تونسيون في "قوارب الموت".. حكايات الوجع الطويل
من الفقر إلى الاستغلال والمُعاناة والاحتجاز في ظروف قاسية.. هذه قصص تونسيين وتونسيات قرروا ركوب "قوارب الموت" باتجاه أوروبا.
في غرفة شاحبة الجدران، منذ خمس سنوات، يرقد شاب عشريني فوق سرير طبي وضِع في أحد أركانها، جامداً، فاغِر الفم، لا يصله بهذه الحياة سوى أنبوب ثقب رقبته، هو منفذه الوحيد المتاح لاستنشاق الهواء.
أثقل هذا المشهد كاهل أمّه مبروكة، وهي امرأة لم تتجاوز السابعة والثلاثين من عُمرها، أصيلة من محافظة صفاقس (جنوب شرق تونس)، فقرّرت اصطحاب إبنها المريض وزوجها وبقية أطفالها الخمسة وركوب البحر في اتجاه إيطاليا بحثاً عن أملٍ لعلاجه.
تقول مبروكة لــ الميادين الثقافية "حاولت اجتياز الحدود مرتين ولكنني فشلت، آخر مرة كانت بداية هذا الصيف، حين عرض عليّ بعض الأشخاص الذهاب في رحلةٍ بحريةِ لاجتياز الحدود الإيطالية لمٌعالجة إبني فوافقت من دون تردّد، ولو كنت أمتلك المال لأعالجه لما فكّرت في ركوب البحر. لم أخف أبداً من اصطحاب أبنائي في تلك الرحلة الخطيرة، فهم أحياء أموات في تونس، وكان قراري إما أن نحيا بكرامةٍ معاً أو نموت".
يقبع زوج مبروكة في السجن بسبب محاولته اجتياز الحدود بصحبة عائلته، في حين تواجه بدورها تهمة إهمال عيال، وهي لا تمتلك مورد رزق، بعد أن سُجِن زوجها، فاضطر إبنها إلى الانقطاع أحياناً عن الدراسة لجَمْع قوارير البلاستيك لتوفير قوته اليومي.
تقول مبروكة إنها لو أتيحت لها فُرَص أخرى لاجتياز الحدود فلن تتردّد في ذلك من أجل إبنها، فهي ليست المرأة الوحيدة التي حاولت اجتياز الحدود بل إنه هناك نساء كثيرات حاولن بصحبة عائلاتهن اجتياز الحدود بحراً بحثاً عن أمل في حياة أفضل، وأنه هناك كثيرات حالفهن الحظ ووصلن إلى التراب الإيطالي، كما أن كثيرات فشلن في الوصول.
منذ كانون الثاني/يناير الماضي، حاولت 80 امرأة تونسية اجتياز الحدود لكنهن فشلن في ذلك ووقعن في قبضة خفر السواحل التونسي، وذلك وفق وثيقة حصلت عليها الميادين الثقافية من وزارة الداخلية التونسية، لكن لا تنشر الوزارة عدد التونسيين الذين وقعوا في قبضة الأمن الأوروبي.
تخشى نساء تونسيات كثيرات ممَّن وقعن في قبضة أمن إحدى الدول الأوربية واللاتي تحدّثت معهن الميادين الثقافية من كشف هويّاتهن أو حكاياتهن، لكن "هبة" وافقت على التحدّث إلينا عن تجربتها من دون أن تظهر وجهها خوفاً من السلطات الإسبانية. هي أمّ لطفل صغير يبلغ من العمر ثلاث سنوات، لم تتجاوز الثمانية والثلاثين عاماً من عُمرها، تقبع منذ عشرة أشهر في مركز الاحتجاز الإسباني في مدينة مليلة، بعد أن قرّرت اجتياز الحدود الإسبانية متّجهة نحو فرنسا.
تقول هبة في حديث قصير "دفعت ألفي يورو من أجل الوصول إلى فرنسا عبر مليلة، كنت في فرنسا من دون وثائق إقامة قانونية وأنجبت طفلي هناك، لكنني اضطررت إلى العودة إلى تونس لزيارة أمّي المريضة، وحين أردت العودة إلى فرنسا، رفضت السفارة الفرنسية في تونس إعطائي تأشيرة دخول إلى أراضيها رغم أن إبني يمتلك وثائق قانونية للإقامة في فرنسا، فقرَّرت اجتياز الحدود الإسبانية نحو فرنسا. كل ما فعلته كان من أجل ضمان مستقبل كريم لطفلي، لكنني ندمت على اختيار مسلك مليلة وكان الأجدر بي اجتياز الحدود الإيطالية بحراً ثم المرور من هناك إلى فرنسا".
