العنبر اللبناني: أرشيف الحياة في 150 مليون سنة
كائنات عمرها 130 مليون سنة يحتويها العنبر اللبناني.. ماذا اكتشفت"الجمعية اللبنانية لدراسة الأحفوريات والتطوّر" أيضاً؟
-
العنبر اللبناني: أرشيف الحياة في 150 مليون سنة
احتفاء بـ "اليوم العالمي للمُتَحَجِّرات" الذي يُصادِف في 15 تشرين الأول/أكتوبر من كل عام، أصدرت "الجمعية اللبنانية لدراسة الأحفوريات والتطوّر" (Apel)، طابعاً خاصاً لصورة ال Mimodactylus Libanensis، وهي نوع من الزواحِف المُتحَجِّرة والمُجَنَّحات (Pterosaur)، عُثِرَ عليها في صخور منطقة حجولا، أعالي قضاء جبيل.
هذه الأحفوريّة عاشت في العصرين الجوراسي والطبشوري، وانقرضت منذ نحو 60-65 مليون سنة، ويُحْتَفَظ بها في "متحف المعادن" (MM) في الجامعة اليسوعية في بيروت.
-
داني عازار -
أحفوريات في العنبر
ويُفيد رئيس الجمعية الدكتور داني عازار إنه "عثر على عيّنتين من هذه المُجنَّحات المُتحَجِّرة، وجرت دراستها، والسبب في اختيار هذه العيّنة للطابع هو احتفاظها بشكلها الكامل من دون تشوّهات، وتمثل كل قارّة "غوندوانا"، القارّة التي شملت أفريقيا، وأميركا الجنوبية، وشبه الجزيرة العربية، والهند، وأوستراليا، والقارّة القُطبية الجنوبية، وكانت مُجتمعة في قارّة واحدة منذ ملايين السنين.
وكانت الجمعية قد أصدرت طابعاً آخر أوائل الشهر الجاري لحشرةٍ مُتَحَجِّرة Protopsychoda Leoi عُثِرَ عليها في عين دارة في قضاء عاليه شرق بيروت.
ويوضِح عازار للميادين الثقافية أنه يتمّ إصدار طوابع منذ 2015، في مناسبتين، الأولى، في "اليوم العالمي للحشرات المُتَحَجِّرة"، والثانية، في الخامس عشر من الشهر عينه في "اليوم العالمي للمُتَحَجِّرات"، بالتعاون مع الدكتور اللبناني إيلي عواد، الناشِط في هذا المجال في فرنسا، وتساعد صلته مع السلطات البريدية الفرنسية على إصدار هذه الطوابع".
مجال الاهتمام بالمُتَحَجِّرات والأحفوريات، عبر اكتشاف "العنبر" ليس قديماً. ويُفيد عازار أن البروفسور أفتيم عكرا، وفريقه من الجامعة الأميركية في بيروت قد جمعوا مجموعة من العنبر والحشرات المُتَحَجِّرة من قبل، لكن الدراسات العلمية كانت من قِبَل الأجانب فقط.
ويلعب "العنبر" الدور المركزي في هذه الدراسات كونه الحافِظ على الكثير من المخلوقات منذ العصور القديمة، ويصف عازار "العنبر أنه كنزٌ عِلمي لا يُقدَّر، لأن ليس من موقعٍ آخر في العالم فيه محفوظات من الحياة التي كانت موجودة منذ 130 مليون سنة، أو العصر الطبشوري السفلي".
-
أسماك متحجرة -
أسماك متحجرة في الطبقة البترولية
والعنبر مادَّة من أصماغ الأشجار، لَزِجَة، وتُفرزها الأشجار، خصوصاً الصنوبر، تعلق فيها الحشرات، وتلتصق وتموت وتظلّ لاصِقة بالعجينة التي تجفّ، وتتحجَّر شفّافة عبر القرون.
ويستطرد عازار شارِحاً أهمية العنبر اللبناني، فمن خلاله "استطعنا أن نفهم كيف تطوَّر العديد من عائلات الحشرات، الموجودة حالياً، أو التي انقرضت، ففي الفترة التي تكوَّن فيها العنبر اللبناني، وهي فترة مفصلية، حدث فيها انقراض الكثير من الحشرات، من البيئة القديمة ما قبل ظهور النبات المُزْهِر، وبدأت عائلات جديدة في البيئة الجديدة ما بعد الإزهار".
هذه المرحلة التي هي العصر الطبشوري السُفلي، أي منذ 130 مليون سنة، عندنا منها حوالى 450 موقعاً في لبنان، تغطّي 10% من الأراضي اللبنانية، بحسب عازار الذي يردف أن "هناك مرحلة مفصلية ومهمَّة جداً حتى نفهم التطوّر الذي حصل على الكرة الأرضية من خلال دراسة الحشرات المُتَحَجِّرة، كما ساعدتنا الدراسات لنفهم تطوّر عائلات الحشرات، والعنبر اللبناني غنيّ جداً بالمحفوظات من الكائنات الحيّة التي كانت موجودة آنذاك، ما يُعطينا فكرة واسعة عن البيئة، وكيف كانت مُركَّبة، وما هي عناصرها.
