"زجاج".. المسرحية السورية الأولى لكسر الحجر الصحّي
ليس غريباً على أسامة غنم، وهو المخرج المسرحي السوري المُجدِّد والأستاذ في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق ومدير مختبر دمشق المسرحي، أن يُسْقِط مسرحية أميركية كُتِبَت في أربعينيات القرن الماضي على الواقع السوري الراهِن من خلال عائلة حزينة على شفير الحُطام.
أكملتُ شهرين تقريباً وأنا في حَجْرٍ عام مع غالبيّة سكان كوكبنا. أعتقد أنني لجأت إلى كل ما يُنصَح به للتغلّب على الوحدة والكآبة: أعددتُ الطعام، قرأتُ، رقصتُ، كتبتُ، وشاهدتُ أفلاماً ومسلسلات أجنبية كثيرة، سردتُ الكثير من يوميَّاتي على تطبيق "إنستغرام"، تفاعلتُ وتمّ التفاعُل معي، تواصلتُ مع عائلتي في سوريا وخارجها ومع كل الأصدقاء وحتى مع أشخاصٍ جُدُد.
لطالما وصفت بيوت موسكو الصغيرة والمقصوصة الشُرفات والمُطبقة بكثافة بعُلَب الثِقاب. غالباً ما أخبرتُ جدَّتي بأنني أحبُ موسكو كثيراً: "لكننا ياجدَّتي نعيش في عُلَبِ ثقاب هنا. بيوتنا في سوريا أكبر وأشرح ولها شُرفات!"، إلى أن شاهدتُ مسرحيةً سوريّةً عبر الأنترنت، كانت قد عُرِضَت للمرة الأولى في العام 2015 على "مسرح فواز الساجر"، والمرة الثانية عام 2016 في "مسرح القباني"، وفي المرتين كنتُ في روسيا.
مسرحية "زجاج" للمخرج السوري أسامة غنم، والتي اقتبسها عن نص "مجموعة الحيوانات الزجاجية" للأميركي تينيسي وليامز (1911 - 1983)، هي التجربة الأولى من نوعها، ليس كمُجرَّد عَرْضٍ مسرحي، بل كعرضٍ مُتاح أونلاين في فترة الحَجْر الصحّي الذي فرضه الوضع الوبائي الراهِن على العالم كله.
أهم المسارح العالمية ومعاهد الفنون، قدَّمت عروضها في فترة الحَجْر للجمهور عن طريق الأنترنت. مسرح البولشوي الروسي، على سبيل المِثال، يبثّ الآن أهمّ أعماله المسرحية وعروض الباليه والأوبرا افتراضياً، مثل "كسّارة البندق" و"بحيرة البَجَع" و"روميو وجولييت".
شاهدتُها جميعها، من بيتي ومجّاناً - وأنا التي كنتُ غير قادِرة على شراء تذاكِرها التي قد تصل إلى 300 دولار ودور انتظار قد يمتد لشهرين- سعدتُ جداً، لكنني كنتُ جائِعة لشيء يؤنسني في عُزلتي وغُربتي، لعملٍ يتكلَّم لغتي وإيقاعي والأهمّ وَجَعي وأحلامي وهروبي.
شاهدتُ أصدقائي يُشاركون رابطاً لمُشاهدة مسرحية "زجاج" السورية أونلاين، المُتاحة لمدّة أسبوعٍ فقط حتى السادس من أيار/مايو، وهذا ما رأيته.
عُلَب الثقاب في دمشق
شاهدتُها، وألفتها بطريقةٍ موجِعة، انتقلتُ من علبة ثقاب إلى أخرى. لم أعرف عن عُلَب الثقاب في بلدنا سابقاً، مع أمل وديمة ويوسف في ما يُدعى "بنايات ال14 " في أحد أحياء دمشق. تعرّفت على عُلَب ثقاب سوريا، حيث يفتتح العرض المسرحي بيوسف (كنان حميدان) يشكو بخنقة منها، من بنايات مُتراصِفة ومُكْتظََّة ومُزْدَحِمة، تكدَّست فيها عائلات الطبقة الوسطى أو بقاياها حالياً.
"زجاج"، سردت لنا تفاصيل سوريّة حزينة موجِعة ومقيتة أحياناً، ومُتَهَكِّمة ومُضْحِكة حتى البُكاء أحياناً أخرى.
أسامة غنم، المُختَصر المُفيد
ليس غريباً على أسامة غنم، وهو المخرج المسرحي السوري المُجدِّد والأستاذ في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق ومدير مختبر دمشق المسرحي، أن يُسْقِط مسرحية أميركية كُتِبَت في أربعينيات القرن الماضي على الواقع السوري الراهِن من خلال عائلة حزينة على شفير الحُطام.
