هاروكي موراكامي، ما الذي عزَّز من تفوّق أشهر كتَّاب اليابان؟
يبرز هاروكي موراكامي ككاتب متفرّد في اختياراته وفي طرحه، واستطاع أن يشقَّ طريقه الخاص برؤيةٍ مُغايرة لنهج باقي أدباء اليابان.
بحُكم البُعد الجغرافي، والذي يوازيه بُعد ثقافي هويّاتي أيضاً، فإن الأدب الياباني لم يجد مكانة له ضمن المكتبات العربية، مُقارنة مع ما تزخر به رفوف المكتبات في بلداننا من أدب روسي وإنكليزي، أو جرماني وفرنسي وغيرها.
الملاحظة المُقدَّمة سلفاً هي ما تفطَّن له بعض المُترجمين ودور النشر العربية خلال العقود القليلة الماضية، وعملوا على تقليص هاته الفجوة، لتقريب القارئ العربي من الثقافة اليابانية، ومدّ جسور التواصُل بين حضارتين تتطلّع كل واحدة منهما للأخرى بنظراتٍ غرائبيةٍ تُعاكس الواقع أحياناً كثيرة، وتُصيبه أحياناً أخرى، لكن مع جنوحٍ نحو المبالغة وإفراط واضح في التضخيم!
أكثر الأدباء اليابانيين استفادة من حركة الترجمة هذه: "كنزابوري أوي" الذي أعيدت ترجمة بعض نصوصه إلى العربية، و" جونيشيرو تانيزاكي" و"تاييشي يامادا" الذي نقل خالد الجبيلي روايته الأشهر "غرباء" عن الإنإليزية، و"ناتسومي سيسوكي" و"كوبو آبي"...إلخ.
إلا أن الانتشار الذي لاقاه هاروكي موراكامي لدى القرَّاء العرب، قلَّما حازه روائي آخر من مُعاصريه، وكتاباته لدى كثيرين أقرب "لإدمان" يصعب التخلّص منه مع القراءة الأولى لرواياته.
فمَن يقرأ له يُلاقي بعدها صعوبة في القراءة لغيره. فما هي تميمة حظ صاحب "كافكا على الشاطئ"؟ وكيف لاقى هذا الرواج؟
أجزاء في قالبٍ عظيم
بخلاف الرائج ضمن الأدب العالمي، يختار هاروكي موراكامي أن ينأى بنفسه لقضايا أكثر ذاتية، تلك التي تتّسم بالوجود الواقعي القوي ضمن المجتمع الياباني خاصة، وتفرض نفسها ضمن البناء السردي لروايات موراكامي من قبيل: الفراغ الوجودي، العزلة الكونية للجنس البشري، الفردانية والإشكاليات الناجمة عن العلاقات الاجتماعية، والوحدة والفراق، والتَوْق لتجدّد اللقاء الإنساني كعزاءٍ وسلوى أخيرة لإنسان القرن الواحد والعشرين، الذي لا يكفّ عن التشكيك بجدّية الوجود.
هكذا وعوض أن يسخّر قلمه لقصة حبٍ بائسة، يُحدِّثنا هاروكي عن الحاجة إلى التواصُل بين الجنسين كمنزع إنساني، فيُعالج العلاقات الاجتماعية انطلاقاً من هذا المُعطى. وبدل أن يكتب عن هَوْل الحرب وفتكها بالإنسان، والتي يُعدّ اليابانيون بالمناسبة الأكثر تضرّراً منها في التاريخ المُعاصِر، يُقرِّر التنازُل عن هذا الحق طوعاً لكتابٍ آخرين، (كما فعل كنزابوري أوي ضمن روايته "الطفل المُستبدل") كي يطوف بقرَّائه عبر حانات طوكيو التي تصدح بموسيقى البلوز والجاز الأميركي ليلاً، وليُعرِّج على فنادق الحب، حيث تقدّم الأجساد لمَن يدفع).
يُقدِّم هاروكي رواياته في طابعٍ سريالي هزلي، يبتعد بالقَدْر الكافي عن الجدّية وتأتي الصدفة بالكثير من أحداث روايته، كما حملت الصدفة يوماً فكرة التأليف لذهنه حينما كان في أحد جلساته المُعتادة في مقهاه الخاص في اليابان، والذي شيَّده أساساً للاحتفاء بموسيقى الجاز (هوسه الأول).
تأثّر ظاهر بالثقافة الغربية
خلال بداية مشواره الأدبي، تعرَّض موراكامي لنقدٍ لاذعٍ من طرف الكتَّاب والنقَّاد اليابانيين، مُعتبرين كتاباته النثرية تبدو إنكليزية أو أميركية أكثر منها يابانية، وذلك لتأثّره بأعمال روائيين غربيين مثل فيتزجيرالد وستيفن كينغ، ولوَلعه المَرَضي برموز الجاز كديوك الينغتون ونات كينغ كول الذي اقتبس منه مقطوعة "جنوب الحدود" عنواناً لرواياته "جنوب الحدود غرب الشمس".
استطاع موراكامي بهذا المزج بين الثقافات، والاستخدام المُتقن لرموز الحضارة الغربية، من دون انسلاخٍ عن ثقافته الأمّ، في التقرّب أكثر من قرَّائه حول العالم. تُرجِمت أعماله إلى أكثر من خمسين لغة، وشملت شُهرته الشرق والغرب على السواء، فسافر إلى أوروبا واستقرّ هناك لسنوات، ثم شدَّ الرِحال بعدها إلى أميركا حيث عمل مُدرِّساً في جامعة وليام هوارد تافت، قبل أن يعود إلى اليابان مُجدَّداً في مُنتصف التسعينات.
وتحصَّل هاروكي على جوائز عدَّة منها: جائزة أساهي سنة 2006، جائزة فرانز كافكا سنة 2006، وجائزة القدس سنة 2009، وجائزة التايمز في 2015.
تجرّد من التابوهات
إضافة إلى موهبته الفذَّة، يتجلَّى امتياز هاروكي في قُدرته على الكتابة بحريةٍ مُتجرِّداً من جلّ التابوهات التي تُقيِّد المؤلّف عادة.
فهو يتحرَّك ضمن مساحة شاسِعة، أكسبت كتاباته مرونة مُبهِرة، وجعلته يتناول مواضيع حسَّاسة كالانتحارالذي ترتفع معدّلاته بشكلٍ مهولٍ في اليابان.
والواقع أن خاصيّة التمرَّد واللا إكتراث بالمُحيط، قد لازمت هاروكي منذ شبابه. فقد سلك نهجاً مُغايراً لأبناء جيله، ولما كان اهتمام أقرانه ينصبّ على الحصول على وظيفةٍ رفيعةٍ في إحدى الشركات اليابانية، عاند هاروكي رغبات أهله مُفتتحاً لنفسه مطعماً في العاصمة ومُحقّقاً حلم طفولته الذي ارتبط بعالم الفن وموسيقى الجاز على وجه التحديد.
لكل ما ذُكِر فإن هاروكي يبرز ككاتبٍ مُتفرِّدٍ في اختياراته وفي طرحه، واستطاع أن يشقَّ طريقه الخاص برؤيةٍ مُغايرة لنهج باقي أدباء اليابان، ربما لأنه ببساطةٍ يرى المدينة وأحوال أهلها من أعلى بعيون صقر لا يمزج ذاته بذواتهم، بل يكتفي بلعب دور المُتفرِّج!