تمتلك هبة شهادة جامعية في اختصاص التكنولوجيا الطبية، وبحثت عن عمل في تونس لكنها فشلت في إيجاد عمل يلائم شهادتها، وتقول إنها واجهت الاستغلال الاقتصادي في شركات خاصة، وهي لم تتحمّل ذلك، فقرّرت المُغامرة بالسفر إلى فرنسا عبر الحدود الإسبانية حتى تجنّب إبنها ما خبرته هي.
بين شهري كانون الثاني/يناير وأيلول/سبتمبر الماضي، تمكّنت 275 امرأة تونسية من الوصول إلى الأراضي الإيطالية حسب إحصاءات حديثة في تقرير بخصوص الهجرة غير النظامية الذي أنجزه المُنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهو رقم مرتفع مُقارنة بالأعوام الماضية، ولا توجد دراسة رسمية بخصوص توجّه النساء التونسيات نحو المغامرة واجتياز الحدود نحو أوروبا، وهو ما أكّده محمّد صفر المسؤول عن الإعلام في وزارة المرأة، لــ الميادين الثقافية، حيث يقول إن الوزارة لم تنجز أيّ تقرير أو دراسة جندرية في ملف الهجرة غير النظامية، وهو ما يؤكّده رمضان بن عمر، المسؤول عن ملف الهجرة في "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" التي تنشط بكثافة في توفير إحصاءات ومتابعة وضعية المهاجرين غير النظاميين، ويقول بن عمر في حديث مع موقع "الميادين الثقافي" "أعتقد أن الفلسفة العامة للدولة التونسية هي اعتبار كل الظواهر الاجتماعية الناتجة من فشلها في إدارة الأزمة الاقتصادية هي عوارض طبيعية للثورة، وأن الاحتجاجات الاجتماعية والهجرة غير النظامية وكل الكوارث هي عوارض طبيعية للانتقال الديمقراطي، وكان يمكن لهذا التشخيص أن يكون منطقياً لو أن تونس شهدت انتقالاً اقتصادياً واجتماعياً لكن الدولة تنتهج السياسة الاقتصادية نفسها، حتى يخيّل لنا أنها تتخلّى عن كل المواطنين الذين قرّروا الهجرة غير النظامية أو الذين يحتجّون أو ينتحرون احتجاجاً على وضع غير سوي".
يعتبر رمضان بن عمر بصفته مشرفاً على تقارير منظمته بخصوص الهجرة غير النظامية، أن هجرة النساء لها أسباب مُتعدّدة، فهناك دوافع اجتماعية واقتصادية، لكنه يستدرك ليقول "هناك أيضاً دوافع عرضية لهجرة النساء والعائلات بصفة عامة، مثل الصحة او العنف الزوجي، إنه وضع سريالي بحق، فالأمّ التي تخاف كثيراً على سلامة إبنها هي الأمّ نفسها التي تضعه في قارب في رحلة موت غير مضمونة النتائج، فبالنسبة لها خطر تلك الرحلة أقل حدّة من الخطر الذي يحيط بأبنائها مثل الجريمة والتشرّد".
ويعيب رمضان بن عمر على الدولة التونسية "لا مبالاتها"، فـ "التونسيون الذين ينتحرون أو أولئك الذين يقرّرون اجتياز الحدود بطريقةٍ غير نظامية هم مُجرَّد أرقام:، بحسب قوله ويضيف "ليس هناك تشخيص رسمي لظاهرة هجرة النساء وعائلات بأكملها، رغم أن الوضعية خطيرة. فالأمر جليّ في هجرة النساء اللاتي تكون أغلبهن مصحوبات بأطفالهن، وهو الانتقال من الخلاص الفردي إلى الخلاص الجماعي، لكن الأمر المقلق هو أن وزارة المرأة مثلاً أو وزارة الشؤون الاجتماعية لا تتفاعل مع هجرة العائلات بطريقة منطقية أو علمية، لأن قراءتها لتلك القضية سطحية فتعتبر أن قرار هجرة العائلات أو النساء هي قرارات فردية تخصّها، في حين كان الأجدر قراءة الأسباب التي دفعت النساء أو العائلات إلى مواجهة الموت على البقاء في تونس. لا تبذل الدولة أيّ مجهود لتفسير هذه الظاهرة، فباستثناء محاولات بعض الجامعيين وبعض منظمّات المجتمع المدني، لا توجد أية دراسات رسمية في هذا الملف كأن الدولة تحاول الهروب من مواجهة الأسباب".
