معركة الدفاع عن اللغة العربيّة سياسيّة لا ثقافيّة فقط
الدفاع عن لغتنا هو معركة سياسيّة لا ثقافيّة فحسب، وهي في هذا الإطار نوع من المقاومة، مثلما هي المقاومة في فلسطين وغيرها من بلاد العرب. إنَّ جدلية التلازم بين الثقافة والسياسة تفرض نفسها، والمعركة بهما ولهما ومن أجلهما هي معركة واحدة، ولهذا لا يكفي الاحتفال بيوم اللغة العربية العالمي على أهميّته، بل يجب أن تكون اللغة جزءاً من معركتنا الشاملة لتحرير الأرض والإنسان في الوطن العربي.
خصَّصتِ الأممُ المتّحدةُ يوماً عالمياً لكلِّ لغةٍ من اللّغاتِ الستِّ المعتمدةِ رسمياً في مؤسّساتها وأنشطتها، وهي: الإنكليزيّةُ، والفرنسيّةُ، والرّوسيّةُ، والإسبانيّةُ، والصّينيّةُ، والعربيّة.
الثامن عشَرَ من كانونَ الأوّل/ديسمبر هو يومُ اللغةِ العربيةِ، اختارتْهُ الأممُ المتّحدة لأنّه هو اليومُ نفسهُ الذي اتّخذت فيه الجمعيّة العامّة قبل أربعة وأربعين عاماً قرارها ثلاثة آلاف ومئة وتسعين، عام ألف وتسع مئة وثلاثة وسبعين لاعتماد اللغة العربيّة لغةَ التخاطُبِ والتوثيقِ والترجمةِ والتحريرِ في كلِّ أجهزة منظمةِ الأمم المتحدة.
تأخّر القرار المذكور نحوَ ثلثِ قرن بعد تأسيس المنظّمة الدوْليّة وانطلاقها في أعقاب الحرب العالميّة الثانية، ما يؤكّد أن المشكلة المأسويّة التاريخيّة هي في دول العرب وأنظمتِها لا في اللغة العربيّة بذاتها، وهي أقدم اللغات الساميّة الحيّة، و«أغنى لغاتِ العالم» حضاريّاً كما يقول كثيرون من غير أهلِها، ومن بينهم المفكّر الألماني غوستاف فريتاغ [GUSTAV FRAYTAG]، إذ قلّما عرفت لغةٌ غيرُها هذا المستوى العميق من التقاطع الحضاري الفعّال سواء أكان في الشرقِ مهْدِ لغتنا أمْ بين الشرق والغرب على الرغم ممّا في هذه الثنائيّة الجغرافيّة من تعسُّفٍ تاريخي افتعلته الصراعات القديمة والحديثة على الموارد والسلطة، فأساءت إلى معنى الوحدة الإنسانية، ومعنى التطوّر البشري في السّياقِ الحضاريّ، وقسّمت كوكب الأرض إلى مُتنازَعَـات يفرض فيها «الغالبُ» ثقافته على «المغلوبِ» وفقاً لمصطلحات ابن خلدون، فتضيع حقائق كثيرة، وترتجّ ثقافات عديدة، إلاّ ما كان منها شديدَ الرّسوخ، عميقَ الجذور. وفي طليعةِ الراسخاتِ لغتُنا العربية التي تستمرُّ تقاومُ الرّزايا بالرغم مما في دول العرب اليوم من رُزْءٍ وهوانٍ واستلاب، لكأنَّ هذه اللّغة تتصدّى لحال الانفصام بين ما تمتلكه من شِحنةٍ حضارية عالية، وبين ما تتردّى فيه دُوَلُها من وَضاعة الموقف والموقع والرؤيا وضاعةً ماحِقة لا يقبلها في هذه الأمّة أيُّ كريمٍ واعٍ عاقل.
وإذا كانت الأمم المتحدة قد اعتمدتِ العربيةَ رسمياً عام ثلاثة وسبعين من القرن الماضي، فإنَّ هذا الاعتماد هو الشكل القانوني الذي أجاب طلبَ بعض الدول العربية، غير أنَّ الأهمّ هو فاتحة المعركة السياسيّة من أجل ذلك، وهذا ما قام به القائد العربي الرئيس الراحل جمال عبد الناصر يوم تحدَّث باللغة العربية من على منصّة الأمم المتحدة عام 1960 مُجْبِراً الجميع على الترجمة والتوثيق نقلاً عن لغته العربية التي لم تكن آنذاك مُعتمدةً في الجمعية العامّة للأمم المتحدة.
