الدراما والمجتمع..ثقافة الصورة – الجزء الرابع
لقد انسحبت الصورة الفنية بعناصرها ولغتها من الدراما التلفزيونية كمُنتَج بصري، بمعنى أنها حرمت المشاهد من فرصة تعلّم لغة ثقافة الصورة ، التي تعتمد عليها سرديّات زمننا الحاضر، ليشكّل هذا الانسحاب فقدان ركن أساسي من ثقافة تنويرية قامت عليه دراما التلفزة عند تأسيسها.
ربما من أوائل المحاولات التأسيسية للنقد كانت حوارية هاني الروماني وهيثم حقّي ( في نهايات القرن المنصرم ) المُحتدمة حول سؤال تأسيسي للدراما التلفزيونية وهو هل هذه الدراما إذاعة مصوّرة في استوديو وعدّة كاميرات؟ أم أنها وحسب حقّي هي سينما بشروط إنتاج تلفزيوني؟ بكاميرا واحدة وديكورات واقعية ؟ ومع ذهاب كل من المخرجين إلى رؤيته في تنفيذ أعماله ، إلا أن هذا الجدل ذهب أدراج الرياح نقدياً، وما تداوله المُخرجان لم يلقَ أي صدى في النقد الصحفي الذي توقّف على حافّة الإنتقاد " الإنطباعي " قدحاً كان أم ذماً متحوّلاً إلى أداة إعلانية رخيصة للإرتزاق. ولم يشكّل هذا "النقد" أية خطورة على صنّاع الأعمال المُتهافِتة طرداً مع ازدياد الإنتاج ولا مع المكانة الشعبوية التي حققتها هذه الأعمال، بمعنى أن هكذا نوع من " النقد" لم يشكّل أي نوع من المحاسبة على النوعية أو المحتوى بالإستناد الى أي معيار إبداعي .
من أهم ما تم تجاهله وتجاهل مناقشته بالتداخل مع منتوجات الدرامة التلفزيونية كموضوع تأسيسي لنقد ما، هو موضوع ثقافة الصورة ، هذه الثقافة التي فرضت نفسها على الإنجاز الفني الإبداعي كوسيلة تعبير وتواصل، حيث وصل التنظير النقدي لهكذا نوع من المُنتجات البصرية إلى مراتب مُتقدّمة ، ولكنها ظلّت بعيدة عن مُتناول النقد العربي والسوري خاصة ،على الرُغم من محاولات حقّي وبعض تلاميذه ومُقلّديه ومُنافسيه إعطاء الصورة مُهمّة خاصة في صناعة العمل الدرامي ، لكن المياه كذّبت الغطّاس وصارت للصورة مُهمّة واحدة هي نقل الحوار لتقبع الدرامة التلفزيونية في مرتبة بين بين ، كإذاعة مصوّرة أو كسينما حيث ضاعت ملامحها في محاولات تجميل الصورة على حساب نوعيّة اللقطات ووظائفها.
ومن هذا الباب نَلِج أيضاً إلى الشفاهية كثقافة سابقة لعصر الصورة وهي بالطبع متخلّفة عنها ، حيث تمّت إزاحة الصورة وعناصرها ومعانيها لصالح حكايات الجدّة الشفاهية مع مصادرة خيال المستمع بوسيلة إيضاح مرئية ،بمعنى استبدال الصورة المُتلفزة بالحكواتي البائِد الذي يُشخّص الحكاية بالتفخيم ولكنه يترك للمستمع فسحة من خيال ليضع تصوّراً بصرياً للأبطال والمكان والإكسسوار، ولكن الدراما قامت باستبدال عناصر الصورة من ديكور وإضاءة ومكياج وأكسسوار الخ.. بجمل مفخّمة من أمثال شعبية وأقوال مأثورة لا قيمة معرفية لها ، بواسطة الشفاهية كلغة غير تعاقدية ، كالحكواتي أو قصص الجدة ولكن من دون خيال، لا تُلزِم صانع العمل بأية معارف فنيّة أو فكرية ، أو حتى خبرات حياتية دنيا كأن تصحو ممثّلة من النوم وهي بكامل أناقتها المعهودة الخ ،وهذا ما يصنع تواطأ خفياً مع المُشاهِد عبر الإحتفاء بثقافة المُشاهِد نفسه مُثيراً دهشته وإعجابه بنفسه هو، وليس بما يُقدّم إليه، لتتحوّل الصورة إلى وسيلة إيضاح تُرافق حواراً ما يشرح رمزياً حكاية ما، وليست كوسيلة تعبير مُعاصِرة تتكلّم لغتها المُعاصِرة التي تتطلّب إلتزاماً بالمعرفة وموقفاً جوهرياً من الفن.
