أحبّ لغتي

فلنعد إلى مخزوننا الهائل من الشعر العربي بقديمه وحديثه، ولنحبّب الأجيال العربية به، ونضعه جنباً إلى جنب مع الهايكو الياباني، والمزامير السومرية، والغناء الصوفي الأفريقي.

  • أحبّ لغتي
    أحبّ لغتي - محمد ناصرالدين

لغة العرب إسم وفعل وحرف. لم ينطق أهل جزيرة العرب بلغة واحدة، بل بألسنة شتّى حتى جاء الإسلام بمعجزته، وهي لغوية الصميم، فوحّدها واصطفى لغة قريش مضر الحمراء عن سائر إخوتها لفصاحتها وكثرة أوضاعها ومعظم اتّساعها، لُيتاح للنحوي الزبيدي القول (فلم تزل العرب تنطق على سجيتها في صدر إسلامها وماضي جاهليتها، حتى أظهر الله الإسلام على سائر الأديان، فدخل الناس فيه أفواجاً، وأقبلوا فيه أَرسالاً، وأجتمعت فيه الألسنة المتفرّقة واللغات المختلفة).

من وقتها زادت لغة العرب مبنى ومعنى فأصبحت بحراً عباباً بعد أن كانت نهراً دافقاً، وحين انفتحت على الأعاجم بفعل انتشار الدين بالفتوحات وغيرها، عُني هؤلاء الأغراب غاية العناية بتدوين اللغة وأصولها وقواعد ضبط شاردها وواردها، ووضعوا مبادئ أخذها وتلقيها والجري على أساليب العرب بإحكام ضوابطها الجزئية وروابطها الكلية فنشأت حينئذ علوم اللغة العربية على ضروب تنوّعها في الكيفية والكمية.

لم يتّفق العرب في ما بينهم في كثير من أمور النحو والصرف، فذهب الكوفيون مثلاً أن الإسم مشتّق من الوَسم ـ وهو العلامة ـ وذهب البصريون إلى أنه مشتّق من السمّو، وهو العلوّ، وذهب الكوفيّون إلى أن المصدر مشتّق من الفعل وفرع عليه، نحو "ضرَب ضرباً، وقام قياماً"، وذهب البصريّون إلى أن الفعل مشتّق من المصدر وفرعٌ عليه، لأن المصدر يدلّ على زمان مُطلق والفعل يدلّ على زمان مُقيّد، واختلفوا حتى في أدق مسائل الحروف، فذهب الكوفيون مثلاً إلى أن السين التي تدخل على الفعل المستقبل نحو سأفعل أصلها سوف، وذهب البصريون إلى أنها أصل بنفسها.

لم يضر هذا الخلاف برمّته بلغة العرب، بل إنهم منذ البداية قالوا بالتنوّع في اللغة ذاتها، وفي تساوي الألسنة كلها في نظر الله. لقد ذهب ابن جني في تفسير آية تعليم آدم (وعلّم آدم الأسماء كلها) إلى "أن الله سبحانه علّم آدم أسماء جميع المخلوقات، بجميع اللغات: العربية، والفارسية، والسريانية، والعبرية، والرومية، وغير ذلك من سائر اللغات، فكان آدم وولده يتكلّمون بها، ثم إن ولْدَه تفرّقوا في الدنيا، وعلِقَ كلٌّ منهم بلغة من تلك اللغات، فغلبت عليه واضمحل عنه ما سواها، لِبُعدِ عهدهم بها".

تغيّرت أحوال العرب منذ أيام ابن جني، بفعل أيام يداولها الله بين الناس. ولئن كانت امبراطورية العرب، بتعبير المفكّر المغربي عبد الفتاح كيليطو "برج بابل هائل يعتمل وحدتها التنوّع الإثني واللساني، وكان الاحتكاك بين الألسنة والثقافات واقعاً يومياً"، يقف العرب ببلدانهم الممزّقة وشعوبهم المُنهكة أمام امبراطورية أميركية بلغت من العتوّ والهيمنة ما لم تبلغه روما القديمة ودولة المغول الشاسعة وأوروبا الاستعمارية مجتمعة. إمبراطورية تغزو بالحديد والنار البلد الذي تريده على خريطة كوكب الأرض، وتدخل بالتكنولوجيا إلى أبعد معبد بوذي في أقاصي التيبت، وتغزو بحروف لغتها البنى التحتية للغات الأخرى، ومن بينها العربية.

حين لم يكن ممكناً للعرب احتقار ألسنة الشعوب الأخرى، حين جاءت تلك الشعوب بتاريخها وتقاليدها ونصوصها المقدّسة والدنيوية إليهم والتي كان يطيب لها أن تترجمها للغة القرآن، فإن الامبراطورية الجديدة لم ترعوِ عن احتقار أي لسان لا تتكلمه أجهزتها الذكية اليوم.

