عبر أبواب كثيرة.. هكذا تسعى "إسرائيل" للتطبيع مع تونس!
بدأت تظاهرات ثقافية ورياضية تونسية تساهمُ رويداً رويداً في تكريس التطبيع مع "إسرائيل"، فكيف يناهض التونسيون التطبيع ويتمسكون بفلسطين؟
ساعيةً إلى التغلغل في العمق العربي، وراغبةً في أن تعشش داخل العقول، باتت "إسرائيل" تتسلَّلُ إلينا عبر الفن والرياضة، وتسعى بشتى الطرق إلى طمس التاريخ، حتى يأتي الوقت الذي نرتمي فيه في أحضانها ونتناغم معها، فقد بدأت تظاهرات ثقافية ورياضية تساهمُ رويداً رويداً في تكريس التطبيع مع "إسرائيل"، وصار الحديث عنه كأنه وجهة نظر، لا جريمة أو خيانة لقضية كبرى لطالما حملنا همها منذ نعومة أظفارنا، ودفع آباؤنا وأجدادنا ثمنها دماً وناراً.
قبل فترة بسيطة، حاول البعض نزع كل التاريخ الإجرامي لكيان الاحتلال، وبات بعض هذه النخبة، قبل العوام، يفكّر بجدية في فتح قنوات التواصل، والتساؤل بكلّ جرأة الحاضر ونسف كلّ آلام الماضي: ما الذي يمنع أن تكون لنا علاقة مع "إسرائيل"؟
في تونس مثلاً، أُثير مؤخراً جدل واسع حول مشاركة رياضيين تونسيين في محافل إقليمية ودولية إلى جانب رياضيين من "إسرائيل". تهافتَ الكثيرون للتبرير لها، وذهبَ بعضهم إلى حدّ الدفاع عن احتضان تونس مسابقات رياضية يشارك فيها "إسرائيليون"، حيث شاركت أنس جابر وشيراز البشري، لاعبتا المنتخب الوطني التونسي للتنس، في مقابلة أمام لاعبات المنتخب "الإسرائيلي"، في إطار كأس الاتحاد الدولي الذي أقيم في شباط/فبراير الجاري في العاصمة الفنلندية.
ندَّدت السلطات التونسية بما جرى عبر بيان نشرته وزارة الخارجية، واصفةً ما حصل بأنه "تجاوز لتعهدات تونس والتزاماتها التاريخية إزاء القضية الفلسطينية، ومخالفة للموقف الرسمي للدولة".
بدورها، استنكرت "النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين" الأمر في بيان صادر عنها، وجدّدت رفضها كلّ أشكال التطبيع، واعتبرت أنَّ الأمر "ليس وجهة نظر، بل أحد ثوابت المجتمع التونسي الّذي يُعتبر الصحافيون جزءًا لا يتجزأ منه"، وهو ما تؤكّده عضو المكتب التنفيذي للنقابة، فوزية الغيلوفي، في حديث إلى "الميادين الثقافية"، قائلةً إن تونس "لا تعترف بدولة تحت مُسمى "إسرائيل"، بل هناك كيان صهيوني يغتصب الأراضي الفلسطينية".
وترى الغيلوفي أنَّ "التطبيع مع هذا الكيان خيانة للقضية الفلسطينية وحقّ الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم وبناء دولتهم المستقلة"، رافضةً زيارة هذا الكيان "تحت أيّ مظلة، إعلامية كانت أو ثقافية".
وشدَّدت عضو المكتب التنفيذي لنقابة الصحافيين على أنَّ مشاركة بعض الفنانين أو الرياضيين التونسيين في مسابقات أو مهرجانات بوجود "إسرائيليين"، إنما "تندرج ضمن حريتهم المطلقة، لكن أن يتمّ تبرير ذلك في وسائل الإعلام التونسية، فذلك مرفوض بالنسبة إلينا كنقابة".
