>وتشير الدراسة أيضاً إلى الاختلافات التي توجد بين الباحثين أنفسهم حول ماهية هذا الفرع العلمي الجديد، ورؤية كل منهم لحدوده وإمكاناته وسبل تطبيقه.</p> <p>وعن التطور التاريخي للتفكير نحو المستقبل، تبيّن أمنية الجميل في الدراسة، أنّ التفكير نحو المستقبل يُعَدّ نشاطاً مركزياً للأفراد منذ البدء ببناء الحضارات المختلفة.</p> <p>فعلى سبيل المثال قدم أفلاطون رؤيته نحو ما يجب أن يكون عليه المجتمع مستقبلاً، مستنداً إلى فكرة العدالة.</p>

برامج أخرى

10 حزيران 2012

تصفح المزيد