"إيقاعات زمن مختلف": معرض استيعادي يستعيد حق العودة
توفيق عبد العال فنان فلسطيني راحل، جسد هجرته القسرية من مدينته عكا في نكبة فلسطين، أعمالا فنية رائدة، ويستضيف أعماله دار نمر في بيروت حيث عبق عكا، وفلسطين يفوح من أعماله.
يوم حمل توفيق عبد العال طفولته ومشى، من مدينته عكا إلى بيروت، لم يكن ذلك قراره. في عمر العشر سنوات، لا يملك طفل قرار الرحيل عن بلده ومدينته إلى عالم ناءٍ آخر. لكنه التهجير القسري الذي تعرض له في نكبة بلاده فلسطين هو الذي أتى به إلى بيروت، حيث عاش عمراً طويلاً اختبر أثناءه كل تاريخ المدينة المرتبط بتاريخ فلسطين، وبتطوراتها عاماً عاماً، وحيث كانت بيروت العاصمة العربية الأولى التي احتلها 1982 الذين هجروا توفيق من بيته في العام 1948.
نحا عبد العال في حياته البيروتية، ومنها نحو مختلف أنحاء العالم، المنحى الفني، فذاكرته ما انفكت تلقي على مخيلته بثقل ثقيل، بما حملته من فلسطين: صورها، وحياتها، ومعانيها، وما إلى ذلك من دلالات، فراح يفرغ ذاكرته بتعبيرات فنية مختلفة بالرسم والنحت، وبمشارب فنية متنوعة، يعبر بها عما ما زال يجيش في خاطره من حياة طفولته، أحياناً ملتصقاً بها، وأحياناً أخرى مبتعداً عنها، لكنها لم تكن لتغيب عن رغبته في التعبير عن مكنوناته الوافدة معه من منشأه الأول، وحتى رحيله.
يحمل الفنان عبد العال أمتعته الفنية من لوحات ومنحوتات، إلى المدينة التي عاش فيها، وعاشها بما تختزنه من كافة الأحداث والتطورات، جلها انعكاس لقضيته الأم "فلسطين". يعود في معرض استيعادي للكثير المتبقي من عمله الفني الكبير، يستضيفه دار "نمر" في صالاته الفسيحة في كليمنصو، يظهر مختلف اتجاهات عبد العال الفنية، وفيه التصاق فلسطين، خصوصا مدينته عكا، في ذاكرته، ومنها إلى عمله الفني، في تشكيلية غزيرة، معطاء قدر حب الفنان لوطنه، وحنين لا ينضب لديه انعكاسا لانسلاخه عنه بقسوة، ووحشية قل نظيرها.
في مقدمة المعرض، كلام معلق على واجهة المدخل منسوب للكاتب ناصر السومي الذي آثر أن لا يصف المعرض بالاستيعادي، بل "سيرة حياة نابضة تأخذنا إلى عالم توفيق عبد العال المتجدد المفعم بغنى تجاربه الفنية، وحياته ونضاله، نستحضر مدينته، ملهمته عكا"، معبرا عن نضال الفنان: "نتابع رحيله القسري، فنعثر على حلول الدهشة، والحيرة في ذاته، ولكنه يكسر إيقاعها باللجوء إلى بئر أسراره الأولى المليء بالحلم والانتصار".
في مجموعة اللوحات الأولى المعلقة على يمين الصالة، يغلب الطابع الانطباعي، مع بساطة تشكيل، وألوان، موضوعاتها مستوحاة من مدينته عكا، ومن بلده فلسطين، وبالتأكيد رسمها على مراحل، ولم يكن ذلك إلا بعد سنوات عديدة من مغادرته المدينة، لتؤكد مدى تأثره بماضيه، واستمرار إقامة وطنه فيه.