قرار عبد الناصر كان نابعاً من قناعته بأنّ العرب يجب أن ينتقلوا من حال المغلوب إلى حال المُغالِب الذي يريد أن يستردّ حقوقه وحريته من براثن الاستعمار، فاختار المواقف التحرّرية في السياسة، والتمسّك باللغة العربية في الثقافة، ليؤكّد أن لغة الضاد هي مَعْلَمٌ أساسيّ في هويتنا القوميّة والحضاريّة، وأنّ المعركة تقتضي التكامل بين السياسة والثقافة، فلا انتصار مع الانفصام بين الإثنتين، ولا تتقدّم الأولى من دون الثانية، ولا تكون الثانية فعّالة من دون الأولى.
هذا التوازن التفاعلي بين السياسة والثقافة مفقود – للأسف- في مجمل الحياة السياسيّة العربية الراهنة، بالرغم من حاجتنا الماسّة إليه.
إنَّ الغالبيّة الساحقة من أصحاب السلطة في «دولِ» الوطن العربي اختارت مصالحها الطبقية والسلطويّة، وتحالفت سرّاً وعلناً مع الاستعمار الحديث الذي لا يكتفي باحتلال الأرض بل يريد احتلال اللغة والعقل أيضاً، كما اعتمدت هذه السلطات أسلوب القهر والاستبداد، ووقفَتْ ضدّ المواطن العربي النّزاع إلى الحريّة والتحرّر والعدالة والكرامة، فارتسم التناقض العميق بين السلطة والناس: هي تعتدي على فكرة الوطن بكلّ الأساليب، بما فيها الاعتداء على اللغة العربية ومخزونها الثقافي، وهم، الناس، يصارعون في غالبيّتهم ضدّ هذا الاعتداء، ولولاهم لكانت اللغة العربية اليوم من الآثار الدارِسة.
لولا هذا التردّي السياسي لما كانت اللغة العربيّة تتعرّض اليوم لهجماتٍ شرسة، ولولا الردّ من النُخَب الوطنية العربية المقاوِمة، لما كان هذا الدفاع المستميت عن اللغة العربية بوصفها ركناً بارزاً من هويتنا الحضاريّة، ومن حَراكِنا الذي سيمتدّ أجيالاً كي نتحرّر فنعودَ إلى النهوض والفعاليّة الحضاريّة في العالم. ربّما لم ينتبهْ كثيرون إلى هذا التلازُم بين السياسة والثقافة، فمعركة اللغة العربية هي معركة سياسيّة مثلما هي معركة أكاديمية. وإذا كنّا قد أشرْنا إلى موقف عبد الناصر فلأنَّ في خلفيّته وعياً بمصيرِ العرب، وبدور اللغة في هذا المصير، فضلاً عن ردّه التاريخي على مقولة الاستعمار الإنكليزي التي مثّلها شعار «لورد دوفرين» [LORD DUFFERIN] حينما قال عام 1882 [قبل 78 عاماً من خطاب عبد الناصر بالعربية في الأمم المتحدة]: «إنّ أملَ التقدّم ضعيف في مصر ما دام الناس يتعلّمون العربية الفصحى».
تكشف كلمة «لورد دوفرين» عن الأفق الاستعماري المستمرّ للهجوم علينا من الخارج ومن الداخل، ولا سيّما من الداخل اللغوي والثقافي. ولم أقع بين الوثائق على ما هو أشدّ وضوحاً (في هذا المجال) من كلمة «لورد دوفرين» بالرغم من وجود كثير غيرها، وبالرغم من تبدّل الأدوار الاستعماريّة حيث تقود الولايات المتحدة مع إسرائيل وحلفائهما، ومعهم بعض العرب هذهِ الهجمة الشرسة بمشاركة أطيافٍ خطيرة من المُثقّفين الذين يرفعون شعار استيراد الحداثة من الغرب من دون أن يأخذوا في عين الاعتبار التسرّب الاستعماري تحت عنوان الحداثة، وإذا كنّا لا نرفض التحديث، كونه سمةً من سمات التطوّر، فإننا نؤكّد أن كل شعب ينتج حداثته بالتفاعل مع غيره لا بالاستتباع له، وبالارتهان لمصالحه.
أبرز الهجمات تركّزت على العربية الفصحى كونها العامل الثقافي الوحدوي بين العرب، فتدمير الفصحى يسهم في التفكيك والتشرذم، وفي توظيف اللهجات المحكية المحليّة في لعبة اصطناع انتماءاتٍ «قومية» ضيّقة، وصبغها بصبغاتٍ ثقافية تحول دون التجمّع والوحدة. ولقد استخدمت هذه الهجمة أسلوبَ التزوير العلمي فقالت إن ما يتكلّمه العرب هو غير ما يكتبونه، ويجب أن يكتبوا كما يتكلّمون، أي يجب إسقاط نظام اللغة وتحويلها إلى فوضى.
