النكتة سبيل السوريين لـ"قَهْر القَهْر"
عقوبات وحرب وصعوبات لا تُحصى، فكيف يقهر السوريون قهرهم اليومي من خلال النكتة؟
"بات السوريون كطنجرة المحشي، بين الفينة والأخرى، يقوم أحدهم بغرز الشوكة فيهم ليتأكّد هل وصلوا إلى درجة الاستواء أم لا"، هذه النكتة المتداولة على وسائل التواصُل الاجتماعي، دليل على ازدهار هذا "الجنس الأدبي الشعبي"، لا سيما مع تسميد الواقع السوري بآلام مُبرحة، وأحزان متواصِلة منذ عشر سنوات. وفوق ذلك صبر أيوبي لدى السوريين، وحنكة في مُداورة الحياة بخُذلاناتها المديدة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وحتى صحيّاً.
كل ذلك جعل الإنسان السوري قادراً على فقء عين الموت بضحكة المذبوح من الألم، والتَّفنُّن بمُراوغة الوَجَع والجوع والمرض، وأكثر من ذلك امتهان تأليف النكات وإبداعها، أو "قهر القهر" بحسب تعريف الفيلسوف الفرنسي هنري بيرجسون.
في هذا التحقيق نحاول الإضاءة على النكتة باعتبارها «أرقى الإنجازات النفسية للإنسان في مواجهة ضغوطات الحياة»، كما يراها فرويد، ولكونها الطريقة الأنسب لإظهار الحقائق التي لا يمكن قبولها بطريقةٍ أخرى، لا سيما في الحال السورية التي يُوزَّع فيها "كورونا" عبر البطاقة الذكية، والمُرشّحون الراسبون في انتخابات مجلس الشعب يطالبون بدورةٍ تكميلية، بينما القروض باتت لــ "المكدوس"، بعدما كانت لشراء بيت أو سيارة.
النكتة كالصندوق الأسود
رسّام الكاريكاتير والقاصّ عصام حسن يُشبّه النكتة بالصندوق الأسود الموجود في الطائرات، فهي على عكس ما تظهر عليه من بساطة وخفّة دم وحال من اللهو والمرح، فإنها تحفظ وتُخفي ما يدور في قمرة القيادة من أحاديث وأوامر ومشاعر وانفعالات، مُبيّناً أن أهميّة هذا الصندوق تظهر عند حصول الكوارث، أو عند حصول مواقف خطيرة قد تؤدّي إلى كوارث، مع فَرْق أن ذاك الصندوق يقع في الجزء الذي يشغله الركّاب (الشعب) وليس قمرة القيادة التي تكون في معظم الأحيان موضوع النكتة الأثير.
إبنة الشعب
يقول صاحب "قبلة لماريانا" في تصريحه للميادين الثقافية: «قيل الكثير عن النكتة. وكُتِبَت حولها الدراسات والأبحاث، وتمّ تشريحها كما يُشرّح جسم الإنسان. كل ذلك لمحاولة القبض على خصائص هذا الفن الشعبي (كما صنّفتها بعض الدراسات). ورغم ذلك بقيت النكتة عصيّة على أيّ تعريفٍ نهائي. لذلك كلّما قرأنا عن النكتة دراسة أو بحثاً اكتشفنا أنها شيء آخر غير الذي كنّا نعرفه. وفي الواقع النكتة هي كل ذلك مجتمعاً وكل ما سيُكتَب عنها لاحقاً. وذلك لأنها ليست وليدة ثقافة مُعيّنة أو حال مُحدّدة أو ظرف خاص. ومن الصعب مُلاحقة سيرة أية نكتة. فالنكتة هي إبنة الشعب. وهي غبار الطلع الذي تذروه الرياح فلا نستطيع تمييز مكوّناته. لكننا فجأة نشاهد أثره على غصون الأشجار: أزهار من كل الألوان والأشكل، وثمار شهيّة تفتح النفس وتُريح البال. وهذا ما ينسجم مع توصيف فرويد للنكتة في إحدى تجليّاتها: "إنها الرغبة في تخفيف التوتّر والقلق عند الإنسان".
