أربعون يوماً على خسوفك
فَقدُ الأحبّة يا أبي كما كنت تقول لي متذكّراً أمّي المتوفيّة إنه "مثل الحصبة يترك آثاراً لا تُمحى".
في معقل الذكريات وملتقى الطفولة، في ديار بدايات فصول ربيعنا، في مدينة كل مافيها يذكّرني بطفولتي وإخوتي. هذا الحب الوحيد الذي رغم البُعد لا يقتلع من جذوره ... التقينا مجدّداً. التقينا على غير موعد وغير ترتيب وعادة. لم يكن البيت السعيد نفسه. لم يكن يوم الفرح بالعودة إلى بيت العائلة المُفضّل. كما لم يكن يوم الجُمعة بجَمعتنا ولا بيت الدفء واللجوء للراحة والأمان، بل كان موعداً حزيناً ومفجعاً في مكان ضاعت ملامحه في حربٍ طاحنة لعنت كل شيء جميل وهدمت كل زوايا الذكريات.
للبيت أعمار من عمر حيوات أهله. أخذ كل شيء في البيت يتناقص ويضمحل حتى جاء الدور على أهله. مضت السنوات الثلاث الأولى ولم يعد من أهل البيت أحد. أما مَن ظل منهم على قيد الأمل فقد استمر في الانتظار حتى السنة السابعة من عُمر الأزمة. لكن لم يبقَ لنا إلا الركام والذاكرة.
عندما رنّ هاتفي منتصف تلك الليلة، لم أكن أعرف أن فحواه سيودي بي إلى الهاوية، وأني بسبب هذا الاتصال سأفقد استقراري، أمني وأماني، ويجتاحني خليط من الشعور واللا شعور. أحسست بأن كل شي انطفأ. خبر موتك اعتصر قلبي وجعل الألم يلفّني.
فَقدُ الأحبّة يا أبي كما كنت تقول لي متذكّراً أمّي المتوفيّة إنه "مثل الحصبة يترك آثاراً لا تُمحى".
كيف لي أن أبقى على حوار مستمر مع وجه لا يراني؟ أن أظل أسيرة طفلة بحاجة إلى أبويها وافتقدهما باكراً؟
في طريق السفر كنت أنطق باسمك وأناديك طوال الساعات التي لم أملك فيها لنفسي لا حول ولا قوّة. كنت كمَن يسير نحو هلاكه من دون إرادة.
يظهر أن حجارة بيتنا اشتاقت لك ولكن شوقك لها كان أكبر. فأنت كنتَ تتمنّى أن تكونَ أول القادمين، أول العائدين، أول الراجعين لبيتنا المدمّر وجذورنا. لقد كنتَ أولنا فعلاً. أنت الرجل الذي إذا مشى على الأرض لا يستأذنها. يهزّها بعنفوانه وإرادته وحبه للحياة. لكن شوقك لأمّي لم يعد يحتمل. هكذا التقى القمران تحت السماء، تحت الركام، تحت التراب.
الأنانية تسكننا يا أبي العزيز لأننا نفكّر بأنفسنا عند غياب مَن نحب. ماذا سنفعل؟ وماذا سنتكلّم؟ ستنقطع جميع وسائل التواصل العصرية التي لقنّاك إياها. علّمناك لغتنا على هواتفنا الصغيرة لنتجاهل الغربة وندّعي القُرب؛ ونجدك بشكل أسرع، كما علّمتنا كيف نقرأ صغاراً لنجد الربّ الذي يرعانا ويصبّرنا في غيابك، بل في غيابكما. هذا الغياب المنقطع النظير.
غيابك يا أبي أظهر عيوب آلامنا المدفونة التي كنا نواريها أمامك خشية حزنك وشوقك لأمّي. كنت تحوطنا بحنانك كأننا وصية أمّي لك التي كلما كنت تأتي على ذكرها، تحوّل ذكراها هيّناً وهنيّاً حيث ينتهي بدعاء من القلب يبلسم الروح.
غيابك يا أبي جعلنا نتعرّى أمام الطفل الذي بداخلنا. أصبح ظهرنا مكشوفاً أمام الأعداء وأمام الموت!! نعم أعداء! وكم هم كُثر يا أبي. كثرتهم تجعلنا نستدرك الكلمة والفعل، لا كما علّمتنا العفوية والصدق، لكن ما كان يحمينا هو دعاؤك وجناحك. علماً أنه لَمْ يَحدُث أن أصَابني ضرر في المرّات التي تصرّفت فيها كَشخص بغيض. ذلك أن المرّات التي كنتُ فيها شخصاً لطيفاً وحدها هي التي آذتني!
ماذا أقول لأطفالي عن الموت؟ لا يستوعبون فكرة الموت والغياب. لا يتحمّلون فَهم هذا المعنى لأنه جارِح ولا زالوا صغاراً على الجرح يا أبي.
الأيام الأربعون مضت، وكم أربعين منها مضى من قبلها، لكن طمعنا وجشعنا وركضنا خلف هذه الحياة القاسية حرمنا منك ومن جلساتك الثمينة. هدرنا وقتنا بسجالات تافهة لا تنتهي. طمعنا بالغد، بالمستقبل. الطمع بوجودك وحسّك في الدنيا الذي لا نحسب حساباً لغيابه وكأنه "خالد" كإسمك.
أعلم أنك نائم وتسمعني. لماذا لم أرجع لكَ يومها؟ لماذا لم أسألك في آخر لقاء بيننا وأنت توصيني بنفسي وعائلتي الصغيرة وبأولادي؟ لماذا لم أستغرب إلحاحك بأن انتبه على نفسي؟ لماذا؟
لماذا لم آخذك في حضني فضاعت مني فرصة لا يمكن أن تتكرّر أو تعود أبداً؟
لعلّ صدورنا تحوي ما لا نستطيع البوح به أو نتحمّله، لكن معك كنّا نستطيع. على تلك القطعة الخشبية عندما ارتديت ثيابك البيضاء الأخيرة، شحّ قنديل القمر ليلتها وكأنه يعلم بما يعترينا. إنه الخسوف الأخير. قبّلتُك. عانقتُك عناقاً طويلاً لكن لم تلفّني راحتيك هذه المرة، ولم تمسحا على شعري وتشمني بضمّة المشتاق. لم يصدح صدى صوتك كالعادة بكلمة "الله يرضى عليكِ". كان كل شيء في هذا اللقاء الأخير أفعله بدلاً منك. استحلفتك وشدّدت عليك بأن تسلّم على أمّي كثيراً.
في لحظة ضعف وحزن استحلفتك بالله يا أبي بألا ترحل لأنني لا أقوى على غيابك. أنت قوّتي وثقتي وسندي.
في لحظة الضعف تلك سألت نفسي إلى أين سيذهب هذا الجسد وتلك الطاقة وهذا الحب المفعم بالحياة ولمن حولك.. إلى أين؟
لكن بعد مضيّ أربعين يوماً أدركت بأن روحك بيننا ومعنا. عرفت بأننا محظوظون بأب مثلك. أعدك بأن تبقى نصائحك ووصاياك وكل ما كنت تحبّه لنا أمانة في أعناقنا. سأذكرك كثيراً أمام أطفالي وسيذكرون عن تفاصيلك الصغيرة المُحبّبة.
أبي الغالي، هناك أشخاص تحبّهم من أجل حروفهم، وهناك أشخاص تحبهم هم وحروفهم. ستبقى في نفوسنا كإسمك "خالد". الرحمة لروحك.
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]