السجن وتطهير "صحافة التنوير"
المستقبل للصحافة يعني أن المستقبل للدول التي تحترم حرية الصحافة وحرية التعبير، وتشجيع الصحافة على الإبداع وليس فقط نقل الخبر. ختاماً، الصحافة ليست جريمة. الحرية لكل معتقلي الرأي.
كيف ستكون صحافة التنوير في المستقبل؟ وهل سيكون أصلا مستقبل للوجود الإنساني أمام طاعون كورونا وفصائله وقبائله المغولية المعاصرة؟ ماذا لو رحل أحفادنا إلى المرِّيخ جرَّاء موت الكوكب الأرضي؟ كيف ستكون صحافة المرِّيخ؟ وهل تستطيع صحافة التنوير أن تصمد مستقبلاً أمام ترسانة المراقبة الرقمية، وزراعة شرائح التتبّع في الدماغ البشري، وفهرسة الحمض النووي، والتطوّر المذهل لنُظم تكنولوجيا الحوسبة والتجسّس على تفاصيل حياة البشر أو ما يعرف "بميتا الذكاء الاصطناعي"؟
يبدو أن التاريخ يعيد نفسه، ومعركة الإنسان ضد الظلم والقهر والعبودية ما زالت مستمرّة، وهذا ما يكشفه تاريخ الأفكار الذي يعتبر تاريخ البحث عن الحقيقة وتحطيم أصنام الأوهام. وإذا كانت الصحافة تنبني على إرادة تقصي الحقيقة، فسيكون جدّنا آدم أول صحفي كلّفته محاولة معرفة تابوهات الشجرة المحرّمة الطرد من الجنة، وهذا هو قدر الصحافة الحرّة.
الحفر الأركيولوجي لبلوغ جذور الحقيقة والنبش في جحور ثعابين الفاسدين والمستبدّين، والرغبة الجامحة في إخراج البشرية من كهوف ظلام الجهل وسراديب الضياع، وتنوير الجماهير بكشف الحقيقة لهم، ومحاولة الارتقاء بهم، من ثقافة القطيع والتبعية والقبول بكل أشكال الوصاية إلى ثقافة الإنسان التنويري، الذي يُفكر بنفسه، ويُعمِل عقله، مادام "العقل أعدل قسمة بين الناس" على حد تعبير الفيلسوف العقلاني ديكارت.
من هذا المنطلق تتّضحُ الروابط التاريخية المتينة بين الفلسفة والصحافة، وأنا لا أريد الغوص والتشعب في كشف علاقات الاتصال والانفصال بين الفلسفة والصحافة، لا سيما وأن الفلسفة كانت "أمّ العلوم" قبل أن ينفصل الأبناء عن أمهم التي ربّتهم على الاستقلالية، وبالتالي من البديهي أن ننظر إلى "الصحافة" باعتبارها أهم أبناء الفلسفة، وأقصد "الصحافة التنويرية"، الإبنة الشرعية للفلسفة. كيف لا وهما يشتركان في النقد والتحليل والبحث عن الحقيقة.. في مقابل الصحافة التضليلية التي حاربتها الفلسفة منذ أن دشنها الفيلسوف سقراط. كما حاربت الفلسفة مختلف أشكال المعرفة التزيفية الخرافية التخديرية.
ما تزال التهم الملفّقة التي حوكم بها سقراط، وهو يقوم بتنوير الجماهير، تستدعي تفكيكاً مُتعدِّد المقاربات، بدءاً بالمقاربة القانونية ما دام سقراط رفض قوانين القضاء الأثيني لعدم شرعيتها.
وأيضاً المقاربة السياسية، كون سقراط رفض الديمقراطية الأثينية المزيفة، التي تُمجِّدُ الدُّوكسا والشعبوية، وتُهمّش النخب التنويرية في أفق التخلّص منها وإبادتها عبر التطهير التدريجي تارة، والإبادة الجماعية تارة أخرى.
ومن عجائب الصُّدف أن الشرطة القضائية الأثينية آنذاك، اعتقلت سقراط، تزامناً مع أعياد دينية، وهو ما يكشف أن اعتقال المفكرين التنويريين هو انتصار استبدادي يُتوّج بحفل وتعييدٍ انتقامي.. بمباركة صحافة ألوان الزّيف.
"الصحافة الملوّنة" ليست وليدة الأزمنة المعاصرة، حيث عرفت أثينا الصحافة الصفراء والحمراء والرمادية والوردية والبنفسجية، وقد عاشت صحافة قلب الحقائق أوجها مع السفسطائيين وفي مقدمهم الصحفي بروتاغوراس، وهي مثال للصحافة الرمادية التّدليسية.
