السامانيولو
هذا الشاب أيقظ في جسدي حلم روحي بأجدادي وأوطاني.
هنا على المقعد الخشبي قُبالة البحيرة ومن حيث لا يدري، سأله "يا تُرى كم نحن اليوم في التقويم الهجري؟" وإذا بعدّاد الزمن يتسارع إلى الوراء مع نبضات قلبه ويقلّب في أوراق روزنامة ورقيّة عُلّقت على حائط مطبخ الجدّة في تلك القرية التي تبعد أفئدة وأزمان.
التفت يساراً وإذا بشابٍ أسمر البشرة ينتظر الجواب، فبادره الكلام بتحيّة أجنبية وأردفها بالسؤال: وأنّى لك أن تعي أنّي بالتقويم الهجري عالِم؟
- هو يومي الأول في لندن يا سيّدي، وعذراً على الإزعاج والوصف فقد رأيت في شيبك ملامِح والدي وفي سُمرة وجهك حدّ الشمس في بلادي فكيف لا أسألك؟
- صدقت يا بنيّ، فأنا في الشرق موطني وروحي، فغربة الأجساد ليست بالاغتراب، في داخلي النخل والأرز والجوري، وأما بالهجري فهذا ذو الحجّة أرسل بطلب الحجيج من كل حدب وصوب.
- أهلاً وسهلاً بك، هذا عنواني ويسرّنيّ أن تزورني. مضى إلى بيته مشياً كعادته عصر كل يوم أحد، يستذكر الحوار، يتفكّر في شيبه، في الروزنامة، في الهجري، في الميلادي، في الحائط، في المطبخ، وإذا بالدمع يفيض من عينيه عند الجدّة، يالله وعلبة "السامانيولو" و"الدروبس". عند باب المنزل علّقت ورقة بيضاء كتبت عليها "مررت أصطحبك في نزهة"، فهي لا تحب المُهاتفة أو الموعد، فيها خِصال مشرقية موروثة من جدّتها لأمّها بالرغم من رسمها الأوروبي.
في الصباح عند محطّة الحافلة سألته عن أمسه في ما أمضاه فروى لها قصة الشاب في المُنتزه واسترسل "أتذكرين عزيزتي ذاك اليوم الذي لم نلتق فيه صباحاً وبرّرته بالنوم العميق؟"
- نعم أذكر، ولكن؟
قاطعها وأكمل، "يا حبيبتي هناك أيقظني الحلم لأعي غربة جسدي عن روحي والبارحة هذا الشاب أيقظ في جسدي حلم روحي بأجدادي وأوطاني. أفكّر حبيبتي بالعودة إلى بلادي حيث تركت طفولتي في منزل الجدّة، فانظري اليوم لرأسي يشتعل شيباً".
رقّت عيناها لكلامه ومسحت على شيبه بكفّيها ورسمت قبلة على وجنته وغمرته وربتّت كتفه وهمست في أذنه "أوتتركني وحدي لأجيبه عمّن أوجده؟" وأخذت يده ومرّرتها بدفء على جسدها.
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]