إنه العدم يا أبي

"من الثقب في جبهتي، تسيل الصور لزجة على عيني، وتحجب عني المشهد"

أرى المقابر تنمو كمآذن، ويجلجل الذعر في قلبي ككنيسة في جمعة الآلام

كلما اخترقتْ رصاصة جسد صديق، استقرّت في رأسي
تضطرب الأرض، هرج ومرج.. عويل وصراخ متوتر، وتراشق تهم.. تلاطم، وفوضى أشخاص.

جميعهم يهرعون إلى تشييعه أو رثائه، أما أنا فأتسمّر مذهولة في مكاني محاولة استيعاب ما حصل للتّو، منشغلة عن كل الموجودات بإيقاف نزيف الذاكرة.

من الثقب في جبهتي، تسيل الصور لزجة على عيني، وتحجب عني المشهد.

لا أراهم، جميعهم لا أراهم..

المستشقرة بشفتيها المكتنزتين تروّج أنها حبيبة الشهيد لمجرد أنه صافحها يوماً، لا أراها.

الفقراء ينوحون كحمائم فقدت للتو يداً اعتادوا أن تمد لهم يد الخير، لا أسمعهم.

أصحاب ربطات العنق الأنيقة والأحذية الفاخرة، يفركون أكفهم بانتظار الحفل التأبيني ليلصقوا وجهه كعلامة تجارية على خطاباتهم الرخيصة، على غير عادتي لم أستحقرهم.

ولم أبكِ لرفاق السلاح، يشيّعون به أجسادهم، يتمددون في نعشه، ويعيدون خلق المشهد.

ولم أبصق في وجه لصوص المواقف، ممن لم يقفوا يوماً وقفة شرف، ينتظرون كغربان نزيف شهيد، ليوَّضِئوا بدمه الشريف نذالتهم.

بكاء أحبّته، فاجعة أهله، حزن أصدقائه.. كلّ ذلك لا أراه.

تشخص عيناي إلى هناك، حيث كان ممدّداً على ظله قبل قليل.

أرى المقابر تنمو كمآذن، ويجلجل الذعر في قلبي ككنيسة في جمعة الآلام.

لا أحد إلاي في هذا الرّعب، جميعهم، ذهبوا..

وضبوا حقائبهم المنكهة على عجل، وذهبوا..

الأصدقاء يسقطون كما الشهب في المنافي والمقابر.

أهيم على وجهي كمَن أصيب بمسّ شيطاني، أصرخ، أبكي، أركض دون وجهة كفأر مذعور..

أهلوس.. أسقط على ركبتيّ، تهوي بي الأرض.

أسمعُ صوت أبي، ولا أراه.. أبحث عن يده في الظلام.

أبي يصرخ: "بيسان لا تفقدي الوعي، خليكي مركزة معي".

أنشج: أبي، يا أبي. نزفت ذاكرتي كلها يا أبي من ثقب الرصاصة، ودخلتُ في ثقب اللاشيء
إنّه العدم يا أبي..

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]