وفي الأدب، ومسرح الملهاة على وجه التحديد، يمكن الإشارة إلى أريستوفان رائد صحافة الإثارة، أو "الصحافة الصفراء" التي تهيّج الرأي العام ضد المناضلين وتلطيخ تاريخهم ووأدهم، معتمدة نشر الفضائح والأكاذيب في قالب كوميدي، لدغدغة عواطف البسطاء.. وخير مثال على ذلك صحافة مسرحية "السحب" التي ساهمت في تلطيخ صورة سقراط وزعزعة شعبيته، مما سهل على السلطة الأثينية اعتقاله ومحاكمته، بعد تجريده من جماهيره المؤيدة لأفكاره، وخصوصاً فئة الشباب التي يسهل خداعها بإعلام الضحك على الذقون.
مكبّلا بالسلاسل في سجن بائس، حيث يتوقّف الزمن، كان سقراط ينتظر تنفيذ حكم الإعدام بشغف، بعد محاكمة كاريكاتورية كشفت علاقات متشابكة من التواطؤات بين أعلى سلطة في البلاد، وأجهزة الشرطة، ومؤسسة القضاء، وتصفيق النخب المأجورة، وجُبْن المفكرين التنويريين، وتحريض الصحافة الفاسدة.. هذا ما جعل المؤرخ ألكسندر كويري يرى أن إعدام سقراط كان نتيجة حتمية لغرق دولة أثينا في الفساد.
إعدام سقراط بشرب سُم الدولة "الشوكران" هو رسالة واضحة لكل صحفي حرٍّ يتجوّلُ في كل فضاءات الدولة بغية التنوير، من خلال البحث عن الحقيقة ومشاركتها، أو ما يسمى اليوم "صحافة المواطن" من خلال النصيحة السقراطية المأثورة "إعرف... بنفسك".
رسالة الدولة لكل المزعجين الذين يفتحون عيون الشعب على طابوهات تدبير الشأن العام، ونهب المال العام، والعدالة، وتداول السلطة، والظلم الاجتماعي. هؤلاء مصيرهم الاحتواء أو السجن والتنكيل.
في مؤلف فوكو "المراقبة والعقاب: ولادة السجن"، يُفكِّكُ أطروحة مؤسسة السجن، من خلال الحفر الأركيولوجي في تاريخ ووظائف هذه المؤسسة، ليخلص إلى نتيجة خطيرة مفادها أن "السجن" ليس مجرّد فضاء للاعتقال والحرمان من الحرية فقط، بل هو استراتيجية للتعذيب الممنهج والمنتظم وتدوير التعذيب وتمديد التعذيب، وصولاً إلى صناعة هوية جديدة للسجين. هكذا يغدو السجين إنساناً مُستلباً فاقداً لهويته بعد فصله عن المجتمع.
وكذلك اتهامه بفضائح وفظائع وخيانات عظمى لإسقاطه في الدرجة القصوى من الانهيار النفسي والتمزق العقلي والتصدع الوجودي. لذا ليس المهم هو فضاء السجن الذي قد يكون مستنقعاً مليئاً بالمياه النّتِنة والحشرات السامة وديدان البلهارسيا وبعوض الملاريا على غرار تعذيب الجيش الأميركي لسجناء اليابان والصين والفيتنام. كما قد يكون السجن قصراً رائعاً أو فندقاً فاخراً سبق للسجناء أن عاشوا في هذه الأمكنة لحظات النخوة والفرح. لا يهم الفضاء.
وبما أن السجن وُلِدَ قديماً مزيَّناً بالسلاسل والأغلال والأقبية والسراديب وأدوات التعذيب. هذا يعني أن هذا المولود المفترس ينمو عبر التاريخ، ويصبح أكثر افتراساً ووحشية، لا سيما في الأنظمة الاستبدادية التي تكره المفكرين التنويريين، خاصة أولئك المزعجون الذين يريدون دمقرطة "السُّلطة" وفصلها وتنظيمها وترتيبها، وفي مقدمتهم أبناء صاحبة الجلالة "الصحافة".
"السلطة الرابعة" عبارة تُغضب النظام المُستبد، وأشدّ ما يغضبه منطوق "السلطة" التي يحتكرها لنفسه، ولا يريد أن يشاركه فيها أحد، ولو من باب الاستعارة المجازية. يُفضّل الديكتاتور تسمية مؤسسة الصحافة بالمفهوم الزوجي "أجهزة الإعلام" القريب من اللفظ الأمني "أجهزة الاستعلامات"، تيمُّناً منه باحتوائها، وتجريدها من سلطتها ووظيفتها النقدية التنويرية.
بعد تحويل الديكتاتور السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، إلى راقصات في محفله المسرحي التسلطي، يأتي الدور على السلطة الرابعة كي تخضع وتشرع في هزّ بطنها وخصرها لتغدو راقصة رشيقة.
"الراقصة الرابعة" يمكنها إعداد تقارير صَحفية عن الفضائح الجنسية، ونشر أخبار الحق في المثلية، وألوان الملابس الداخلية، وأنماط الأغذية التي تحمي من الترهل وتطيل أمد جاذبية الأجساد الأنثوية، وغيرها من أخبار الطبخ والنفخ الشهية.
