باولو كويلو: سنوات الرصاص التي يريد بولسونارو إرجاعها

باولو كويلو يكتب عن سنوات الرصاص التي يريد جائير بولسونارو إرجاعها إلى البرازيل.

باولو كويلو، 72 عاماً، كاتب برازيلي، له أكثر من 20 مؤلّفاً، ويُعدّ من بين الكتّاب الأكثر مبيعاً في العالم. كان مؤلّف كلمات لأغاني الروك البرازيلية في شبابه، ونشر كتابه الأول، "حاج كومبوستيل"، الذي حكى فيه حجّه الشخصي. عرفه العالم من خلال مؤلّفه "الخيميائي" الذي تُرجِم إلى أكثر من 80 لغة. في هذا النصّ الذي نُشِرَ في صحف عدّة عالمية، يسرد كويلو اعتقاله سنة 1974 من طرف الطُغمة التي حكمت البرازيل من 1964 إلى 1985، وحصص التعذيب وأشكاله التي عانى منها.

 

في 28 أيار/مايو 1974، دخلت مجموعة من الرجال المُسلّحين شقّتي. بدأوا بالأدراج والخزائن لكنني لا أعرف ما الذي يبحثون عنه، أنا فقط مؤلّف موسيقى الروك. واحد منهم، ألطف من الآخرين، طلب مني مُرافقته "لتوضيح عدد من الأشياء". كان الجار شاهداً على الحادث برمّته وقام بإخبار عائلتي التي ذُعِرَت على الفور. كان الجميع يعرفون ما كان يحدث في البرازيل في ذلك الوقت، على الرغم من أن الصحف لم تكن تتحدَّث عن ذلك.

تمّ نقلي إلى قسم الشؤون السياسية والاجتماعية، وهناك تمّ اعتقالي وتصويري. سألت ماذا فعلت، يُجيب أنهم هم الذين يطرحون الأسئلة. يسألني مُلازِم أسئلة سخيفة ويسمح لي بالرحيل. منذ ذلك الحين، لم أعد رسمياً في السجن - حتى أن الحكومة لم تعد مسؤولة عني. لحظة خروجي، اقترح الشخص الذي أخذني إلى قسم الشؤون السياسية والاجتماعية أن نشرب قهوة سوياً. نادى على سيارة أجرة وفتح لي الباب بلطف. أركبُ وأُعطي عنوان والديّ - يجب أن يعرفوا ماذا حدث.

 

سوف تعاني حقاً

في الطريق، باغتت سيارتان التاكسي ومنعته من التحرّك - خرج من إحدى السيارتين رجل يحمل مُسدّساً في يده، وسحبني بعنفٍ من التاكسي. أسقطُ أرضاً وأشعر بأستون المُسدّس على رقبتي. أرى فندقاً أمامي وأقول لنفسي: "لا يمكن أن أموت بهذه السرعة. أغرق في حال جمود: لا أشعر بأيّ خوف، لا أشعر بأيّ شيء. أعلم قصص الأصدقاء الذين اختفوا؛ سأختفي وآخر شيء رأيته هو فندق. يرفعني الرجل، ويرميني على أرضية سيارته ويأمرني بارتداء غطاء الرأس الحاجِب للرؤية.

نحن نسير لمدّة نصف ساعة، ربما. يجب أن يُقرِّروا أين سيقتلوني - لكنني ما زلت لا أشعر بأيّ شيء. قَبِلتُ قَدَري. تتوقّف السيارة. سُحِبتُ إلى الخارج وضُرِبتُ بينما كنت مدفوعاً في ما يبدو أنه ممر. أنا أصرخ، لكني أعرف ألا أحد يستطيع أن يسمعني لأنهم يصرخون أيضاً. "إرهابي!" يصرخون، "أنت تستحق الموت. أنت تُقاتل ضد بلدك. سوف تموت ببطء، ولكن قبل ذلك، سوف تعاني حقاً". من المُفارقات، بدأت غريزة بقائي على قَيْد الحياة في الاستيقاظ ببطء.

نُقِلتُ إلى غرفة تعذيب بها أرضية مُرتفعة. لقد تعثّرتُ عليها لأنني لا أرى أيّ شيء: أطلب منهم ألا يدفعوني، ولكني تلقّيت لكمة في الظهر وسقطت. يأمرونني بخلع ملابسي. يبدأ الاستنطاق بأسئلة لا أعرف كيف أجيب عليها. يطلبون مني أن أخون أشخاصاً لم أسمع بهم أبداً. يقولون إنني لا أريد التعاون، يرمون الماء على الأرض، ويضعون شيئاً ما على قدمي، وبعد ذلك استطعت أن أرى، على الرغم من غطاء الرأس، آلة مُزوّدة بأقطابٍ كهربائيةٍ موضوعةٍ على أعضائي التناسلية.

