"أنسباء الروح".. عن صداقات أهل الأدب
صداقاتهم لم تكن مثالية على الدوام نتيجة الكثير من المُشاحنات والمُنافسات المُرْهِقة، إلا أنهم غالباً ما غضوا الطرف عن بعض الخصومات للإبقاء على صداقات ليس من السهل تعويضها.
تقديم وترجمة: لينا شدود
عينٌ على الأعمال الأدبية العظيمة لأدباء أحببناهم وتابعناهم بشغف، وعينٌ على سِيَرهم الغنية، وكل ما يمتلكونه من قوى عميقة وإبداعية، وهي تستحيل إلى تاريخ يُغرينا بقراءته، لنكتشف أسرارهم وأسباب سعيهم المحموم للوصول إلى ما يرونه مجداً وخلوداً. أن نتعرّف عليهم وهم في أوقات يأسهم وضعفهم، أو وهم في خِصام مع غيرهم من الأدباء.
ربما لا نتوانى عن التلصّص على نقاشاتهم التي لا تنتهي، وكم نسعد عند قراءة مُراسلاتهم الخاصة أو مُذكّراتهم. هنا يبدو الأمر وكأننا ندخل إلى كواليس الأدباء السرّية لنلتقي بكائناتهم الداخلية وجهاً لوجه، ونختبر ما عاشوه من اضطرابات نفسية وعقلية جرّتهم ليسخطوا على هذا العالم، ويؤثِروا الانتحار أو الانغلاق على ذواتهم في غرفهم أو محترفاتهم المهجورة والباردة، وذلك بعد فشلهم في "تغيير العالم" الذي تصوّروه بغير ما هو عليه.
غير أن الصداقات الجميلة والمُثْمِرة بين الكتّاب هي الجانب الأبهى في سِيَرهم بِما تتركه من انطباعات إيجابية وعميقة على مُنْجَزهم الأدبي، حتى أن بعض الأدباء كانوا يُفاخرون بإقامة ذلك النوع من الصداقات المفتوحة.
تلك التي كانت تمنحهم نشوة غامِرة حين يعملون معاً على إنجاز عمل أدبي مُشترك. حيث يأتي دور الأصدقاء للتخفيف من عذابات المراجعات المُضنية والبغيضة. قلّة هم الأدباء الذين ينكرون سعيهم الدائم من أجل العثور على مَن يشاركونهم نجاحاتهم وإخفاقاتهم أيضاً، وفي حال حالفهم الحظ والتقوا بمَن يجوز أن تطلق عليهم تسمية "أنسباء الروح"، سيثمّنون ذلك عالياً ويعلنونه على الملأ.
لا شك أن تلك الصداقات اللطيفة لم تكن مثالية على الدوام بل طالما تخلّلها الكثير من المُشاحنات المهنية والمُنافسات الشَرِسة المُرْهِقة لهم ولصداقاتهم، إلا أن تلك الأرواح المُتنافسة غالباً ما كانت تغضّ الطرف عن بعض الخصومات لغرض الإبقاء على صداقات ليس من السهل تعويضها.
***
تحوّلت الصداقة الوثيقة التي جمعت الكاتبين د. إتش. لورانس وكاثرين مانسفيلد لاحقاً إلى علاقةٍ عاطفيةٍ، تجلّت في دعمهما القوي لبعضهما البعض في مجال الكتابة. فشخصية غودرون في رواية "نساء عاشقات" للورانس كانت مُستوحاة وبشكلٍ مباشرٍ من شخصية مانسفيلد. ذلك أن لورانس المولود في بيئة فقيرة، ومانسفيلد التي كانت من نيوزيلندا كابدا معاً الشعور بالنُبذ من قِبَل موسري المشهد الأدبي، ورغم أن صداقتهما شابها الكثير من الاضطراب وفترات انفصال طويلة، إلا أنهما آثرا صون ذلك الإحساس بالحميمية بينهما إلى أن وافت المنيّة مانسفيلد عام 1923.
ومع أن شارلوت برونتي كانت تعيش في شبه عزلة بعيداً من الأوساط الأدبية والاجتماعية، غير أن النجاحات التي حقّقتها رواياتها على الصعيدين النقدي والشعبي، جعلتها مُحاطة، رغماً عنها، بالوسط الثقافي الذي كانت غريبة عنه. كما جرّها ذلك إلى عَقْدِ صداقات عدّة مع مُفكّري وأدباء ذلك الزمن.