هذا الموقف الرافض للتطبيع ليس الأول أو الأخير، في مقابل أصوات أخرى شاذة تنادي يومياً بتكريسه في البلاد، إذ لم تعد الرياضة وحدها طريقاً سالكاً لاحتضان "إسرائيل"، فقد بات الفنّ منفذاً آخر لدعوة الفنانين العرب من مغنين وكتاب وسينمائيين وغيرهم، بعدما أصبحت تظاهرات كيان الفصل العنصري "الثقافية" لا تحلو من دون دعوة أسماء عربية مؤثرة.
هكذا أحيا محسن الشريف، الفنان التونسي المعروف بأدائه الأغاني التراثية القديمة، في 16 شباط/فبراير، حفلاً في أحد الفنادق في الأراضي المحتلة، وهي المرة الثانية له بعدما أقام حفلاً غنائياً، ثم اعتذر إلى الجمهور التونسي عنه بعد عودته إلى البلاد، معلّلاً فعلته بأنه كان يغني أمام يهود من أصل تونسي يعيشون في "إسرائيل".
خطوة الشريف دفعت "نقابة المهن الموسيقية التونسية" إلى سحب الرخصة الممنوحة له، ليعود مرة أخرى إلى "إسرائيل"، ويقيم حفلاً أمام صهاينة من أصل تونسي، وهو فعل استنكرته بشدة "الحملة التونسية لمقاطعة ومناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني"، مجددةً مطالبتها بسنّ قانون يجرّم أشكال التطبيع كافّة، من الرياضة والغناء إلى السينما، حيث يسعى الاحتلال إلى استقطاب المبدعين العرب، فهل هناك أفضل من السينما حتى يجتمع صانعو الفرجة؟
المخرج السوداني، صهيب قسم الباري، أعلنَ عبر صفحته على فيسبوك أنه لم يكن على علم بأنَّ شريطه السينمائي "الحديث عن الأشجار" مبرمج في مهرجان "الشرق الأوسط" المقام في القدس المحتلة، برعاية وزارة الخارجية "الإسرائيلية" وبلدية القدس، وبالتعاون مع "معهد فان لير"، وأكّد رفضه واستهجانه برمجة شريطه في "تظاهرة تطبيعية".
من جهته، قال الكاتب والناقد المسرحي التونسي، حاتم التليلي المحمودي، في تصريح خاص للميادين الثقافية إنه لا يمكنه المشاركة مطلقاً في أي تظاهرة ثقافية يمثلها هذا الكيان الغاصب، ومن تسوّل له نفسه المشاركة، فذلك خياره وحده، مشيراً إلى أنه لا ينتمي إلى سردية بعض الفنانين، ولا يمكنه "مصافحة يد كيان ملوّثة بدم الأبرياء".
وشبّه المحمودي الفن الصهيوني بأنه "السلاح الذي يبحث دائماً عن الحق في القتل، وسردية ذلك الاختراع المقيت؛ أرض الميعاد"، مضيفاً: "علينا فعلاً إدراك هذه الحقيقة وعدم الثقة به، حتى وإن كان يمتلك حساسية إبداعية. علينا في المقابل كفنانين أن ننتمي إلى سرديتنا الخاصة وهمومنا وقضايا شعوبنا".
مؤخراً، أصدرت 4 منظمات وحملات تونسية، من بينها "الحملة التونسية لمقاطعة ومناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني"، بياناً مشتركاً دعت فيه المخرجة التونسية الأصل منال العبيدي إلى سحب شريطها "أريكة في تونس" من مهرجان "الشرق الأوسط" الذي انطلق في 17 الجاري، وإلى "عدم التورّط في التطبيع مع نظام التمييز العنصري والإرهاب الصهيوني في فلسطين المحتلّة"، واستحسنت انسحاب المخرج السوداني صهيب قسم الباري من التظاهرة.
تتعدَّد مظاهر التطبيع، ويزداد عدد المدافعين عنه بقدر عدد المناهضين له، لكنه في الوقت نفسه يعيد إلى الواجهة سؤالاً ملحاً: ماذا سيستفيد العرب في حال طبَّعوا علاقاتهم مع "إسرائيل"، وخصوصاً في ظلِّ تكريس الأطماع "الإسرائيلية" والانبطاح الرسمي العربي تجاه "صفقة القرن"؟