لقد غيَّب هؤلاء حقيقة أن كلّ شعوب العالم يتكلّمون يومياً بغير ما يكتبون علمياً وأدبياً. وهذه ظاهرة طبيعية في اللغات، فلماذا يجري حصرها باللغة العربية، ولماذا هذا المجهود الذي دعمه الإنكليز والفرنسيّون ثم الأميركيون لتحطيم اللغة والترويج للمحكيّات لولا أن هدفهم هو ضرب ما تبقّى من حياة العرب من الداخل الثقافي بالتلاقي مع ضربهم من الخارج الجغرافي والسياسي والاقتصادي، ومع الاحتلال المباشر وغير المباشر في فلسطين وغيرها.
يقولون، ويشاركهم بعض المُثقّفين العرب، إنَّ اللغة العربية لا تستوعب حضارة العصر، وهذا منافٍ للواقع منافاةً كلّية، فلغة الضادّ منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة تفاعلت حضاريّاً، فأعطت غيرها من اللغات، وأخذت من غيرها، وكُـتِبت بها العلوم والآداب، بل حَفِظَتْ علوماً وآداباً وفلسفات ما كان ليصل أكثرها إلى أوروبا والغرب لولا اللغة العربية، ومؤلفات ابن رشد خير دليل، وهناك آخرون لا تتّسع هذه المقالة لذكرهم.
إنَّ علمَ اللغة العام، ودراسة أنظمة النحو والتركيب الصرفي، يبرهنان أن نظام الاشتقاق من الأفعال والأسماء في اللغة العربية هو أوسع نظام بين لغات العالم، ما يدحضُ قطعياً المزاعم التي تدّعي بأن لغة الضاد غير قادرة على التوليد والتكيّف أو على استيعاب الألفاظ الوافِدة بتأثير التفاعل الحضاري. إنَّ نظرةً سريعة على معاجمنا الكبيرة تؤكّد أن في لغتنا نحو ثمانين ألف جذر لغوي مستخدم وحيّ، يمكن اشتقاق ستّ كلمات من كلٍ منها على الأقلّ. ثمَّ إنَّ نظرةً على معاجم اللغات الإسبانيّة والفرنسية والإنكليزية على سبيل المثال لا الحصر، تبيّن لنا وجود مئات الألفاظ العربية في هذه اللغات، مثلما تفاعلت اللغة العربية القديمة مع اليونانية والفارسية والهندية والأورديّة، فضلاً عن تطوّرها المشترك في الحقب السالفة مع شقيقتها الآراميّة/السريانية بشقيّها الغربي والشرقي، فكيف تكون عندئذٍ غير قادرة على التكيّف؟ وعلى التطوّر؟
لو أنّ السلطات العربية، ولا سيّما في مرحلة الكيانات العربية التي أنشئت بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، كانت سلطاتٍ تريدُ بالفعل وطناً عربياً، لكانت أولت الاهتمام باللغة العربية، كي تدرّس بها العلوم، وتنهض حركة الترجمة، وتتعزّز الآداب. ولولا بعض التجارب الناجحة في مصر والجزائر وتونس وسوريا على مستوى كتابة العلوم باللغة العربية لكنّا فقدنا الأمل، ولكانت حجّة أعداء العرب واللغة العربية قد أتت أُكلها.
لا يتّسع المجال لمطوّلات في إظهار الخصائص الاشتقاقية الواسعة والرائعة في اللغة العربية، وربّما تكونُ هذه النقاط موضوع مقالةٍ أخرى، لكننا في اليوم العالمي للغة العربية (18/12/2017) هذه السنة، نزداد قناعةً بأنّ الدفاع عن اللغة العربية هو دفاعٌ عن أرضنا ووطننا وشعبنا وحريتنا وهويتنا القومية والحضارية بوجه الاستعمار الحديث، وموجة ما يسمّى العولمة، وهي عولمة مؤمركة ومُغربنة ، لا تمتّ بصلةٍ إلى العولمة الإنسانية التي عرفتها الشعوب في كثيرٍ من مراحل تاريخها الحضاري الطويل، وفقاً لما يرى مؤرّخ الحضارات أرنولد توينبي، لا كما يرى مزوّر الحضارات ومُبتدع مقولة نهاية التاريخ فوكوياما.
الدفاع عن لغتنا هو معركة سياسيّة لا ثقافيّة فحسب، وهي في هذا الإطار نوع من المقاومة، مثلما هي المقاومة في فلسطين وغيرها من بلاد العرب. إنَّ جدلية التلازم بين الثقافة والسياسة تفرض نفسها، والمعركة بهما ولهما ومن أجلهما هي معركة واحدة، ولهذا لا يكفي الاحتفال بيوم اللغة العربية العالمي على أهميّته، بل يجب أن تكون اللغة جزءاً من معركتنا الشاملة لتحرير الأرض والإنسان في الوطن العربي.
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]