لكن الصداقة الأبقى والأقوى كانت مع الروائية ذائِعة الصيت إليزابيت غاسكيل، ولو أنها لم تكن تسعد كما غاسكيل بتلك اللقاءات الأدبية، حتى أنها في إحدى المرات اختبأت خلف الستائر لتتجنّب الحديث مع زوّار غاسكيل. كسواها من صداقات الكتّاب اتصفت علاقتهما بالمزاجية، إلا أنها استمرّت حتى وفاة برونتي المُبْكِرَة، حينها كتبت غاسكيل عن صديقتها تلك السيرة الذاتية المُثيرة للجَدَل، والصادِمة للقرَّاء.
أما توني موريسون وجيمس بالدوين فقد نشأت صداقتهما حينما التقيا عام 1973 في دار نشر "راندوم هاوس" للنقاش بشأن عقد كتاب لبالدوين، وبدلاً من إتمام عقد الكتاب في لقاء العمل هذا جمعتهما صداقة مثالية دامت حتى وفاة بالدوين عام 1987.
لقد كان لفَهْمِهما العميق ونفاذ بصيرتهما ذلك التأثير المُتبادَل الذي انعكس بوضوحٍ في أعمالهما الأدبية. بعد وفاة بالدوين أحيت موريسون ذِكراه بإشادة مؤثّرة في جريدة التايمز الأميركية، حيث قالت: "أنت تعلم، أليس كذلك، كم كنت بحاجةٍ إلى لغتك، وإلى العبقرية التي شكّلتها؟ وكيف عوَّلت على شجاعتك لترويض وحشتي؟ كنت تعلم، أليس كذلك، أنني أحببت أسلوبك في مُقارَبة الحب؟"
من أهم صداقات عائلة الروائية الأميركية لويزا ألكوت كاتبة رواية "نساء صغيرات" المعروفة بمبادئها اليسارية كانت مع الأديب الفيلسوف والشاعر الأميركي رالف والدو إمرسون، أحد أبرز أعلام الفلسفة المُتعالية. إذ ذكرت في إحدى مقالاتها بامتنانٍ بالغ، صبره الجميل، ومَنْحه لها كامل الحرية في استخدام مكتبته الشاملة والموسوعية وإطلاعها على الأعمال النادرة والنفيسة لشكسبير ودانتي وغوته. بالنسبة إليها كان ذلك أهم مُكافأة تحصّلت عليها.
وحينما بدأ ويلكي كولينز حياته الأدبية بكتابة الروايات التاريخية، ارتبط بصداقةٍ قويةٍ مع تشارلز ديكنز الذي كان مُعاوِناً له في عمله الصحافي، وكان جليّاً تأثّر كولينز بأسلوب ديكنز الذي اعتبره النقّاد من أهم الروائيين الإنكليز في العصر الفيكتوري.
تعاون الصديقان مراراً في أعمالهما المسرحية ومشاريعهما الأدبية الأخرى إلى أن أصاب صداقتهما الفتور في السنوات اللاحقة بسبب المُنافسة الأدبية التي كانت تزيد من اتّساع الهوَّة بينهما، في الوقت الذي كان فيه ديكنز يقاوِم إدمان الأفيون إلى جانب مُعاناته من أمراضٍ أخرى، لكن رغم ذلك لم تتوقّف الرسائل بينهما.
إلا أن موت ديكنز عام 1870 أحزن كولينز الذي استذكر ذات مرة صداقتهما بكثيرٍ من الحنان، وكيف أنهما كانا يلتقيان كل يوم في الأيام الأولى لصداقتهما، وكم ساعده رأي ديكنز الإيجابي بما يخصّ مستقبله الأدبي.
وكذلك الصداقة اللطيفة التي جمعت بين هنري جيمس، مؤسّس ورائد مدرسة الواقعية في الأدب الخيالي، وبين الكاتبة الأميركية إديث وارتون القادِمة من أسرةٍ ثريةٍ وذات نفوذ واسع؛ والحائِزة على جائزة بوليتزر للقصص الخيالية.
بدايةَ كانت النقاشات بينهما تنصبّ على خياراتهما وأعمالهما الأدبية، حتى تطوّرت إلى علاقة شخصية، حيث كانت وارتون تقدِّم له الكثير من الدعم النفسي والمادي أيضاً، لكن من دون عِلم جيمس الذي كان يعاني من اضطرابات نفسية وعاطفية.
ومع ذلك لم تكن علاقتهما تخلو من المَرَح رغم أنهما كانا يُظهران الكثير من الرَصانة والصَرَامة أمام الآخرين.