وهنا وبالإتفاق مع التعالي المِنبري لفعل التلفزة الذي عرجنا عليه سابقاً، يتحوّل المُشاهد مُتعالياً هو الآخر (أي أنه على حق ، وإن كان ليس على صواب)، فالمنبر المُتعالي يحكي ما يقوله المشاهد نفسه مُندهشاً من نفسه مُعجباً بها، وهو في مستنقع تخلّفه، ليست مُسلسلات البيئة الشامية تكفي كمِثال ،ولكن جُل الأعمال بدت كذلك، وهذا ما قاد الدراما التلفزيونية إلى نوع خاص ومُتهافِت من مقولة ( الجمهور عاوز كده)، حيث لا إضافة إبداعية يمكن تقديمها إلى جمهور عاوز يسمع نفسه ويعجب بها . وحيث سقط دور الصورة كعنصر إبداعي من عناصر الدرامة التلفزيونية .
في الموجة الثالثة للدراما التلفزيونية السورية واللبنانية على الأقل انتصر عصر المُشافهة على عصر الصورة وثقافة المُشافهة على ثقافة الصورة، وهذا ما طبع الأنواع المتعدّدة للمسلسلات من التاريخي وحتى المُعاصر مروراً بالفانتازي والبيئي حيث طغت القِيَم التُراثية في تحديد الخير والشر، عبر تقليص دور الصورة إلى الحدّ الأدنى، فالكاميرا التي تستطيع رصد ما يدور في الحارة الدمشقية مثالاً ، على أنه حقيقة ترفض رصد كأسي عرق كان عكيد وقبضاي الحارة يتناولاها لأن من شأن ذلك المسّ بشرفهما كقيمة تراثية ،كما أنها ترفض وعلى سبيل المِثال أيضاً رصد النساء في مخادعهن إلا وهن في ثيابهن التراثية المُحتشمة جداً ،وإلا تمّت الإساءة إلى قِيَم المجتمع الأصيل آنذاك في تحجيم واضح لعنصر الصورة ودوره.
وهنا لا بدّ لنا من الإشارة إلى نوع آخر من تحجيم عنصر الصورة ،الذي يتمثّل في إرتجاله بتهوّر وقلّة معرفة وتقليد أهوج للّقطات أميركانية أو لمشاهير المُخرجين بمحاولة في غير مكانها الوظيفي أو الإبداعي ، لتبدو إعلاناً تجارياً لاستعراض عَضَلات غير موجودة معرفياً ، فاللّقطات جُلّها مسروق أو مُرتجل ، أو الإثنين معاً بحيث لا تقوم بوظيفتها في السرد البصري الدرامي، وهنا أيضاً تتحوّل ثقافة الصورة ولغتها إلى لغط لا قيمة له ، خصوصاً في أعمال الفانتازيا التاريخية التي أصابت بالعدوى كل الأنواع الأخرى ، حيث يتبارى ويتفاخر المُخرجون والمصوّرون في إنجاز لقطات غريبة ،وجُلّها يتناقض مع محتوى المشهد ،ليصبح المِثال هنا هو أغنية فريد الأطرش ( سافر مع السلامة ) وهو يؤدّيها فرِحاً جَذِلاً بفراق الحبيب .
لقد انسحبت الصورة الفنية بعناصرها ولغتها من الدراما التلفزيونية كمُنتَج بصري، بمعنى أنها حرمت المشاهد من فرصة تعلّم لغة ثقافة الصورة ، التي تعتمد عليها سرديّات زمننا الحاضر، ليشكّل هذا الانسحاب فقدان ركن أساسي من ثقافة تنويرية قامت عليه دراما التلفزة عند تأسيسها، لتتحوّل إلى حال شفاهية صرفة تقريباً، مع تمرينات مهنية على استخدام إمكانيّات الكاميرا ، قد تخدم المحتوى وقد تسيء إليه، ولكنها في جميع الأحوال ( تقريباً ) هي مُرتَجَلة وصادرة عن مخزون معرفي شحيح.