حوامدة للميادين نت: اليهود يستكثرون علينا كنفاني ودرويش
هو شاعر فلسطيني اعتقل أكثر من مرة من قِبَل الجيش (الإسرائيلي) واعترف أحد الضباط في جريدة سويدية أنه كان السبب في إبعاده عن مدينة الخليل. موسى حوامدة حلّ ضيفاً على الصفحة الثقافية في الميادين نت، وهنا نصّ الحوار الذي أجراه معه أوس أبو عطا.
مَن هو الشاعر التي تقفّيت سطوره وخرج صوته من حنجرتك في قصائدك الأولى؟
كان أبو تمام. أول شاعر قلّدته في قصيدته إلى المعتصم عن فتح عمورية، "السيف أصدق إنباء من الكتب/ في حده الحد بين الجد واللعب/ بيض الصفائح لا سود الصحائف/ في متونهن جلال الشك والريب". حينما كنت في الصف الثاني الإعدادي، ولكثرة ما ردّدت القصيدة حفظتها، كتبت على غرارها عن عودة الحجّاج، وحفظت قصيدة إبراهيم طوقان "هو بالباب واقف/ والردى منه خائف/ فاهدئي يا عواصف/ خجلاً من جراءته/ صامت لو تكلما/ لفظ النار والدما/ قل لمن عاب صمته خلق الحزم أبكما". كما حفظت بعض أبيات لمحمود سامي البارودي، "سواي بتحنان الأغاريد يطرب /وغيري باللذات يلهو ويلعب" إلخ... وبدأت أكتب شعراً عامودياً. وفي المدرسة الثانوية تعرفت على شعر توفيق زياد، وسميح القاسم، وفدوى طوقان ومحمود درويش، لكن الشاعر الذي أثرّ فيّ كثيراً كان بلند الحيدري وأنا في بداية دراستي الجامعية صرت أقرأ لنازك الملائكة وللسيّاب، ولكني أحببت شعر الحيدري وتعلّمت منه تدوير شطر التفعيلة، وحين نشرت قصيدتي الأولى "احتراق" عام 1981 قلت فيها:
لم يبتدئ في الحب
لكن المراجيح البعيدة
والقصيدة
والمني
أهدينه لتقاطع الطرقات...إلخ
ومنها:
والطريقْ
من بيتهم للسوقْ
تحترف الذبول
مذ كان يحمل سلة الصرخات
قاموس الشتائم والفضول.
إلخ
وجدت حلولاً جديدة للتعامل مع التفعيلة تختلف عن الشعر العامودي، والآن أقول لك إن كل الشعراء الذين قرأت لهم في تلك المرحلة أثّروا فيّ ومن بينهم امرؤ القيس، طرفة بن العبد، عنترة، أبو نواس، المتنبي، جبران، إيليا أبو ماضي وحديثاً، أمل دنقل، نزار قباني، صلاح عبد الصبور، مظفّر النوّاب سميح القاسم فدوى طوقان عبدالوهاب البياتي ، محمّد الماغوط ، أدونيس ، أنسي الحاج وغيرهم، ولكني لم أتجسّد شخصية شاعر مُحدّد.
بديهي ربما أن يكتب الشعراء قصائد انفعاليةً في دواوينهم الأولى ثم إبداء ندمهم لاحقاً، قبل انتقالهم إلى الشعر الأعمق. لماذا حتميّة المرور في هذه المراحل؟
لم أمر بهذه التجربة ولست نادماً على إصدار مجموعتي الأولى "شغب". بل ما زلت أعتبرها بداية حقيقية لتجربتي، كانت كلها قصائد عن الانتفاضة والتظاهرات في فلسطين. كتبت عن القدس ويافا وحيفا والخليل وغزّة ويعبد.
كنت خارجاً للتوّ من الضفة الغربية، وكانت رائحة الغاز في ذاكرتي وهراوة المحتل على جسدي. نعم الآن صار هناك اختلاف بيني وبين كتابتي الأولى، وذهبت للشعر الوجودي والإنساني، وعلّمتني الحياة الكثير، وصاغت تجربتي بطريقةٍ مختلفة، لكنني لا زلت أقرأ قصائد مجموعتي الأولى في بعض اللقاءات، ولا زلت أحفظ بعض قصائدها، ولست من الذين يتنكّرون لبداياتهم ويخفونها، إذ من الضروري أن تظل التجربة الأولى شاهداً حقيقياً على البدايات، ومن ثم التحوّلات التي يمر بها الشاعر وتجربته.
لكن مغادرة البدايات ضرورية لكل شاعر، لكي ينجو من نفسه أولاً، وتتّسع لديه الرؤية والرؤيا.
ذقت مرارة الأسر والاعتقال، لماذا يهاب المحتل والحاكِم المستبد الشعر؟ وهل تمكّن الشعر في العقود الفائتة من تأدية دوره؟
جاءت الحركة الصهيونية إلى فلسطين وهي تمنّي النفس بطمْس الهوية العربية فيها، وتلغي الرواية الفلسطينية تماماً، وتقيم روايتها التوراتية، ولكن فوجئوا أن هذا الشعب حيّ، وليس قابلاً للفناء، وأنه يستطيع أن يُنجب الشهداء والفدائيين والشعراء والروائيين والكتّاب والفنانين وليس اللاجئين فقط.
