للأمل رصيد ينفد
المشكلة أننا استبدلنا الرجال بالأقزام. لم يبقَ إلا رماد الرجال.
كنت قد بدأتُ أجد مساري حين قاطعتني صديقتي كادي، مزَّقت بانهيارها كل آمالي، أورثتني ألماً، وزرعت في داخلي شكّاً يرافقني عند تعامُلي مع كلّ رجل.
في أثناء عملي في إحدى الشركات، تعرَّفت إلى كادي. كانت فتاة ممشوقة الجسم مُشرِقة الوجه، ما زلتُ أذكر أوّل مرةٍ رأيتها، طولها يبلغ على الأقل متراً وثمانين سنتيمتراً، وهذا طولٌ لا تُوازيه إلا قّلة من الرجال. صوتها يمتاز برنينٍ عَذْب. كنت أؤمِن أنّ جمال الإنسان لا يتحدَّد إلا بلون عينيه ورهافة صوته. لم أكن ممَّن ينظر إلى جمال الوجه والصفاء والإشراق.
بدأت تتعمَّق صداقتي بكادي بين جموعٍ من الموظّفين المُستَنْسَخين وسط أحداث عرَّت المجتمع قبل أن تُعرِّي البلد. كانت الأحداث في سوريا في قمّة تألّقها، واصطفّ الشعب بين مؤيّد ومُعارِض، لم يكن التأييد أو المُعارضة إلا جزءاً من فلكلورٍ مُتوارَثٍ، كانت صديقتي تختلف عن غيرها.
كان يوماً ربيعياً من أيام نيسان ولا يُشبه الأيام التي عرفناها. اتّصلت بي كادي وطلبت مني مُقابلتها مساءً. كان في صوتها ارتيابٌ منعني من سؤالها عن سبب هذا اللقاء غير المُعتاد. التقينا وتحدَّثنا عن كل شيء. بدا الأمر وكأنها تحاول أن تخفي عليّ أمراً يُريحها لو باحت به. أمرٌ أتعبها كتمانه لكنها بالرغم من ذلك يصعب عليها البَوْح به.
عدتُ إلى منزلي، وقد تركَ هذا اللقاء الغريب أثراً في نفسي. كان الحُطام في داخلها يُرى بالعين المُجرَّدة.
لكن، لم ألحّ عليها.
***
بعد أسبوعين من تلك المُقابلة، وبعد أن نسيت أمرها تماماً، وصلت إلى مكتبي، وعلمت أن كادي تركت العمل، استغرب الجميع الأمر إلا أنا.
أحسستُ أنّ هذا ممّا يسهل توقّعه. اتّصلت بصديقتي الوحيدة والتقينا في المساء، وأخبرتني كادي بما تعرَّضت له. بدفقةٍ ساذجةٍ من العطف، أخبرت كادي أنني سأحاول الوصول إلى حبيبها. عدت إلى منزلي وبينما كنت أمشي في شوارع هذه المدينة التي ألفتها وأحببتها، نظرت فوجدت في كل شارعٍ مسجداً وفي كل منطقةٍ كنيسةً. من أين لنا كل هذا؟
لطالما أرّقني مفهوم الحلال والحرام. لطالما وقفت أمام مواقف مُتسائِلةً عن مدى صحّة حُكم الشرع والمجتمع فيها. أليس للبصيرة في عالمنا حضور؟
بعيداً عن التزامات الحب، لماذا لم يُفكّر حبيبها من منطلق الرحمة أن يتزوّجها لمدّة عام ثم يتركها؟ لماذا على كادي أن تحمل إثم حرب كاملة؟ لماذا لا يشارك أحد في دفع الثمن؟
المشكلة أننا استبدلنا الرجال بالأقزام. لم يبقَ إلا رماد الرجال.
***
- ألو، كيف حالك، هل لي بسؤال، هل يمكن أن ألتقي بك؟
- لماذا؟
- من أجل بعض الآلات التي نودّ شراءها
- غداً صباحاً.
أغلقت الهاتف. استعجل الأمر كثيراً وتركني أسيرة حيرتي.
***
التقيته وأخبرته بالحال الذي وصلت إليها كادي، لكنه لم يكترث.
- ما رأيك؟ لماذا أخفت عني؟ لماذا لم تخبرني منذ أول لقاءٍ؟
- الأمر ليس سهلاً كما يبدو لك، ربما لديها مُبرِّر، فنحن بعد 7 سنوات من الأحداث الدامية أصبحنا مُهشّمين من الداخل، لم تكتفِ الحرب بتدمير مدننا، لقد دمرَّت ما هو أهم من ذلك.