صحافة الإلهاء والتطبيل والتضليل وحدها تصول وتجول، وكل صحفي سولت له نفسه الأمارة بالسوء ممارسة النقد وتقصي الحقائق ونشر غسيل الفاسدين، سيجد نفسه معتقلاً قبيل "العيد"، ليتم الانتقام منه والاحتفال بإخراس صوته المزعج بتلفيق تهم ثقيلة مثل "الخيانة العظمى" و "الاغتصاب العظيم". هي تُهم تستدعي "الإعدام"، لكن الفيلسوف فوكو يخبرنا أن إلغاء الإعدام لم يتحقق في ظل تنامي المواثيق الدولية وتطور منظومة حقوق الإنسان، بل بهدف "تمديد العقاب وإطالة المعاناة وتعميق العذاب".
كان الإعدام بالسيف أو المقصلة ينهي حياة السجناء في لمحة البصر، ولا يفي بغرض التعذيب وإعطاء العبرة للمجتمع، لذا ابتكر "آباء السجون" وأسياد الاضطهاد، طرقاً جهنمية لتعذيب السجناء، واحتجاز أجسادهم وكينونتهم، وممارسة مختلف أشكال التنكيل الجسدي والنفسي اللامتناهي، إلى أن يصبح السجين مطواعاً سهل الانقياد، مؤمناً بقواعد الطاعة والخضوع والخنوع، بعدما آمن بخذلان الجماهير له، وهو الذي كرّس حياته لقضاياها وهمومها.
الصحفي التنويري الرافض للظلم الاجتماعي، وتدجين الشعوب وتفقيرها يُناهض الفساد والاستبداد، ويستحيل تكميم فمه، مهما اشتدّت أدوات التعذيب التي يبتكرها أباطرة الشر، لسبب بسيط أن الصحفي التنويري له قضية يؤمن بها. وهي قضية امتزجت بدمائه وتماهت مع خلاياه، ولا يمكن تصفية أفكاره إلا بتصفيته.
يستحيل تحويل الدول "بانوتيكون Panoticon" لاحتجاز المواطنين ونسخ تفاصيل حياتهم عبر تقنيات المراقبة الرقمية، بالكاميرات، والتجسس على هواتفهم وحياتهم الخاصة بأنظمة الرصد الفضائية، مهما تطوّرت تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. كما يستحيل مراقبة الصحافة الحرة، لأنها بدورها تطوّرُ آليات اشتغالها، وتقنيات حماية مصادرها.
اليوم يعيش العالم انفجاراً في شبكات الاتصال ومنصات ومواقع التواصل الاجتماعي، مما يتيح لكل مواطن أن يكون صحفياً، وصاحب رأي وناقل خبر، طبعاً "صحافة المواطن" لا يمكنها أن تكون بديلاً عن الصحافة المهنية، لكن يجب على الصحافة الأكاديمية أن تتعلّم الإفادة من صحافة الجماهير التي تُحقّق السبق الصحفي أحياناً، وخير مثال الخياط الأميركي ابراهام زابرودر Abraham Zapruder الذي صور اغتيال الرئيس كنيدي سنة 1963.
يجب على المؤسسات الصحفية أن تحتضن قِشدة "صحافة المواطن" مع تخصيص أيام وجوائز لمبدعيها، وأن تنْظر إليها كشريكٍ يساعد لا كمتطفِّلٍ يُهدِّدْ، مع الحذر من فائض الأخبار الكاذبة والمندسّة من جهات مجهولة لغايات غير بريئة، وضرورة التعلّم من استراتيجية السرعة لا التسرّع، لأن معظم الصحف المهنية اليوم خصوصاً في العالم العربي سلحفاتية بطيئة لا تستطيع مجاراة صحافة الجماهير، وهذا يستدعي الانفتاح وتقبل النقد الذي هو بوصلة الصحافة التنويرية، وتجنّب الترفع على المواطنين، فالصحافة انوجدت لخدمة الإنسان وقضاياه المصيرية وأهمها الحرية، والعيش الكريم.
صحافة المستقبل ستكون أكثر راهنية، أما الذين يحملون ويحلمون بموت الصحافة واهمون، ستزدهر الصحافة ولو في كوكب المرّيخ، لأنها منارة غياهب الوجود البشري في كل أبعاده، ولن يقف الحد عند تشعب ألوان الصحافة وأجناسها، مع انقراض الصحافة الورقية.
ستتناسل تخصصات صحفية جديدة، لدرجة ميلاد صحافةّ "تخصُّص التخصص". سنسمع غداً بصحافة طب الأعصاب وداخل هذه الصحافة ستنمو صحافة العصبونات وصحافة الجينوم، وصحافة الاقتصاد العسكري وفي جوفها ستنبت صحافة اقتصاد طائرات المراقبة الدرون، وصحافة الكواكب والبحار، وصحافة الطب النفسي ومن رحمها ستولد صحافة العدالة السيكولوجية.. إلى ما لا نهاية.
المستقبل للصحافة يعني أن المستقبل للدول التي تحترم حرية الصحافة وحرية التعبير، وتشجيع الصحافة على الإبداع وليس فقط نقل الخبر. ختاماً، الصحافة ليست جريمة. الحرية لكل معتقلي الرأي.