استراحة كاتب

كأنني أرفع وجهي وأفتح عينيَّ وأطالع العالم لأول مرة.

استراحةُ كاتبٍ

قرّرت هذا اليوم أن أتأمّل ما خلق الله وما هيّأت البلدية من حدائق وشوارع، وما لم أكن أُعيرُه اهتماماً من قبلُ كاللافتاتِ وألوانِ المنازلِ وأشكالِها والجدران وواجهات المحلات وكراسي المقاهي التي وُضعت بشكل منظَّم في مساحة خصّصت للمارة. قرّرتُ أن أريح عينيَّ بألا أسْرَحَ بهما بين الحروف. هي رغبة في الاستراحة، خصوصاً أنني شعرت بوخز في عينيَّ هذه الأيام بعد جهد كبير بذلته في القراءة والكتابة كعادتي. ليس من عادتي أن أتملَّى وألاحق الناس رجالاً ونساء كباراً وصغاراً بنظراتي؛ فأنا لا أمشي إلا مطأطىء الرأس، حتى إنني في أحيان كثيرة أُفاجَأ بعمود الكهرباء أو شجرة  أمامي فأنحرف عنهما تفادياً للاصطدام، كما أنني أتفادى دائماً التطلّع إلى نوافذِ المنازل وأبوابِها المفتوحةِ احتراماً لأهلها.

ومازلت أتذكّر - باسِماً - من حين لآخر صوتاً تناهى إلى سمعي لسيّدة كانت تنظّف عتبة منزلها في الحيِّ الذي أقطنه "لا داعي للاختباء يا ابنتي، إنه فلان، دائم النظر أمامه".

ما أجمل أن تقف وتجول بنظرك في الفضاء الأخضر الفسيح الذي يحيط بالمقهى كأنك تراهُ لأول مرةٍ، وفي الشوارع المليئة بحركة المارّة، ووسائل النقل وأنواع السيارات. كيف لم أنتبه من قبل إلى غزارة هذه السيارات التي لا عِلم لي بعدد من شركاتها؟ ما ألطف أن تبصر كلباً يعبر الشارع فتتوقّف من أجله كل السيارات مُرغَمة ليمرَّ بكامل الزهوّ! الأشجار التي تصطف على جانب الطريقِ استطالتْ واخضرَّتْ أوراقُها، ألمْ تسأمِ الوقوف؟ قدُرها أن تعيش واقفة في مكانها وتموت واقفة. ما أجمل أن تموت واقفة ولا تنحني.

ليس من عادة النادل أن يتطلّع إليَّ بتلك النظرات، كنت أرغب في أن أشرحَ له أنني أودّ أن أستريحَ مما كان يراني غارقاً فيه؛ فالمسكينُ كان من قبلُ يأتيني بقهوتي ويستسمحني أن أحمل كتاباً أو جريدة أو أقلاماً أو حاسوباً ليجد مكاناً على الطاولة لفنجان القهوة. الآن لا أوراق ولا أقلام ولا حاسوبَ، ولا حتى هاتفي، فقد كتمتُ أنفاسَه لئلا ينغِّصَ عليَّ جِلستي. لن أقرأ ولن أكتب سأحرّر نظري من سجنه الذي فرضتُه عليه زمناً طويلاً.

  • قهوتكَ سيّدي !
  • شكراً السي عبد الله... الله ينوّرك..
  • آمين أستاذ...آمين...

تأمّلته كما تأمّلني بنظرات الاستغراب. كأنني أراه لأول مرة وكأنه كان يريد أن يوجّه إليَّ سؤالاً لكنه تراجع ليفسح الطريق لأحد الزبائن الذي لم يصرف نظره عني إلى أن جلس إلى كرسيِّه في اتجاهٍ مخالفٍ لاتجاهِ جلوسي. كنت أريد أن أخبر الجميع أنني أودّ في هذا اليوم أن أستريحَ وأرجو أن يصرفوا عني أنظارهم، ولا يستغربوا تصرّفي. أنا مَن يحقُّ له الآن أن يحملق في العالم من حوله، لأنني منذ أمدٍ بعيد لم أنشغل إلا بالقراءة والكتابة.

مازال هناك ما يستحق التأمّل. المقهى يبدو أوسعَ مما كنت أتصوّر وجميلاً بكراسيه السوداء والبيضاء المُريحة، وطاولاته الرُخامية ذات اللون الرمادي الغامِق. كيف لم أنتبه إلى جمال المكان من قبل؟ لم أكن أرى هذه السيّدةَ التي مَدَّتْ نحوي يداً حاملةَ عُلبَتَيْ كلينكس، أتراها من مُروّجاتِ السلع؟ تابعتْ سيرها ليستوقفها أحد الزبائن ويعطيَها درهماً مقابل علبة! تأسَّفتُ كثيراً... لم أفهم قصدها.

كيف لم أفهم؟ أنا الذي ظننت أنني أفهم ما يجري في العالم كلِّه؛ أنا الذي أقرأ الأدبَ والفلسفةَ والسياسةَ والتاريخَ، أنا الذي أُغْرمْتُ، في وقتٍ مبكر، برواية البؤساء لفيكتور هوغو؟ أنا الذي تعبتْ عينايَ من النبش في كتب القدماء والمُحدثين؛ لم أفهم قصد امرأة فقيرة تبيع ورق الكلينكس وقد تجاوزتِ العقد الخامس. هل ينفعُ أن ألحقها وأقدّم إليها بعض الدراهم مع الاعتذار؟ لا شك أنها ستتساءل وجميع مَن رآني من الزبائن عن تأخُّرِ تصرُّفي الإنساني، لذا من الأفضلِ أن ألزمَ مكاني وأشربَ قهوتي.

كان بودّي أن أسأل النادِل عن الزبائن: هل هم من مرتادي هذا المقهى مثلي أم أنهم من الزبائن العابرين، لكنني تردّدت. كيف لا أعلم ذلك وأنا ألِجُ المقهى يومياً. ما بالهم يوجّهون إليَّ سهام نظراتهم كأنني ارتكبت أمراً مُشيناً. لعلّهم استقبحوا تصرّفي مع بائعة ورق الكلينكس. لا أظنّ، فكم زبونٍ مثلي - للأسف - لم يُعِرْها اهتماماً. لعلّي غريب عن المقهى، لا بل غريب عن العالم كلِّه. كأنني أرفع وجهي وأفتح عينيَّ وأطالع العالم لأول مرة. هل أكون مُخطئاً في شيء؟ لا شكّ أنني مُخطئ في حق نفسي وحق ما حولي ومَن حولي. 

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]

 

اخترنا لك