أدرك الآن أنه بالإضافة إلى الضربات التي لا أرى وصولها (والتي لا أمتلك حتى القدرة على تقليص عضلاتي لتخفيف تأثيرها)، سوف أعاني أيضاً من الصَدَمات الكهربائية. أقول لهم إن الأمر لا يستحق كل هذا العناء، وأنني سأعترف بكل ما يريدون، وسأوقِّع ما يريدون أن أوقِّعه. لكن هذا لا يُرضيهم. حينها، وأنا ضحية اليأس، أبدأ في خدش جلدي وتمزيق قطع منه. انتاب الجلاّدون الخوف بالتأكيد وهم يروني مُغطّى بدمي؛ إنهم يستسلمون. يقولون أنني أستطيع سحب غطاء الرأس عندما أسمع صوت الباب وهو يُقفَل. أزلته ورأيت أنني في غرفة عازِلة للصوت، مع ثقوب الرصاص على الجدران. وهو ما يُفسّر أرضية الغرفة المُرتفِعة.

 

كانت أميّ تبكي بلا انقطاع

في اليوم التالي، جلسة تعذيب أخرى، نفس الأسئلة. أكرِّر أنني سأوقِّع على ما يريدون أن أوقِّعه، وأنني سأعترف بكل ما يريدون أن أعترف به، أخبروني فقط بما يجب أن أعترف به. إنهم يتجاهلون طلباتي. بعد حصص تعذيب لا أعرف عددها، وبعد وقت لا أعرف مدّته (لا يُقاس الوقت في الجحيم بالساعات)، طُرق الباب وأعطوني غطاء الرأس. أخذني رجل من ذراعي وقال وهو مُحرَج: "هذا ليس خطأي". نُقلِتُ إلى غرفةٍ صغيرةٍ مطلية باللون الأسود بالكامل مع مُكيِّف هواء قوي. يطفئون الضوء. الظلام، والبرد، وصفَّارة إنذار التي تدوّي باستمرار. بدأت أصاب بالجنون. تتراءى لي خيول. طرقتُ باب "الثلاجة" (اكتشفت لاحقاً أنهم يسمّونها كذلك)، لكن لا أحد يفتحه. فقدت الوعي. أستيقظ وأفقد وعيي مرة أخرى، وفي لحظة معينة قلت لنفسي أنه من الأفضل لي أن أُضرَب على أن أبقى في "الثلاجة".

أستيقظ، ما زلت في الغرفة ذاتها. النور مُضاء دائماً ولا يمكنني تحديد عدد الأيام والليالي التي مرَّت. أنا هنا لما يبدو أنه الخلود. بعد سنوات، أخبرتني أختي أن والديّ لم يعد بإمكانهما النوم؛ كانت والدتي تبكي بلا توقّف، وكان والدي قد حَبَسَ نفسه في الصّمت ولم يعد يتكلَّم.

 

هل تريد أن تعرف مَن بلَّغ عنك؟

لم يتمّ استنطاقي بعد ذلك. أنا ممنوع من أيّ اتصال. وفي أحد الأيام، ألقى شخص ما ملابسي على الأرض وأخبرني أن أرتديها. أرتديت ملابسي ووضعت الغطاء على رأسي. قادوني إلى سيارة، ووضعوني في صندوقها الخلفي. سارت السيارة لوقت يُعطي الانطباع بلا نهايته، حتى لحظة توقّفهم - هل سأموت الآن؟ أمروني بإزالة الغطاء والخروج من الصندوق الخلفي. أنا في ساحة مع أطفال في كل الأنحاء، في مكان ما في ريو، لكنني لا أعرف أين.

أتوجّه إلى منزل والدي. أمّي شاخت، يقول والدي إنه لا ينبغي عليّ الخروج بعد الآن. أحاول الاتصال بأصدقائي، أبحث عن المُغنّي الذي كان يشتغل معي - لا أحد يجيب على الهاتف. أنا وحدي: إذا تم إلقاء القبض عليّ، فذلك لأنني قد أكون فعلت شيئاً ما، هذا ما يروَّج في خاطرهم. من الخطورة أن تُرى مع سجين سابق. ربما أكون قد غادرت السجن، لكن السجن بقي من حولي. جاء الخلاص عندما عرض عليّ شخصان، لم يكونا قريبين مني، فرصة عمل. أبداً لم يتعاف والدي حقاً مما حدث لي.

بعد عقود من ذلك، فتح أرشيف الديكتاتورية للجمهور، وحصل كاتب سيرتي على الوثائق. أسأله لماذا تمّ إلقاء القبض عليَّ. أجابني: "لقد اتّهمك مُخبِر، هل تريد أن تعرف مَن بلَّغ عنك؟".

- لا. لن يُغيِّر ذلك في الماضي شيئاً

سنوات الرصاص هذه، هي التي يريد الرئيس جائير بولسونارو - بعد الرجوع إلى أحد أكثر الجلاّدين بغاضة في الكونغرس والذي كان دائماً مثله المعبود - إرجاعها إلى بلدي.

 

المصدر: جريدة لوموند الفرنسية عدد الأحد، الإثنين 22 و 23 أيلول/سبتمبر 2019.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك المقالات والتحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]