يوضِح عازار أن "لبنان في ذلك العصر كان على خط الإستواء، وينتمي إلى قارة "غوندوانا"، وكان مناخ لبنان إستوائياً، وغاباته كثيفة، وكانت هناك ديناصورات. والكثير من الحشرات التي نكتشفها اقتاتت على دم الديناصورات، وعاشت على بقيّة أنواع الأشجار الحديثة المُزْهِرة".
-
طابع حشرة في العنبر
ويُفيد عازار أن أول اكتشاف له للعنبر يعود إلى خمس وعشرين سنة، حيث كان لا يزال طالباً في الجامعة، عندما كانت لديه هواية جَمْع المُتَحَجِّرات، وقد جمع في حينه عدَّة عيّنات من العنبر اللبناني، وعثر على حشرات في داخلها، ودرس إحداها، وأسماها على إسم والده (لطف الله) : وهي أقدم حشرة الفليبوتوم في العالم، أي من الحشرات الماصَّة للدماء وتنقل مرض الليشمانيوز (Leishmaniasis)، ومنذ ذلك الحين، سجَّل عازار أكثر من خمسمائة صنف من العنبر اللبناني، وسواه في أنحاء العالم.
ويذكر عازار أنه "كل يوم عندنا اكتشافات جديدة بالعنبر اللبناني، والعملية مهمَّة نظراً إلى ما تحتويه مادة العنبر من كائنات كانت حيَّة منذ 130 مليون سنة. الأهميّة لهذه المُكْتَشفات أنه عُمرها 130 مليون سنة، وهي الأقدم على الكرة الأرضية حتى اليوم، وفيها مُكوِّنات حياتية، من حشراتٍ أو عناكب أو سواها.
ويُلفت إلى أنه "ليس الأهمّ كونها الأقدم، إنما هو أن العنبر ترافق تكونه مع ظهور النباتات المُزْهِرة، وبذلك تحوَّلت البيئة الطبيعية كلياً من بيئة قديمة بلا زهور إلى بيئة جديدة مع الزهور. هنا ظهرت الحشرات التي تلحق تفتّح الزهور وتلقّحها، وظهر التطوّر المُتزامِن (co-evolution) الذي يحدث بين النبات والحشرات".
-
طابع لزاحفة حجولا
المُصادفة أنه لم يعثر في أيّ موقع في العالم على دلائل حسيِّة لهذه الفترة إلا في لبنان، ويؤكِّد عازار أنه "يمكننا ذلك من دراسة التطوّر الجاري بطريقةٍ رائعةٍ، لأن النبات المُزْهِر اليوم يشكّل ثلاثة أرباع النبات الموجود حالياً. وإذا أردنا العودة إلى جذوره، وكيف تمّ تكوينه، فعلينا العودة إلى الزمن الذي تكوَّن فيه. هنا نرجع إلى العنبر اللبناني الذي تكوَّن في الفترة عينها، فكان ذلك بمثابة أرشيف للطبيعة القديمة، وحفظنا كل المعلومات التي كانت موجودة في الطبيعة في وقتها".
وأعلن عازار أنه "بعد فترة قريبة، ينتظر ظهور نتائج أبحاث تتناول العصر منذ150 مليون سنة، وعندنا عنبر من العصر الجوراسي، خالٍ من الحشرات المُتَحَجِّرة. ويجري التحضير لمنشورةٍ عالميةٍ بهذا الخصوص".
يُعْتَبر عازار واحداً من الأوائل في العالم في مجال دراسة الحشرات المُتَحَجِّرة والتطوّر، وزار وعمل في كثيرٍ من البلدان من القُطب الشمالي حتى أفقر القرى، في الصين وأفريقيا والأميركتين، ويقول: "عشت في أكبر العواصم والمدن الأوروبية والأميركية وكل ما وجدته في الخارج موجود في لبنان وأجمل".
-
العنبر اللبناني: أرشيف الحياة في 150 مليون سنة
وقد استُدْعِيَ من مختلف أنحاء العالم، شرقاً وغرباً، للمشاركة في العديد من المؤتمرات للإطّلاع على مُكتشفاته، وعُيِّن حديثاً عضو شرف في الأكاديمية العلمية الصينية، وهو أستاذ مُحاضِر في كلية العلوم في الجامعة اللبنانية، احتلَّ موقع رئيس "المجتمع العالمي لدراسة الحشرات المُتَحَجِّرة" (IPS) الذي تأسَّس في غدانسك في بولونيا، وانتُخِبَ رئيساً له بعد مؤتمر عن العنبر عُقِدَ في جبيل سنة 2013، وبقي رئيساً له لدورتين حتى 2019.
وهو حالياً رئيس "الجمعية اللبنانية لدراسة الأحفوريات والتطوّر" التي تأسَّست سنة 2015، وله العديد من المُساهمات المحلية والعالمية في مجال العنبر والمُتَحَجِّرات والأحفوريات.