"كورونا"يضرب اللبنانيين في فنزويلا.. والحصار يفاقم المأساة
فيروس "كورونا" يضرب اللبنانيين في فنزويلا، والحصار الأميركي لكاراكاس يضاعف مأساتهم كما هي الحال مع أهل البلاد.
في لبنان أم في المهجر، أو في أي مكان في العالم يلاحقك حصارهم. يشدّون الخناق والإنسان يقاوم صناعتهم للموت والتهجير. لا يتوقّف نهمهم إلى الموت وشبقهم للدم. إنهم كالبعوض، لا يعيشون إلا على دماء الآخرين.
الكلام مُترافق مع حَدَثٍ جَلل بالنسبة إلى أهالي بلدة "بينو" في شمال لبنان، وذلك إثر رحيل ثلاثة من أبنائها في فنزويلا بعد إصابتهم بفيروس "كورونا". الراحلون كانوا بصحّة جيّدة تفترض قدرتهم على المقاومة. لكن يتهدّد الموت العشرات من أبناء البلدة المُصابين بهذا الفيروس، وكذلك مئات من اللبنانيين والعرب في فنزويلا، البلد الصديق، والسبب يعود إلى ضعف مستوى الاستشفاء الناتج من سنوات الحصار العِجاف الذي ضربه الأميركي على كاراكاس.
لفنزويلا في ذاكِرة "بينو"، كما في ذاكِرة آلاف اللبنانيين، وَقْع مُميَّز، فقد كانت من البلدان الأكثر استضافة لجاليات المُهجّرين إلى أصقاع الأرض بحثاً عن مستقبل أفضل.
زرعت فنزويلا في ذاكرة اللبنانيين موطناً آخر للبنان، ومُتنفّساً للضائقة التي كان يعيشها كثيرون بسبب ضيق الحال والفقر. فكم كانت عائلات بلداتنا المتواضِعة تتنهّد عند تسلّمها رسالة من إبن أو أخ أو أب هاجر إلى فنزويلا، وكان من المستحيل ألا يكون في الظرف ورقة أو أكثر من الدولارات الأميركية التي تفكّ ضائقة لعائلة.
ويوم تواردت الأنباء عن إمكانية العمل في ذلك البلد الصديق، الذي يحتضن العشرات من عائلات البلدة الذين تزاوجوا فيه وأنجبوا وبات موطنهم الأول، ولبنان الثاني، كان آخرون يبحثون الهجرة إليه. لا تتوقّف الهجرة ولا ينقطع التواصل مع هذا البلد. فنزويلا هي لبنان الثاني، وبنظر الراحلين إليها هي لبنان الأول.
نجح غالبية المهاجرين في حياتهم الفنزويلية، واعتادوا على نمط الحياة فيه، لكن لم تخلُ ذاكرتهم من الحنين الوقّاد إلى بلدهم وبلداتهم التي أحبّوها ولم ينقطعوا عنها، لا في مُراسلاتهم، ولا في تكرار زياراتهم إليها، حيث كانوا في سعادة كُبرى عند المجيء، يستذكرون حياتهم الأولى، ويحيون مع الأقارب والأصدقاء الحياة الهانئة التي عاشوها قبل الرحيل.
لكن فنزويلا تقع في مرمى العمّ سام الذي لم يتوقّف عدوانه على أميركا اللاتينية، بدءاً من كوبا الأبية، ثم تشيلي -الليندي، وسلسلة الانقلابات التي مارستها على مختلف دول أميركا الجنوبية. ومتى تعذّر عليها إسقاطها بمقاومة كاسترو، وغيفارا، وتشافيز، ومادورو من بعده، أقامت عدوانها عليهم بالحصار الاقتصادي.
ومثلهم مثل سكان البلاد الأصليين، حوصِر اللبنانيون في فنزويلا، وبعد أن كانوا يتمتّعون بالقدرة على إرسال الأموال إلى أهلهم، باتوا يحتاجونها وانقطعوا عن العودة إليه في الحصار، وعانوا من ويلات الحصار وضائقته، وتواردت الأنباء منهم عن فقدهم لعناصر الحياة الأساسية، ولم يعودوا قادرين على الخروج ولا البقاء، إلا أن الحصار جمّدهم بحالهم حيث هم.
ولا تُخفى على إثنين مُضاعفات الحصار على فنزويلا، خصوصاً بعد أن وصلها وباء "كورونا" وانتشر فيها، فتلقّفته الأجساد الضعيفة الفاقدة للمناعة تحت تأثير الحصار الأميركي. ورغم نداءات العالم لم يرفّ جفن للأميركي ولم يرد على مناشدات فك الحصار لولا الخطوة الإيرانية التي أوصلت التحدّي إلى ذراه. لكن الأوان قد فات، و15 عاماً أو أكثر كانت كافية لأن يتحوّل السكان في فنزويلا إلى حالات صحية هشّة قابلة للمرض وفاقِدة للمناعة بسهولة.
