زرع القدس
هذا جهاد وتلك الشجيرات في قدسه تتفيّأ، وها هو سور القدس يتكلّل بالغار.
... وعند الأبواب حارت ثم دارت تراقب من كل الجهات. أنّى عساه أن يكون جهاد؟
لم تكن الأبواب موصّدة ولا الستائر مُسدلة، فما بقي عليها إلا أن تلقي سوى بنظرة يتيمة من نافذة المطبخ. وكما هي الحال، الغيم يرزخ لم يبرح مكانه، أما شعاع الشمس فخرق صمت الضباب هنيهة واكتفى.
ليس لجهاد مقصد بعد البيدر سوى الأريكة الخشبية تحت أوراق السنديان، وليس له هَمْس إلا في الشكوى على حبّات البلوط المُترامية على قبّعة القشّ قربه على المقعد أو على رأسه الحالم؛ ولولا الغضب المُتفجّر سباباً على كوكب زُحل، ما سمع له صوت إلا دندنات الأنغام في مُناغاة العود على ألحان السنباطي وكلمات رامي في كوكب الشرق.
لم يحضر جهاد وبقيت الحال كذلك سنوات عجاف، سألت عنه رهاف في كل الأرجاء حتى في الرجاء، خبراً من زوّار حيفا والشام ومن عرب الحجاز. لم تجد جواباً. كذلك عند فوانيس الليل في البحار، لم يذكر منهم خبرا ًإلا، كان.
بقي الغياب لغزاً يحمل معه الغضب على زُحل، حتى أتى كهل بمرور السنين يُحدِّث عن شاب في مُقتَبل العُمر إسمه جهاد، عبر في ما مضى خلف تلك التلال حاملاً في جعبته حفنة تراب وجمّة زعتر وورق حبق نديّ، وعن سؤاله "يا مسهّل"، أجاب مُبتسماً: إلى القدس، أحمل زرعاً، أغرسه في جوار الزيتون والغار، وبعدها أصلّي في جبل موسى ومهد عيسى وقبّة محمّد.
مكث جهاد ليلته الأولى على درب القدس عند الشيخ، وجُل ما نطق به بين الحين والآخر، تكبيرات الإحرام في الله أكبر حتى ارتسم أرجوان الصباح فوق البيدر.
همّ في الصباح يودّع ضيفه ويستمهله لتناول الفطور فاعتذر، وأومأ الى حبّتين من الصنوبر قد أينع البرعم في طيّاتهما، فغرسهما إحداهما في التراب إلى يوم مُقدَّر، أما الثانية فأغمدها في كفّ الشيخ ومضى. هدأت رهاف أملاً بفجرٍ جديدٍ يطلّ به جهاد من البعيد، عندها حدَّثها الشيخ عن زرع أمسه البعيد. ها قد أينع اليوم عند البيدر القريب ويثمر في ذكرى الحبيب.
أما عن الحبيب فقد وردني من حجّاج المقدس أنه سعى إلى القدس يزرع، وكان حب الأرض أقوى عليه فعاد إليها من حيث صلّى.
اغرورقت عينا رهاف بالدمع وصدف أن كان يوم ذا رعد وبرق، فصاحت بأعلى صوتها إلى السماء "يا ربي أحمّلك سلامي لجهاد في القدس". هدأت السماء وارتعدت وأرخى الغيم ثقاله فوق وادي قرية عين الدار. لم يقو الشيخ ورهاف إلا على الجلوس بخشوع عند الأريكة الخشبية، لكن أوراق الشجر اهتزّت وهبطت أرضاً تحت قدميها.
انهزم الشيخ أمام غزارة الدمع على وجنتيها الرهاف، وراح يُناجي ربّه حتى لاحت شمس النهار إلى الغروب. ودّعها وأشار بسُبابته اليُمنى إلى التل الشرقي وخاطبها قائلاً: هناك الزرع أثمر، وستعبر القوافل لتحدّث عن أسطورة هزم بذارها أعتى الرياح. هذا جهاد وتلك الشجيرات في قدسه تتفيّأ، وها هو سور القدس يتكلّل بالغار. هذا زرع القدس بالأخضر تكلّل.