واضحٌ أن لأسامة غنم خيارات صحيحة وواثقة في انتقاء فريقه، بدءاً من المُمثّلين ومُساعِد الإخراج (ديمة أباظة) وانتهاءً بالتقنيين والفنيّين.
إنه المُخْتَصَر المُفيد، لا زيادة في الديكورات أو الألبسة، وحتى الإضاءة، كل شيء في مكانه ووقته، يُراهِن على أداء مُمثّليه البَحْت. لا توجد كلمة إضافية أو إكسسوار أو حتى لا وجود لوقتٍ ضائع. أسامة غنم يجعلك تتسمَّر في مقعدك لثلاث ساعات ونصف الساعة بشكلٍ متواصل.
سوسن أبوعفار، ما هذا الكائِن الخفيف؟
تؤدّي أبو عفار – الساحِرة - دور أمّ مهجورة من زوجها الذي ذهب إلى أوروبا من دون رَجعة، تارِكاً إياها وحيدة مع ولدين، تتمزَّق لإعالتهما وإسعادهما وإنقاذهما من نفسيهما، تعيش فِصاماً لمَّته من صباها، وهي إبنة العائلة الثريّة الدمشقية التي انتهت بها السُبُل لتطبُخ لصديقاتها القُدامى اللواتي حظين بزيجاتٍ ميسورة، بالإضافة إلى وظيفتها في إحدى مؤسَّسات الدولة.
سوسن تتحرَّك طوال المسرحية بخفّة لا توصَف، تحتلّ مساحات وأبعاد المسرح، تُضْحِكك حتى يرجف قلبك، وتُحْزِنك بكلمات الأمّهات المتوسِّلات الساذِجات أحياناً، لسعادة أبنائهن ولأنقاذهم من المخاوِف والعِلَل والأوهام.
ديمة، الهامِش الثقيل
ديمة (24عاماً)، خرِّيجة دراسات مسرحية، فتاة مُكْتَئِبة مُنزوية وهامشيّة كما يصفها أخوها. اهتمامها الأكبر ببجعاتها الزجاجية، تجمعهنّ من معامل الزجاج القديمة ومحلات "باب شرقي"، تعتني بها وتلمّعها. هربت من كل دورات اللغات والترجمة لتسير في أزقّة دمشق وتعود إلى البيت، وتُجاري كل محاولات أمّها لإيجاد العريس -المُنْقِذ- المُناسِب لها.
تكاد فعلياً لا تشعر بوجود ديمة في الصورة، ف "نانسي خوري" اتقنت الإنزواء والإنكسار حتى أصبحت هامشاً ثقيلاً. إلى أن يأتي ذات يوم العريس المأمول جمال الخطيب (جابر جوخدار)، وهو فتى أحلام ديمة الأول منذ صباها.
جمال الخطيب، من عالم الزومبا والنوادي إلى علبة الثقاب
جمال الخطيب، هو تمثيل للعالم خارج علبة الثقاب تلك، فتى النوادي الرياضية وكورسات اللغات والزومبا والبزنس و"مهارات التواصُل"، حيث استطاع بالفعل أن يتواصل مع ديمة، ويكسر قوقعتها، لكنه حطّم بجعاتها وقلبها وذهب.
يوسف، يُشعِل قلوبنا ويُطفئها
تحاول الأمّ جاهدة أن تفهم كيف يذهب إبنها يوسف ليقضي الساعات في مُشاهدَة أفلام مع أصدقائه، لا تفهم حلمه بأن يكون سينمائياً، وهو في الحقيقة عامل في إحدى سلسلات بيع الحلوى الشهيرة في دمشق.
يوسف الذي يستجدي الجهات المانِحة للتمويل الفني، يأمل أن يمنحوه شيئاً ما ليصنع فيلمه الخاص. يوسف المُدمِن على أفلام الإثارة والمُغامرات، لشحّها في حياته الرتيبة.
بعد كثيرٍ من المُناجاة والمُناقشات التي تدور بين يوسف وكاميرته المُستعارَة، وبينه وبين والدته، ينتهي مُسافِراً تارِكاً وراءه إمرأتين مُحطّمتين، ملحوقاً بظلهما.
يؤدّي (كنان حميدان) أداءً استثنائياً ثائِراً ومُشْتَعِلاً. في أغلب أوقات العرض، صوته عالٍ ومسموع بوضوح، لديه الكثير للقول والتذمّر، مُشاحنات مُستمّرة مع والدته التي تُغضبه باستمرار.
لكن في مشهده الأخير، مشهد المسرحية الأخير يخفض صوته وينطفىء ويُطفىء قلوبنا معه.