"المنصوري الكبير".. أقدم مساجد طرابلس وضابط إيقاعاتها
لعب "الجامع المنصوري الكبير" دوراً هاماً في نشوء مدينة طرابلس وتشكّلها.. كيف؟ تعالوا لنعرف أكثر.
-
"المنصوري الكبير".. أقدم مساجد طرابلس وضابط إيقاعاتها -
"المنصوري الكبير".. أقدم مساجد طرابلس وضابط إيقاعاتها -
"المنصوري الكبير".. أقدم مساجد طرابلس وضابط إيقاعاتها -
"المنصوري الكبير".. أقدم مساجد طرابلس وضابط إيقاعاتها -
"المنصوري الكبير".. أقدم مساجد طرابلس وضابط إيقاعاتها -
"المنصوري الكبير".. أقدم مساجد طرابلس وضابط إيقاعاتها -
"المنصوري الكبير".. أقدم مساجد طرابلس وضابط إيقاعاتها -
"المنصوري الكبير".. أقدم مساجد طرابلس وضابط إيقاعاتها
يُشكِّلُ الجامعُ المنصوري الكبير محطّة هامّة في التاريخ الطرابلسي، ويُشبه العمود الفقري لتشكّل المدينة المملوكية، وتطوّراتها. شُيِّد سنة 1294، بعد خمس سنوات على دخول المماليك إلى المدينة وتحريرها من الصليبيين الذين سيطروا على المنطقة، وحكموها لما يُناهِز القرنين من الزمن.
فقد فتح السلطان المملوكي المنصور قلاوون المدينة بعد تمكّنه من طردِ الصليبيين منها، ويُرجِّح مختلف المؤرِّخين أن المدينة كانت قائمة في مساحة أقرب إلى الساحل حيث لا تزال بقايا سورها موجودة في مدينة الميناء.
في فترةٍ لاحِقة، جاء إلى طرابلس المنصور خليل المُلقَّب بالأشْرَف، إبن المنصور قلاوون، وهو فاتِح عكا وصور وصيدا وبيروت وسواها، فعمل على تنفيذ وصيَّة والده بنقل موقع المدينة لتكون أقرب إلى الداخل.
وبحسب رواية إمام الجامع الشيخ علي الشلبي، فقد بحث المنصور خليل عن الموقع الذي أقام فيه والده بعد تحرير المدينة، وعَلِمَ إنها كانت خيمة في موقع الجامع الحالي، فطلب إقامة مسجد مكانها.
ويُفيد الشلبي أن المسجد هو أساس المدينة الحالية، ومركزها، فقد نشأت المدينة الحديثة المملوكية انطلاقا من الجامع.
بُنيَ الجامع 1294 م في عهد السلطان الناصر محمّد بن قلاوون الذي تابع أيضاً بناء رواقاته، وأتمَّها سنة 1315م. أما منبره فيعود إلى العام 1326 م إذ أمرَ بصنعه الأمير شهاب الدين قرطاي، وذلك بالعودة إلى مراجع المؤرخ الطرابلسي الدكتور عمر تدمري.
يقع الجامع المنصوري الكبير في حيّ النوري وهو الجامع الأكبر في طرابلس، وربما في لبنان. مبنى مُربّع مُقْفَل، له أربعة أبواب، وثلاثة أروقة حول فنائه الداخلي، تغطّي مساحته الإجمالية الثلاثة آلاف متر مربع، بينما تبلغ مساحة حَرَمه الــ 1630 متراً مربعاً. وفي وسط الفناء بركة الوضوء، ومُصلَّى، وتعلو الرواق الشمالي المئذنة أو البرج نظراً إلى ضخامتها. وفي كل جمعة وقبل الصلاة، كان يصعد إلى المئذنة "البرج" مؤذّنو المسجد الـ12، فيقومون بالتذكير، والتبليغ، والأذان، ثم بالتلبية وراء الإمام لإسماع المُصلّين في صحن الجامع الوسيع.
أُقيم الجامع على أنقاضِ كنيسةٍ قديمةٍ بحسب المؤرِّخ تدمري الذي يعتبر أفضل من وثق، ووصف غالبية المعالم الأثرية المملوكية في المدينة، ويُعتبَر الباب الشمالي الرئيسي للجامع، ومئذنته، من بقايا كنيسة صليبية، وقد كانت مئذنته في الأساس برجاً "لومباردي" الطِراز لكنيسةٍ حملت إسم القدِّيسة "ماري دي لاتور”، وقد تهدَّمت عند حصار قلاوون للمدينة، وبقي من آثارها البرج، والبوابة الرئيسية.