كذلك الأمر بالنسبة إلى الشاعر الأميركي كامينغز الذي غالباً ما أبدى النصيحة لصديقه الروائي وكاتِب القصة القصيرة جون شيفر في بداية مشروعه الأدبي، في الوقت الذي كان فيه كامينغز يكبره بعشرين عاماً، ومعاً اتفقا على تحدّي الأعراف الاجتماعية السائِدة في مشاريعهما الأدبية بسوداويّتهما وطرافتهما المعهودتين. وعلى الرغم من أن كامينغز نادراً ما كان يُذكَر كشاعرٍ أبدع الكثير من قصائد الحب، لكن سوزان، إبنة شيفر، كتبت كيف بكاه والدها بحرقةٍ لمّا توفّى عام 1962.
ولعلّ الأهم هي تلك الصداقة التي جمعت بين أيقونتيّ الشعر روبرت لويل، وإليزابيت بيشوب. هذان الكاتبان اللامِعان اللذان التقيا عام 1947 في حفل، فكوّنا في ما بعد حالة شعرية مُكتَمِلة منذ أن وقعا في غرام بعضهما البعض. ذكرت بيشوب كيف أنها أحبّته منذ النظرة الأولى حبّاً أفلاطونياً، ولو أن كلاهما كانا في خشية من موهبة الآخر الشعرية إلا أنهما كانا يستمتعان للغاية في تبادُل الأفكار والآراء الأدبية، والتي تمخضّت خلال فترة صداقتهما الطويلة عن عمل بيشوب الرائع "كلمات في الهواء"، الذي كان يحتوي على المُراسلات الكاملة بين إليزابيت بيشوب وروبرت لويل.
كما كان الكاتِب ترومان كابوتي معروفاً بنمط عيشه المختلف وعلاقته مع الأغنياء والمشاهير، وخلافاته الدائمة في الوسط الثقافي في حين أن الأديبة الأميركية هاربر لي؛ صاحبة رواية "أن تقتل طائراً محاكياً" تعيش في عزلة تامة، بل وكانت ترفض أن تُجري لقاءات مع الصحافيين بعد نشر عملها الأول، الذي عالجَت فيه قضية التفرِقة العنصرية التي شهدتها في طفولتها في بلدتها في مونروفيل في ولاية ألاباما.
سافرت هاربر لي مع صديقها كابوت إلى كانساس لتساعده في إجراء تحقيقاته من أجل إرساء الخطوط الأساسية لروايته الشهيرة "بدم بارد". وكم كانت صدمتها شديدة حينما علمت بإهداء ترومان الرواية لحبيبته؛ وأن إسهاماتها الكبيرة في إنجاز هذا العمل قد حظيت بالقليل من الامتنان فانعكس ذلك سلباً على صداقتهما، ناهيك عن الاختلاف الكبير في أسلوب حياتهما الذي عمّق الشقاق بينهما إلى حدّ الانفصال.
وكذلك كان سي. إس. لويس الأديب والباحث الإيرلندي، كاتب الفانتازيا الخيالية الشهيرة "سجلات نارينا" ، وجون ر. تولكين، الروائي والأستاذ الجامعي، كاتب السلسلة الملحمية "سيّد الخواتم" ورواية "الهوبيت" صديقين، ولقد كان ذلك بحق شيئاً عظيماً. إذ كان لصداقتهما ذلك التأثير المباشر على الميثولوجيات التي أبدعاها.
حيث كان لويس بروتستانياً وتولكين كاثوليكياً. في الواقع كانت ميثولوجيا الفايكنغ تمثلهما تقريباً. إلا أن المُنافسة والخصومة الأدبية في ما بينهما أساءت إلى حدّ ما إلى صداقتهما، لا سيّما أن تولكين كان ينتقد كتب نارينا بسبب خلطه غير المسؤول لأساطير مختلفة معاً.
أمّا الشاعرتان سيلفيا بلاث وآن سكستون الموهوبتان بشكل لا يُصدَّق، فقد كان لديهما الكثير من القواسِم المشتركة حيث قاومتا معاً وبإصرار القيود الاجتماعية، ودعمتا القضايا التي تتعلّق بالصحة العقلية والنفسية.
هكذا وجدتا بعض العزاء في وجودهما معاً في عالم الشعر، ولو أنهما كتبتا شعراً مُثيراً ومُحبطاً، كما أن كلتاهما اختارتا الموت انتحاراً، الأمر الذي أثار الكثير من الجَدَل في الأوساط الأدبية.
ربما تكون المُنافسة الأدبية قد أربكَت الصداقة التي جمعت بين هاتين الشاعرتين الألمعيّتين؛ إلا أنهما قد تقاسمتا فعلاً الكثير من المشاعر التي يصعب على الآخرين فَهْمها رغم مزاجهما المُتقلّب.
المصدر: هافنغتون بوست