لكن، بحسب رسَّام الكاريكاتير فإن للنكتة وظائف كثيرة لا يحدّها قول فرويد هذا. ويوضح ذلك قائلاً إن "من وظائف النكتة بثّ رسائل الاحتجاج حيث تُعتَبر خط الدفاع الأخير بالنسبة للناس حين يتعرَّضون للهزيمة. وتظهر النكتة في هذه الحالات لتعبِّر عن القهر والحُزن. ومَن يصغي جيّداً إلى نكات السوريين هذه الأيام سيسمع خلف كلماتهم ومُفارقاتهم المُضْحِكة أنيناً وآهات تشي بحقيقة ما يعيشونه وما يفكِّرون به. وفي العودة إلى فرويد: "كلما تنامت النكتة (غير البريئة) في المجتمع، كان هذا دليلاً على سوء العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وعلى ارتباك الأنظمة التربوية والمشاريع الثقافية واختلال البُنى السياسية".
السُخرية حَلّ
الشاعِر والكاتِب زيد قطريب ينقل لنا عيّنة من الكوميديا السوداء التي يتناقلها السوريون على وسائل التواصُل الاجتماعي بالقول: "لم يستغرب أحد أن تنشأ سوق سوداء للكورونا في سوريا، فالأرقام المُعْلَنة من وزارة الصحة هي العدَّاد الرسمي للإصابات في بلد التعتير والدم الساخِن والفقر، أما أرقام السوق السوداء فهي الأقرب إلى ما يحصل على الأرض من إصابات.. فالسُخرية يمكن أن تشكّل حلاً إذا انعدمت الحلول وأُسدلِت الستارة على واقع مأساوي لا يمكن أن تفكّكه إلا الكوميديا المقهورة".
ويُضيف للميادين الثقافية: "لنلاحظ أن حياة السوريين دائماً يعتريها جانبان، الأول مُستَتِر في الظلّ، والثاني مُعلّن عنه، واحد رسمي والآخر شعبي، واحد يمثل التصريحات الرسمية والثاني هو السوق السوداء، وإزاء ذلك لا يبقى من حلٍ أمام البشر سوى الفرار إلى السُخرية، ومَسْرَحة الألم، كي يبدو أليفاً طيّب القلب، أو حنوناً يتحلّى بالرأفة عندما يشاء أن يقضي عليهم.. لنتخيَّل أن بشراً يعيشون على 20 دولاراً شهرياً، بينما واقع الحال المعيشي يتطلّب أضعاف هذا المبلغ. هنا لن يبقى سوى الكوميديا السوداء، وأصرّ هنا على كلمة سوداء، نظراً لانطواء السُخرية على كمٍّ هائلٍ من العُمق والذكاء أثناء تناول كل حدث أو حال".
تكديس المُفارَقات
ويلفت قطريب إلى أنه في الكتابة، ازدهر هذا النوع من الأسلوب في التعبير، قائلاً "مَن يتابع الشعر سيرى انزياحات لغوية هي أقرب إلى السريالية وتكديس المُفارَقات قرب بعضها، وذلك نظراً لحجم الهَوْل الذي مَرَّ به الناس خلال عشر سنوات رأوا خلالها كل شيء بأمّ العين، ولم يبق أيّ حدث أو خبر مُستحيلاً، بل كله قابل للحدوث والتطبيق.. تلك الحال تبدو طبيعية نتيجة الظروف التي يمرّ بها الناس سواء تحدّثنا عن الموضوع الاقتصادي أمْ الاجتماعي وأحداث الحرب وكل تفرّعاتها الأخرى، فتدوير الألم يمكن أن يشكِّل طريقة للهروب من المواجهة مع الآخر غير القادر على تحمّل الحقيقة كاملة، وهذا له علاقة بمستوى الحريات أيضاً".