في هذه الأجواء أصيب عشرات من أبناء "بينو" المُقيمين في فنزويلا، ورحل 3 من رجالاتها الذين كدحوا وكافحوا وبنوا أعمالاً كبرى، تاركين حسرة كبيرة وحزناً لا يُنسى بين أبناء البلدة وبين عارفيهم. هم من الرجالات الذين قلّما بات العصر الحديث ينتج أمثالهم. هامات شامخة، وقدرات على الصبر، والصمود، وتحمّل الصعاب، لكنهم أمام "كورونا" وفي ظل الحصار لم يستطيعوا المقاومة، فرحلوا.
وأورد موقع الكتروني خاص بالبلدة (Beino Village) الأنباء المؤسِفة، ذاكِراً أنه "فُجِعت بلدة بينو بوفاة ثلاثة من أبنائها المُغتربين في مدينة "ماتورين" في فنزويلا نتيجة اصابتهم بكورونا، وهم نقولا مكاري (85 عاماً) وولده حبيب (55 عاماً)، ويوسف الشاعر (87 عاماً)".
ويؤكّد كاهن رعية بينو الأب حنا الشاعر نسيب المتوفّين، بحسب الموقع، على أن "العائلة في لبنان فوجئت بهذه الحال، لأن المتوفّين كانوا بصحة جيّدة"، عازياً سبب الوفاة "إلى ضعف العناية الطبية في فنزويلا التي تعاني من ضائقة كبيرة".
وينقل الأب حنا عن شقيقه المُغترب، الياس، أن "الوضع كارثي في فنزويلا، وهناك حال من الهَلَع والخوف بين أبناء البلدة، والجالية اللبنانية في المدينة، وليس إمكانهم مغادرة البلاد لتلقّي العلاج في الخارج، وهناك صعوبة كبيرة في التواصُل مع المرضى في المستشفيات، ومعرفة أوضاعهم".
وناشد الشاعر "السلطات المختصّة اللبنانية، والسفارة اللبنانية في فنزويلا، تقديم ما يمكن من المساعدات الطبية، وتسهيل سفر مَن يرغب، لحماية أبناء البلدة الذين يُعدّون بالمئات في المدينة".
في هذه الأجواء، نستحضر رواية "بونتياك"، العبارة التي اعتدنا عليها كإسم لماركة لسيارة أميركية انتشرت أواسط القرن المنصرم. لم نكن نعرف أن "بونتياك" هو إسم أشبه بأسطورة السكان الأميركيين الأصليين الذين سقطوا بالملايين تحت سنابك خيول الوافدين الجُدُد إلى أرضهم، فجوبهوا، ومن بين القلائل الذين استمر إسمهم لامعاً "بونتياك"، زعيم قبيلة "أوتاوا" في الشمال الغربي الأميركي.
لا يستطيع المرء إلا ربط الأمور ببعضها عندما تحمل الطابع عينه، فبين حصار فنزويلا وحصار قبيلة "أوتاوا"، ثمة رابط هو تقليد درج عليه الأميركي في تعامله مع البشر منذ صنع لنفسه هوية سياسية.
ففي 31 تموز/يوليو 1763 كان "بونتياك" قد بدأ رحلة بين قبائل البحيرات العُظمى، ووادي "أوهايو" يدعوهم فيها إلى الوحدة وقتال الإنكليز الذين ينوون استيطان مناطقهم.
تمتّع "بونتياك" بصفات القائد الفذّ، فاستطاع توحيد القبائل، ومقاومة الوافدين بقوّة، إذ ذاك، قرّر البريطانيون بيع المعلبات التي تحمل وباء الجدري إلى قبائل "أوتاوا"، بحسب شلدون واتس، وكان هذا القرار صادراً من جيفري أمهرست قائد القوات البريطانية، فانتشر الجدري بين القبائل، وتكوّمت الجثث في كل مكان.
يذكر واتس* عن زعماء أحدى القبائل التسع إنه "كان يُباع لهم مغلف في صندوق من القصدير، وعندما يصلون إلى المنزل، ويفتحون الصندوق، يجدون بداخله صندوق قصدير آخر، وعندما يفتحون الصندوق الأخير يجدون مجرّد أشياء مُتعفّنة، يختبرونه بدقّة ليروا ماذا يكون، وسرعان ما ينتشر بينهم مرض قاتل. يُسجّل ما فعله أمهرست، والجيش البريطاني ضد بونتياك، والقبائل التسع، أنه "كان أول نوع من أنواع الحرب البيولوجية التي يبتدعها الغرب لتثبت هيمنته".
نتذكّر رواية "بونتياك"، ونحن نتلقّف أخبار الحصار الفنزويلي والموت بالأمراض البيولوجية. كأن التاريخ يُكرّر صوَره.. ولو بطُرُقٍ مختلفة.
*شلدون واتس مؤرّخ ثقافي أميركي، وضع كتاب "الأوبئة والتاريخ- المرض والقوّة الامبريالة" 1999، وكتاب آخر بعنوان "المرض والعلاج في تاريخ العالم" Disease and Medicine in the World History 2003، وكتباً أخرى.