والغريب اللافت لوحة تشبه النبوءة، تقفز من الثمانينات، زمن الاجتياح الاسرائيلي لبيروت، في لوحة أراد أن يعبر بها عن الواقع العربي الهش المتعارض مع الجبروت الاسرائيلية التي تجتاح كل شيء بوحشية، ولا أحد يقف في وجهها. عبر عبد العال عن ذلك النقيض بين الواقع العربي، والآخر الصهيوني بمقارنة بسيطة في لوحة "طائرة العرب" الورقية. كان عبد العال في حال من اليأس عندما رسم تلك اللوحة، مثله مثل مختلف قطاعات الشباب العربي المحبط في النكبة، والنكسة، والهزيمة. لم يكن يدرك أنه سيأتي يوم تصبح فيه طائرته الورقية التي هزيء بها من الواقع العربي، أداة هزء بالجبروت الصهيوني، ومن يقف خلفه من طغاة الغرب، فإذا غزة المحاصرة تفك حصارها بالطائرة الورقية، ويعجز الصهاينة عن ردعها، ويتدارسون أية تكنولوجيا تستطيع ردع أداة ورق بسيطة اسقطت أعتى التكنولوجيات الموظفة في القبة الحديدية الإسرائيلية.
كثيرة هي الصور العالقة في ذهن عبد العال، إن مما حمله من وطنه وهو راحل على أمل العودة في غضون أيام، أم مما فاقمته التطورات اللاحقة من جراح بليغة على قضيته. جسد في لوحاته ذكرياته عن عكا، وشاطئها الساحر، ورملها البراق. هناك يرسو "شاطيء الأماني".
وهنا تقوم "مدينة الأحلام".
وتتكثف"الأماني بين الأمواج".
وترسو زوارق الأحبة.
وتتضافر الأسماك.
ومنها إلى "يافا" التي كانت عاصمة العرب يوما ما.
لا تغيب عنه صور ناسه، الأمهات.
ولا الأطفال في الانتظار.
والصبايا تقرع على حلم الشباب، وتستقر على زيتياته أشكالاً معبرة، وألواناً متهادية بين زرقة الحلم، وزهو الأمل.
كما لا تغيب المجزرة عن ذهنه، فهي ملازمة لزمنه في تاريخ بلده، ومن أكثرها تأثيراً لوحة "تل الزعتر" الوجه الآخر للنكبة.
أما القدس، فلا يمكن إلا أن تحضر في عمل أي فنان فلسطيني.
موضوعاته تكثيف لزمنه الفلسطيني، ولتطوراتها، انطباعياً، وتكعيبياً، وحروفياً، عابراً مختلف الأساليب الفنية، والأحجام المتباينة في اللوحات، من الكبير، إلى الوسط فالصغير، وصولاً إلى المنمنم. ومن الفن الكلاسيكي التعبيري إلى التجريدي الحديث، ليتحول المعرض بين لوحاته عالماً من الفن المستفيض، وموسوعة رؤى وأحلام باتساع قضيته وأهميتها، قضية العالم الإنساني المعاصر: فلسطين، بلغة تشكيلية خاصة، وأسلوب متميز.
ولد عبد العال في عكا 1938، وهُجِر من أرضه في النكبة، قاصدا بيروت. وبعد اختياره الفن تعبيراً عن معاناته، شارك في عشرات المعارض اللبنانية والعربية، ونال العديد من الأوسمة، منها وسام اللوتس في موسكو، ومرتبة شرف م نمتحف سرسق البيروتي (1970)، ودرع الفنان ناجي العلي في دمشق (1991)، وكان آخرها منحه وسام القدس، في احتفال نظمته نقابة الفنون الجميلة في سوريا سنة 1993.
آخر معارضه أتى بعد غياب عشر سنوات عن المعرض الذي سبقه وتزامن مع احتلال القوات الاسرائيلية بيروت 1982، واحتراق أعماله خلال الاجتياح، فأطل من جديد في أعمال لافتة بمعرض في القاعة الزجاجية في وزارة الإعلام اللبنانية في شباط 1992.