ويوضح قطريب أن "الكوميديا الساخِرة والسوداء المُرّة هي أسلوب للتحايُل على الصرامة واليأس، وهي في النهاية محاولة للاستمرار لأن لا خيار آخر أمام الناس.. كل شيء أصبح مَدعاة للسُخرية عند السوريين، حتى الموت الذي عايشوه كثيراً وخبروه وحفظوا رائحته، جعلوه يتحوَّل إلى صديق. هذا النوع من التقنيات في التعبير يحضر بقوَّة كلما ارتفع حجم الضغط وكلما صار المشهد شديد التعقيد وصعب الحل، وشخصياً أتوقَّع أن تزدهر أساليب وتقنيات أخرى إلى جانب السُخرية المُرّة تتعلّق بالفنون، وربما تنشأ مدارس مختلفة وغير مسبوقة على صعيد الأسلوبية التعبيرية، لأن ما يجري فاق الخيال وأكثر".
أدب المؤمنين بحريّاتهم
أما هلا أحمد علي، وهي الروائية الحائِزة على الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة إيرلانغن نيورنبرغ في ألمانيا، فإنها تقتبس من فرويد قوله بأن "السُخرية هي سلاح الفرد ضدّ الجنون المُطبق"، ومن "أدلر" تعريفه للسُخرية بأنها "انفعال مُركَّب من الاشمئزاز والغضب، فما يُثير اشمئزازنا وقرفنا يقودنا إلى الغضب وبالتالي يدفعنا إلى مُجابهته وقتاله بهدف تقويضه عن طريق الاستهزاء به والسُخرية منه".و
وكذلك الأمر من شوقي البغدادي التي تعرفنا برؤيته فتنقل عنه قوله إن "السُخرية هي الفن الذي يحوّل الألم إلى ضوء تماماً كما تفعل الخيمياء حين تحوّل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة"، ثم تضيف: "حين يضحك الموجوع من وجعه فذاك يُخفِّف الوطأة شريطة أن يكون الضحك انطلق من تحليلٍ عميقٍ لواقعه الأليم لا من الاستهزاء فحسب، إذ إن الكاتِب الساخِر بلا نظرية فكرية يتحوَّل إلى مُهرِّجٍ على حد تعبير غسان كنفاني. ولأن النكتة تنطلق من الألم فإنها تضع نُصب أعينها إيلام المُسبِّب بالألم الأول، وكأنما تريد أن تنتقم بتحويل ألمها إلى إيلام بالمُسبّب، وذلك إنما يكون عبر اللغة اللاذِعة. ولأن النكتة تنطلق من الضعيف إلى القوي لذلك سُمّيت أدب المُهمّشين في حين أنها في الحقيقة أدب المؤمنين بحريّاتهم، المُناضلين من أجل تحقيقها".
جَلْد الجلَّاد بسوطه
وتميِّز صاحبة "إيميسا" بين السُخرية والهجاء، مُبينةً أن السُخرية/ Irony تتضمّن الهجاء بشكلٍ أو بآخر، لكن مع الاستهزاء بالموضوع المطروح ومُسبِّب الألم، وهدفه دفع الموجوع للضحك لينسى ألمه. في حين أن الهجاء/ satire يعمد إلى تناول الموضوع بتبيان نقصه لكن دونما سُخرية ولا يكون هدفه الضحك وإنما الهجاء فحسب، قائلةً في حديث للميادين الثقافية: "انطلاقاً من ذلك فإن النكتة لا تنمو على تُربةٍ مُستقرّة بل تزدهر في فترات الاضطرابات والحروب والتحوّلات الثورية والتغييرات الاجتماعية الحاسِمة. وربما لا نُبالغ إن قلنا إن النكتة هي المرآة الأصدق للحقيقة لأنها تميط اللِثام عما يتمّ التعتيم عليه في موضوعات سياسية واجتماعية وثقافية لتقود الألم إلى أقصاه بحيث ينقلب، عبر الضحك، إلى "لا ألم" في ديالكتيك سيكولوجي لافِت لا يُتقنه إلا قلّة، إذ إن النكتة تشترط حدَّة الذكاء وإلا انقلبت إلى عكس ما وجِدَت من أجله. فالكاتب الساخِر عليه أن يكون مُثقّفاً مُطّلعاً مُلمَّاً بالقضايا الحاسِمة التي تُسبِّب مُعاناة المجموع. وعليه أن يكون قوّياً جريئاً على نحو يُمكّنه من انتزاع السوط من يد الجلاّد وجَلْده به، بينما يمتزج صُراخه بضحكات المقهورين".