ومنذ كانون الثاني/يناير إلى غاية نهاية شهر تشرين الأول/اكتوبر 2020، وصل 10739 تونسياً إلى الأراضي الإيطالية، وهو رقم صادِم للبعض لكنه منطقي بالنسبة إلى المتابعين لقضية الهجرة غير النظامية.
فقد تعوّد التونسيون حين يلوح موسم المصيف في الأفق، على مشهدين، حيث يتطلّع جمعيهم إلى البحر، يقيسون حركة مدّه وزجره واتجاه الرياح لكن تختلف غاياتهم. بعضهم يتطلّع إلى بحر ساكن حتى يتمكّنوا من الاستجمام والبعض الآخر يقتنص الليالي الساكنة حتى يركب البحر في اتجاه إيطاليا.
لكن قد لا يبالي آخرون بالوضع الجوي، فيختارون اقتناء تذكرة إلى المغرب لتبدأ رحلتهم من هناك، حيث يقلّ هاجس المهاجرين التونسيين هناك من إمكانية ترحيلهم إلى بلدهم إذا وقعوا في قبضة الأمن الإسباني في مليلة لأن تونس لا تربطها اتفاقات في ملف الترحيل القسري للمهاجرين غير النظاميين على عكس إيطاليا وفرنسا.
اختار أمين وهو شاب لم يتجاوز الحادية والعشرين من عُمره رحلة غير مضمونة لكنها أقلّ خطورة، فقرَّر السفر إلى المغرب ليتسلّل إلى إسبانيا ثم إلى فرنسا. لكنه منذ الحادي والثلاثين من شهر آب/أغسطس 2019، يقبع في مركز احتجاز المهاجرين غير النظاميين.
تحدّث أمين إلى الميادين الثقافية بخوف خشية الوشاية به إلى الأمن الإسباني المُشرِف على المركز.
ويقول "خلال رحلتي تعرّضت إلى استغلال كبير من قِبَل "الحراقة" (أي منظمي عملية الهجرة غير النظامية)، تحمّلت كل تلك المُعاناة وحين وقعت في قبضة الأمن الإسباني كان ذلك بمثابة بداية تحقيق حلمي لأنني متأكّد أن تونس لن ترضى بترحيلنا، لكنني صُدِمت من الوضع المُزري هنا، وازداد الوضع سوءاً بعد انتشار وباء كورونا. رأيت نساء تونسيات لكنهن يخشين الحديث أو ذِكر هوياتهن. إجمالاً، يوجد 696 تونسياً بصحبة سبعمائة مُحتجز آخرين في هذا المركز، من ضمنهم 160 شخصاً أصيب بالفيروس و500 يشتبه في تلقّيهم العدوى، نحن محاصرون داخل خيمة تسع لقرابة أربع مائة شخص، بالوباء من جهةٍ وبالمصير المجهول من جهةٍ أخرى".
اعتذر أمين عن التحدّث عبر الفيديو لأنه أراد ادّخار بعض الطاقة في هاتفه خاصة أنه لا يعلم متى يمكنه إعادة شحنه بسبب الانقطاع المُتكرِّر للكهرباء في مركز الاحتجاز، لكنه رغم الظروف الكارثية في ذلك المخيم لم يندم على قراره مُغادرة تونس.
منذ آب/أغسطس الماضي، تتعرَّض الحكومة التونسية إلى ضغط إيطالي وفرنسي شديدين من أجل "صرامة" أكبر في حراسة حدودها، وصل إلى حدّ تهديد وزير الخارجية الإيطالي في صيف 2020 قبل زيارته تونس، بوقف المساعدات المالية الإيطالية.
أما وزير الداخلية الفرنسي فقد زار تونس مؤخراً لصوغ اتفاقية تمكّن فرنسا من ترحيل أكبر عدد ممكن من التونسيين المقيمين على أراضيها من دون وثائق قانونية.
وانتقدت منظمات حقوقية الغموض الذي يحيط بتفاصيل زيارة مسؤولين أوروبيين إلى تونس لمناقشة ملف الهجرة غير النظامية، وبين هذا الموقف وذاك، لم تتوقّف قوارب الموت عن نقل مئات التونسيين يومياً إلى ضفة "الجنّة الموعودة"، غير مبالية بما يُصاغ من اتفاقات أو ببيانات التنديد ضد الحكومات الأوروبية والتونسية.