فهل يشكل الحرف اللاتيني اليوم خطراً على لغة العرب؟ وهل ما نشهده اليوم من استبدال أحرفنا العربية (كاستبدال حرف الحاء بالرقم7 والألف بالرقم 2، والعين بالرقم 3، أو حتى كتابة جمل بأكملها ك"السلام عليكم" بالأحرف اللاتينية Assalam 3alaykom"  سيصيب من اللغة العربية مقتلاً؟

قد يكون الجواب المباشر بالنفي أو الإيجاب تبسيطاً لسؤال مركّب ومعقّد. للإجابة عليه، لعلّ من الأفضل بسط بعض عوامل عدم مناعة اللغة، والبيئة التي تضعف هذا الجهاز المناعي كذلك العنصر النقيض، أي ما يثبّت هذه اللغة ويقوّيها في وجه التحدّي. لقد تغيّر العالم كثيراً، والمجتمعات العربية كما الغربية عاشت ثورتين: الانتقال من الشفوي إلى المكتوب، ثم من المكتوب إلى المطبوع. الثورة الثالثة وهي الحاسمة، ثورة التكنولوجيا الرقمية التي تقودها الامبراطورية الأميركية ترافقت بتبدّلات سياسية واجتماعية ومعرفية، لينشأ جيل جديد أسماه الفيلسوف الفرنسي ميشال سار "جيل السبّابة"، وفي التسمية إشارة إلى الطريقة التي تُرسل بها الرسائل بواسطة الأصابع.

مستقبل اللغة العربية إلى حد ما بيد أجيال "جيل السبّابة" العرب الذي سيجد نفسه أمام واجب إعادة اكتشاف طريقة الوجود والمعرفة.

هل ستتمكّن هذه النخبة العربية الجديدة من أن تُتقن لعبة التواصل الرقمي في مهمة الانتصار للتعدّد، وإعادة الاعتبار للتواصل بين الشعوب كما دأب عليه أسلافها، ومقاومة محو أسماء وأفعال وحروف لغتها لتحول دون انفراط عقد اللؤلؤ؟ هل سيكون بمقدورها أن تثبت للامبراطورية ذات البُعد الواحد أن الاختلاف في الألسن والتعدّدية على مستوى الصوت أو اللون أو الحرف هي من شروط المعرفة؟ أم أن هذه النخبة ذاتها ستكون بمثابة عقب أخيل، لتُثبت ما تقوله الامبراطورية إن العرب بعيداً عن أن يكونوا متساوين بالشعوب الأخرى، هم لا يستحقون وجوداً يبدأ من لغتهم ويمتد إلى تاريخهم وأوطانهم؟

للعرب كتاب مقدّس لطالما صان لغتهم من الضياع، إضافة إلى عاملين يمكنهما أن يرفدا تلك النخبة بلقاح أكيد في هذه المعركة: المدرسة والأدب، وبخاصة الشعر. تبدو اللغة العربية في كثير من مناهجنا المدرسية يتيمة الأبوين، مفصولة عن عالم اليوم، ومقطوعة الجذور عن ماض مجيد.

لا يُحافظ على لغة العرب فقط بصيانتها من كل خلل أو فساد كما يفعل الأكاديميون ممن تفصلهم عن الواقع هوّة سحيقة، أو باكتشاف الألفاظ الهجينة (من لاتينية وغيرها) التي لا مقابل لها في اللغة الفصيحة، بل إن التحدّي الأكبر هو في كيفية جعل هذه اللغة جذّابة من جديد في أعين جيل الأصبع الصغيرة، وتحديداً في المدرسة. والخلاصة أن المدرسة يمكنها بمدرّسيها ومكتبها ومناهجها أن تسعى لتجعل لغة قومها حيّة ابنة اليوم والعصر تغتذي بأطعمة جديدة لتعوّض بها عما فنِي  ويفنى منها وتقذف من أحشائها ما لم يعد صالحاً على غير جدوى.

الشعر ذخيرة اللغة، ينهل منها ويتعارض مع ما تحتاجه لعبة أية امبراطورية أو سلطة من النظام والسيطرة واختزال الهوية إلى ُبعدٍ مختلق ومختزل. مئات آلاف القصائد التي أنشدها البشر على طول تاريخ الإنسانية تقول شيئاً واحداً: الهوية الإنسانية متعدّدة، متناقضة ومعقّدة على صورة الحياة الإنسانية لكن تثبت القصائد أيضاً أّن لنا هوية مشتركة رغم الهويات السطحية أكانت تاريخية، محلية أو سياسية وغيرها.

فلنعد إلى مخزوننا الهائل من الشعر العربي بقديمه وحديثه، ولنحبّب الأجيال العربية به، ونضعه جنباً إلى جنب مع الهايكو الياباني، والمزامير السومرية، والغناء الصوفي الأفريقي.

أمم كثيرة صمدت بفعل هوميروس وسافو وكبير (شاعر الهند) وطاغور وحافظ وسعدي. فلنجعل من المتنبي والخنساء وقيس وجميل وأحمد شوقي والياس أبو شبكة وأبي القاسم الشابي وأنسي الحاج ومحمّد الماغوط ومحمّد علي شمس الدين وأدونيس وشوقي بزيع وعباس بيضون أسماء تعيش في الحياة لا في الكتب، نزخرف بحروفهم حدائقنا ومبانينا وبيوتنا ودفاتر أولادنا.

لن تخاف حروف العلّة والمد عندها من مدّ من وراء البحار أو علّة لاتينية هجينة. أحب لغتي، لغتي إسم وفعل وحرف.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]

 

المراجع:

-الأنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين-للإمام كمال الدين أبي البركات-، طباعة المكتبة التجارية الكبرى، مصر.

٢ـ عبد الفتاح كيليطو، الأعمال الكاملة، دار توبقال،ج 1-2015

٣- أبو بكر الزبيدي الأندلسي، طبقات النحويين واللغويين، القاهرة، دار المعارف.

٤ـ ابن جني، الخصائص، دار عالم الكتب،2012.

٥-ـالأصبع الصغيرة، ميشال سير، ترجمة وزارة الثقافة والفنون، قطر،2014.