ولأن اليهود يقدّرون قيمة الإعلام والفن والأدب عموماً، فهم يستكثرون على الشعب الفلسطيني ظهور مثقّفين فيه من طراز إدوارد سعيد وغسان كنفاني وناجي العلي وجبرا إبراهيم جبرا ومعين بسيسو ومحمود درويش وإحسان عباس وعلي فودة وفواز عيد وفواز تركي وعز الدين مناصرة ومحمّد القيسي وغيرهم، فهم يعتبرون الفلسطيني الجيّد هو الفلسطيني الميت، لكن من سوء حظهم أن الوجدان العربي صار فلسطينياً، والشعر العربي كرّس جلّ أغراضه للمقاومة والدفاع عن فلسطين، وترديد إسمها من الجواهري وعبدالكريم الكرمي وهارون هاشم رشيد وعمر أبو ريشة وطوقان وعرار وغيرهم، وبرز شعراء فلسطينيون سواء في المنافي والشتات أو في داخل الأرض المحتلة، يتغنّون بفلسطين ويخلّدون إسمها ويحفرون عميقاً في روح المقاومة والإيمان الحقيقي بأن فلسطين لأهلها وليست للاحتلال.
لا ينزعجون لمجرّد ذكر إسم فلسطين فقط، بل لأنهم يقرأون ويفهمون معنى أن يصبح الفلسطيني شاعراً عربياً وإنسانياً مقبولاً في العالم وفي الوطن العربي ، وهم يدركون أن "ما يتبقى يؤسّسه الشعراء" كما قال هولدرلين. وهذا حتماً يزعجهم ويضايقهم، فقد جاؤوا مؤمنين بالدعاية الصهيونية الغربية أن فلسطين بلا شعب فإذا فيها شعب حيّ وقادر على خلق أجيال من المُثقفين والمُبدعين والمقاومين والشعراء المُجيدين.
معروف عنك أنت قارئ نَهِم للرواية، وأنك كتبت قصيدة ( حكمة الكولونيل ) في رواية "ليس لدى الجنرال من يكاتبه" للروائي العالمي غابريال ماركيز. لكن لم تكتب أية قصيدة في روايات غسان كنفاني وبالأخصّ "عائد إلى حيفا" التي أذهلتك؟ لماذا؟
لم أخطّط لكتابة قصائد عن روايات معينة وكانت هذه هي القصيدة الوحيدة التي أكتبها عن إحدى روايات ماركيز. في القصيدة توضيح لأسباب كتابتها، لكن لا يمكن ان أكتب قصيدة عن كل رواية تعجبني. أمّا غسان فهو متغلغل في الروح الفلسطينة والعربية وهو من مؤسّسي الكتابة المقاوِمة، حتى لو لم تظهر ملامحه بشكلٍ بارز وصريح. ولكن وردت لديّ إشارات عدّة عن روايات غسان مثل "رجال تحت الشمس"، وعدم طرقهم جدار الخزان، تتأتّى أفكار غسان كما قلت خلال القصائد والكتابة عموماً فهو من مؤسّسي الأدب الفلسطيني المقاوِم.
تقول في قصيدتك (سأمضي إلى العدم) "لا شاعر لي/كل الشعراء الذين أحببتهم لصوص أوراق أو كتب". علامَ اعتمدت في إدعائك هذا؟
لست مضطراً لنفي القصيدة فقد قلتها، وأعني ما قلت لأني اكتشفت أن بعض الشعراء العرب الذين نحبهم لا يتورّعون عن السرقة بلا ضمير، والنقّاد يتجاوزون ذلك، أو يُغمضون أعينهم عن ذلك، وكثير منهم يخشى أن يقول شيئاً من هذا القبيل، فتنعقد حال من النفاق العام تتمثل في أنهم يقولون همساً ما يخالف ما يكتبون علناً، هؤلاء هم الذين يذكّرونك بقول جوبلز "كلما سمعت كلمة مثقف تحسّست مسدسي".
ما هي أضخم مشكلة يواجهها الشاعر العربي؟
أن يواجه نفسه أولاً وأمراضه وعقده النفسية، فإن نجح في ذلك قد ينجح في خلق حال ثقافية حضارية مشرقة وحال شعرية مميّزة وليس دوياً. أقصد أن يكون نفسه بلا ادّعاء. أن يكون حقيقياً وليس مزّيفاً. أن يقول ما يؤمن به ويكتب إن كان موهوباً من ذاته، من دون أن يقوم بتقليد غيره. والاجتهاد في التراكيب والتأليف، وأن نتعامل مع الفكرة لا مع الشخص، ومع الطائر لا مع العش، ومع النص لا مع صانعه.
كثيرون للأسف يتماهون مع الشارع والإجماع أو الرأي العام، وهم لا يقتنعون بما يقولون، يجارون الجمهور، والشاعر الحقيقي ليس مضطراً لمجاراة أحد. كن نفسك ولا تأبه بالآخرين. أرى الكثيرين يكتبون عن أحداث وطنية وشخصيات وطنية لمجرد مواكبة الظاهرة، شخصياً لا أستطيع كتابة قصيدة عن عهد التميمي الآن مثلاً، أو صفقة القرن، وهناك من يكتب بسرعةٍ لأي حدث سياسي، لا أجيد ذلك.
أنا أكتب ما أفكّر به وما أشعر وأقتنع به، ومن خلال تجربتي نفسها، ولا أحسب أن أكون مع الشارع. فالشارع يريد شعراً سهلاً أو شعراً في الغزل والحب، أو شعراً وطنياً مباشراً. هناك جمهور يريد أن يسمع ما يريده هو وما يفكّر به هو ويطرب لذلك ويصفّق. لهذا توجّهت لقصيدة النثر، خروجاً على الطنين الدائم والقوافي التي تُعرَف قبل أن تُقال، وخرجت على السائد، لأني صادق مع نفسي، ولا أتمثّل مايريده الآخرون.
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات الثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]