على الطريق.. نُصب تختصر تاريخ النضال الفلسطيني
شاركونا هذه الجولة لنعرفكم على النصب التذكارية التي تؤرخ للنضال الفلسطيني.
إذا استطاع الفيتناميون تجسيد بطولاتهم عبر متحف التاريخ العسكري في العاصمة (هانوي)، فإن الفلسطينيين قد أرَّخوا للكفاح ضد الاحتلال الإسرائيلي ولكن بطريقةٍ أخرى، حيث احتلت النُصب التذكارية ذات الدلالة الثورية والتعبير الفني العميق للمواجهة، مساحة واسعة من الميادين العامة في الأراضي الفلسطينية، وخصوصاً في قطاع غزَّة.
الفيتناميون جمعوا في سبعة متاحف وطنية مُخلّفات الحرب، لكن الغزّيين استطاعوا أن يشكّلوا من هذه المُخلّفات مجسّمات وأعمالاً فنية ذات رمزية مباشرة وأخرى غير مباشرة، حيث رمزوا إلى المقاومة بالأدوات التي واجهت بها الاحتلال الإسرائيلي في ثلاث حروب على قطاع غزَّة خلال ال 10 أعوام الماضية، بدءاً بالصاروخ محلّي الصنع، وليس انتهاءً بالضفادع البشرية التي خاضت مواجهة شرِسة قبالة السواحل المحتلة خلال حرب 2014.
وتلمع النُصب التذكارية من بعيد في عيون المارّة سواء كانوا ضيوفاً على محافظات القطاع الخمس أو للسكان المحليين، فهي في مجملها تشكّل رمزية وطنية لشعبٍ يناضل منذ أكثر من 72 عاماً ضد الاحتلال، فضلاً عن كونها نحتاً فنياً أقل ما يُطلَق عليه أنه عمل "إبداعي"، على الأقل من وجهة نظر الفنانين التشكيليين وكذلك المؤرّخين.
من أشهر هذه النُصب "الجندي المجهول"، كان أشبه بضريحٍ متواضعٍ لجندي مجهول الهوية أُقيم وسط مدينة غزَّة في العام 1956، وبحسب المؤرّخ الفلسطيني سليم المبيض، فإن الاحتلال الإسرائيلي دمَّر هذا النُصب، ثم أٌعيد بناؤه، فعاود الاحتلال تدميره عام 1967، السلطة الفلسطينية أعادت بناءه بإيعاز من الرئيس الفلسطيني الراحِل ياسر عرفات، الذي أزاح الستارة عنه في العام 2000، وقد تمّت إضافة مجسّم لجندي مجهول يعتلي القبر.
"تكرار نُصب الجندي المجهول في عددٍ من البلاد العربية والأجنبية، هو احترام وتقدير لتضحيات الجنود الذين ضحّوا بأرواحهم من أجل بلادهم وماتوا من دون أن تُعرَف قصصهم وهويّاتهم" يقول المبيض للميادين الثقافية مُفسّراً السبب وراء الرمزية الوطنية التي يحتلها هذا النُصب في النفوس، حيث تُقام بالقرب منه الكثير من النشاطات والفعاليات الوطنية وخيمات الاعتصام، فهو يجسِّد ثورية المناضل من جهة، ومن جهةٍ أخرى أصبح ساحة لإيقاد شمعة الثورة ليلة رأس السنة من كل عام.
لكن موجة من الغضب والسخط ثارت بين صفوف الغزّيين قبل عام، بسبب إزالة حكومة حماس في غزّة لمُجسّم الجندي الذي يعتلي القبر لدواعٍ دينية حسب تبريرها، لكن المواطنين وعدداً من الشخصيات البارزة في الفصائل الفلسطينية اعتبرته "تغييراً واستخفافاً لأحد أبرز معالِم الأمل والتضحية لدى الشعب الفلسطيني".
من نُصب الجندي المجهول إلى طائِر العنقاء الذي يرقد على عرض ثلاثة أمتار وبإرتفاع مترين تقريباً في منتصف ميدان فلسطين- الساحة - تمرّ من جانبه العربات التي يدفعها البسطاء من الباعة المُتجوّلين، كما تمرّ أيضاً السيارات الفارِهة، ليُعطي إشارة فنية وتعبيرية قوية على أن الحرية هي صفة مشتركة وأصيلة بين سكان الأرض.