كيف لكادي بعد كل ما جرى معها أن تخبرك بما ترغب بنسيانه؟ كيف لها أن تخبرك وهي على يقين أنك ستنظر لها على أنها مُذنبة وليست ضحيّة؟ كيف لها أن تخبرك وتخسر الأمل الوحيد الذي بدأ يشعّ في حياتها؟ بحثت كادي فيك عن وطنٍ يُقتَل منذ سنوات. أرادت منك أن تكون ملاذاً آمِناً في بلادٍ كل ما فيها يشتعل.
ومع ذلك، بالنسبة لي، كان للقضية مقياس أخلاقي بعيدٌ عن القناعة بصحّة موقف كادي، نحن في هذه الظروف بحاجةٍ إلى احتياطٍ عالٍ من الأخلاق؛ لنتعامل مع مشاكلنا المُستجدّة كل يوم، ومع مشاكل مَن حولنا، ولنتلاءم مع وطنٍ نحبّه بقدر ما نكرهه. قد يصعب على اللغة العربية أن تجمع كلمتّي وطن وكره في عبارةٍ واحدة.
- إنّه لأمرٌ جميل حقاً أن يبقى لديك ما يكفي من الوفاء لتحوّلي الخطيئة إلى ضحيّة. آسف حقّاً، لكنني أرغب بالزواج من أخرى.
- ألسنا جميعاً شركاء في هذه الخطيئة؟
- لا
***
لم أخبر كادي، لكني علمت أن معتصم يستعدّ للزواج من شابة تُدعى إيفان. إنّه لأمر غريب حقاً أن تكون (إيفان) ذات الأصول الغربية أكثر انتماءً إلى روح المجتمع منّا نحن. نحن الرازِحون تحت نَيْر العبودية. عبودية عادات وتقاليد لا نستطيع أن نرفضها وإن خَلَت من المنطق.
لقد أدركت إيفان اللعبة مع الرجل الشرقي واستعانت بقضاء حوائجها بالكتمان. قدَّمت للرجل صورتها كما يرغب هو. كانت المرأة القوية التي لا تُهادِن. لم تعر اهتماماً لأحد وهذا بالضبط كان سرّ جمالها.
أمّا هي وبعيداً عن المسارح، كانت شابة تفعل كل ما تريد بدءاً من الممنوع ووصولاً إلى المُستحيل. لكنها أتقنت لعب دور البراءة. تعاملت مع الرجل الشرقي بوجهين. وجه لها ووجه صُمّم له.
كانت مُذْهِلة.
الفرق بين كادي وإيفان، أن كادي أحبّت وإيفان قرَّرت. كادي قدَّمت وإيفان أخذت. كادي مُذنبة وإيفان بريئة.
لكنّ المُراهنات اليوم ثمنها باهظ جداً. هذا هو المجتمع الذي قَبلَ إيفان ونَبذََ كادي، وما طردها إلا حَجَر الراعي يرمي به الخروف الشارِد؛ ليُعيده إلى القطيع؛ لذلك لم نرَ منها تظلّماً صريحاً أو تشكيكاً في عدالة النظام القائم. ولعلّ في خضوعها واعتذارها عن ذنبٍ لم ترتكبه صورة حيّة لاندحار القِيَم أمام هيمنة المجتمع.
***
كأن الله أراد أن نرى بعضنا كما لم نرَ بعضنا من قبل. كنّا أشبه بمدن سوريا. كادي تشبه حلب، تخوض معارك قاسية لا تنتصر في إحداها، دُمّر كل شيء بداخلها، ولم يبقَ إلا رماد تدافع عنه كبرياءً.
أمّا أنا فأشبه دمشق، التي خاضت معارك لم تخضها، كانت في قلب كل معركة لم تشهدها، كانت انعكاسات حياة صديقتي تؤثّر فيّ أكثر من أيّ شخص آخر. لقد بدأت بأخذ انطباعات سلبية عن الحياة. انطباعات تفوق تجاربي. أضحت نظرتي للرجل من مرآتها.
أصبحت أعتقد أنَّ كل شيء هنا تبلَّدَ حسّه، كل شيء أصبح شيئاً، غاب عنّا دفء الإنسانية، والحب والجمال. كيف تتحقّق المعادلة؟ كيف نُجلي عن القمر وجهه المُعْتِم؟