وتضيف "الكلمة الساخِرة أشبه بهراوةٍ ثقيلةٍ لا ترحم كل مَن يقصده حاملها. ولا سُخرية مُمكنة بلا مهارة لغوية حاذِقة تعتمد استخدام تراكيب ومُفردات وعناصر بلاغية مُعيّنة. النكتة هي التقيّة الاجتماعية ربما، وهي التورية والتلميح الذي يمثل الشكل غير المباشر لمواجهة الانحرافات وأشكال الظلم والفساد بهدف تقويض ذلك كله. لذلك قيل إنّ السُخرية والنكتة هما قهوة الكادحين، التي حولها يتحلَّقون على الجُرح المُشترك والألم الواحد".
ملاذ من اليأس
القاصّ مفيد عيسى أحمد يوضِح للميادين الثقافية بأن النكتة في مواجهة القَهْر وظروف المعيشة الصعبة لها تاريخها، ففي العصور الإسلامية مثلاً، كانت تجري على مَن يدَّعون الهَبَل، وبالتالي يتنصَّلون من تبعة ما يقولون، مثل شيعب وبهلول وغيرهما، إضافة إلى تلك التي تُروى على لسان مَن لهم علاقة مباشرةً بالسلطة كالنُدماء، حيث يمنحهم وضعهم بالنسبة للسلطة هامشاً ليقولوا ما يريدون على سبيل التَّندُّر كأبي النوّاس مثلاً، قائلاً: "النكتة كان لها حضور بارز في الدول العربية كمَهْرَبٍ من الظروف السياسية والاجتماعية والمعيشية بشكلٍ عامٍ مثل مصر والعراق وغيرهما، وفي المجتمع السوري نتيجة الأزمة المُركَّبة التي يعيشها نمت النكتة وانتشرت باضطراد، ربما بتأثير المُفارَقات الحادَّة التي يمرّ بها هذا المجتمع والتي تتخطَّى المعقول، وبالتالي لا يمكن التعامُل معها إلا بالسُخرية كملاذٍ من اليأس وخط دفاع أخير بمواجهته".
قناع لقلبٍ حزين
ويذكّرنا صاحب "حارس الفلّة البنفسجية" بمقولة شكسبير على لسان هاملت "ما الضحك والصخب إلا قناع لقلب حزين"، لافتاً إلى أن وسائل التواصُل الاجتماعي لعبت دوراً كبيراً في تعميم وتداول النكات، مع ملاحظته بأن مجتمع المدينة أكثر قُدرة على ابتداع النكات من المجتمع الريفي، كالمجتمع الحمصي والدمشقي المعروفين برَصْدِ المُفارقات وتحويلها إلى مرويات مُضْحِكة.
ويبيّن أحمد أن "لتلك النكتة ثلاتة أصناف: الصنف الذي يتمّ تداوله في الشارع، وغالباً ما يتناول المحظور ويكون أكثر حدَّةً، ولا يمكن نشر هذه النكات على وسائل التواصُل خوفاً من تبعات ذلك. الصنف الثاني: النكتة التي يتمّ تداولها على وسائل التواصُل وهي أكثر تأثيراً بقُدرتها الهائلة على الانتشار. أما الصنف الثالث فالتي يتمّ تقديمها بأسلوبٍ درامي كوميدي، وتعتمد في الغالب على التورية والترميز، وهذا ما يُحيلنا إلى الكوميديا السوداء التي تقدِّم المُعاناة بأسلوبٍ مُضْحِك".