وإذا كان الفنانون الفلسطينيون قد لجأوا إلى الخرسان من أجل صناعة الرموز الثورية، فالفنان شريف سرحان قد حوَّل أكواماً من الخردة ومخلّفات الحروب إلى أعمالٍ فنيةٍ، استطاعت أن تبثّ الروح في الجماد الذي لا فائدة منه.
استفزّت مُخلّفات الحرب الصلبة الفنان سرحان، الذي كان يَعي أن جزءاً كبيراً من هذه الأكوام لن تتم الاستفادة منه أو إعادة تدويره بسبب قلّة الإمكانات، لذا بدأ بتجميع المواد المختلفة من الباطون وقطع المعدن والألمينيوم الملوّن، التي كانت يوماً ما واجهات للبيوت والورشات، قبل أن يُدمّرها الاحتلال خلال الحرب.
من حطام وبقايا المنشآت أقام الفنان التشكيلي "منارة غزَّة" على أرض مينائها البحري غرب المدينة في العام 2016، وتأتي رمزية هذا المُجسّم "لتبثّ الأمل في نفوس الناس، وتؤكّد على أحقيّتهم بحياة كاملة، يتمتّعون فيها بكامل حريتهم وحقّهم في التنقّل والسفر وإنشاء ميناء بحري حقيقي"، كما يصرّح سرحان للميادين الثقافية.
ربما تذكّرنا هذه الرمزية بتلك التي يتمتّع بها دوّار المنارة الذي يقع في مدينة رام الله وسط الضفة الغربية، ففي العام 1951 صمَّم فنان من رام الله نصباً يتألّف من خمسة أسود على عمود حجري محاط بالنوافير وأسرّة زهور، تمّ وصف هذه الأسود الحجرية المُستخدَمة في النصب بأنها "الرموز التقليدية للشجاعة والقوّة والكبرياء".
بالعودة إلى الأعمال الفنية المنحوته من المُخلّفات والخردة، يفيد سرحان بأنه يميل إلى الرمزية غير المباشرة في أعماله، لذا كان عمله الفني التالي عبارة عن قاعدة نَصبَ عليها خمسة حروف عربية منحوته من مُخلّفات الحديد والألمنيوم لتكون كلمة "فلسطين"، مبيناً أن غايته هي أن "أعطي مساحة للتفكير والتأمّل لدى الناس، فكانت الأحرف غير مُرتّبة مما جعلهم يحاولون مراراً وتكراراً تجميع هذه الحروف لمعرفة دلالتها"، البعض نجح في قراءتها والبعض الآخر لم يفلح، لكن كلاهما نجح في تحقيق رغبة سرحان بالتوقّف وتأمّل هذا العمل الذي يقع في حيّ النصر شمال غرب غزَّة.
يعتبر سرحان أن خروجه بأعماله الفنية إلى الفضاء العام "محاولة لتجميل المدينة، ورسالة للفنانين بأن ينقلوا فنونهم من الغاليريهات إلى الشارع، لإحياء الأمل لدى الناس وتجديد فُرَص الالتقاء والمحبّة وتقريب وجهات النظر"، ولهذا يُحضّر سرحان لعمله الفني الثالث والذي سيكون أيضاً في الفضاء العام.
من الواضح أن هذه النُصب لا تبدو أعمالاً فنية فحسب، بل إنسانية تحثّ على أهمية أن تتمتّع جميع فئات المجتمع بحقوقها، وخير مِثال على ذلك النُصب التذكاري الذي أقامه (الاتحاد العام للمعوّقين) عام 2015، حيث جمع العمل أربعة أنواع من الإعاقات "الذهنية، الحركية، السمعية، البصرية" في أكثر المناطق حيوية وسط مدينة غزَّة، في إشارةٍ واضحةٍ إلى جمع تجارب ذوي الحاجات الخاصة وعدم تهمشيهم، وعلى بُعد كيلو متر واحد من هذا النُصب، وفي نفس العام أُنشىء نُصب آخر لذوي الإعاقة من قِبَل (مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعي)، يجمع مختلف الإعاقات مرسومة على مكعّبات ملوّنة، على يد مجموعة من الفنانين والمُتطوّعين.
يبدو أن الفن هو المؤرّخ صاحب الذاكِرة الأقوى لتاريخ شعب كافح الاحتلال منذ ما يزيد عن 72 عاماً. شعب يقتات على الماضي ويوثّق حاضره بمختلف الطُرُق والفنون للأجيال القادمة التي من حقّها أن تعرف ما حلّ وتعاقب على هذه الأرض.
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك المقالات والتحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]