الباب الرئيسي
يقع الباب الرئيسي للجامع في الجهة الشمالية، ومن المُرجَّح أن هذا الباب كان باباً للكنيسة الصليبية ذات الطراز القوطي، ومن آثار البوابة القديمة العمودان الرُخاميان القائمان عند طرفيها، تتوّجهما الزخرفة القوطية، ويرتكز عليهما إفريزان لقوسين أسفل العَقْد الذي يعلو البوابة. ثم تلي العمودين عضاضتان في كل ناحية، الأولى أكثر ضخامة من الثانية.
تعلو الباب اللوحة التاريخية التي توثِّق بناء الجامع، نُقِشَ عليها ثلاثة أسطر بالخط النسخي المملوكي، وعند نهايته بأعلى العضاضة اليُسرى للباب يوجد نَقْش آخر بنفس الخط، وفوق عتبة الباب توجد كتابة عُثمانية هي: لا إله الا الله محمّد رسول الله.
الباب الشرقي
يؤدِّي هذا الباب إلى الرواق الشرقي المُطلّ على باحة الجامع، وتعلوه زخرفة تُشكِّل قوساً نصف دائري، تحته قوس آخر يشبه في زخرفته الحبل المجدول، ويعتبر بعض المؤرِّخين هذه الزخرفة بيزنطية.
الأروقة
يفضي الباب الرئيسي إلى الباحة الواسعة للجامع، تتوسّطها بركة الوضوء الكبيرة، تعلوها قبَّة ترتكز على أربع عضاضات ضخمة. والبركة من الرُخام الأبيض تتوسّطها نافورة بثلاث طبقات.
جنوبي البركة مُصلَّى يرتفع على أرض صحن الجامع حوالى المتر، وفي جهته القبلية محراب صغير، وهذا البناء مُفْرَغ من الجُدران، يتألَّف من ست عضاضات.
وعلى يمين الداخل من البوابة الشمالية، وفي باحة الجامع ينتصب عمودان من حجارة الغرانيت بارتفاع حوالى متر ونصف المتر. وفوق مدخل البوابة المُطلِّة على الرواق الشمالي يوجد قوس مُزَخْرَف بإتقانٍ وتنوع.
تُحيط بصحن الجامع من جهة الشمال والشرق والغرب رواقات أمر ببنائها السُلطان الناصر محمّد بن قلاوون، ترتكز على عضاضات ضخمة، مُربَّعة القاعدة، تتشكَّل منها عقود، وقناطر مُثلَّثة الرؤوس.
على إحدى العضاضات في الرواق الشرقي توجد لوحة صغيرة نُقِشَت فيها خطوط مُنحنية مهمّتها تحديد وقت أذان العصر، وإلى اليمين منها توجد اللوحة التاريخية لبناء الأروقة مُنْدَمِجة في واجهة الرواق الشرقي نُقِشت فيها تسعة أسطر بالخط النسخي المملوكي.
حَرَم الجامع
يقع الحَرَم في الجهة الجنوبية من الجامع، مع ميلٍ قليل نحو الشرق. تتألَّف واجهته المُطلَّة على الباحة من سبعة عقود، أو سبعة أبواب كبيرة، وهي أكثر اتّساعاً من عقود الرواق الشمالي، ومنها عقد يفضي إلى الرواق الشرقي من الناحية الجنوبية، وخمسة عقود إلى الصحن، أما العقد السابع فقد أقيمت عنده غرفة تُعْرَف بغرفة "الأثَر الشريف”.
يتكوَّن سقف الحَرَم من 14 أسطواناً، تعلوه قبوات مُتعارِضة ما عدا أسطوان المحراب فتعلوه قبَّة قائمة على مُقَرْنَصات مقوَّسة. وفي وسط حَرَم الجامع تقوم سبع عضاضات. وتواجه هذه العضاضات سبع عضاضات أخرى في الناحية الشمالية، وهي المُطلَّة على الباحة.
أما الحَرَم فيبلغ طوله (51،50 متراً)، وعرضه (11،30 متراً)، ويتألَّف من ثلاثة أقسام، قسمان مُرتفعان على جانبي الحَرَم، وقسمٌ مُنْخَفِضٌ وهو في الوسط بمستوى أرضيّة الصحن الخارجي. القسم الغربي لجهة اليمين، والذي يمتد من الجدار الغربي حتى نهاية العضاضة الثانية، مُرْتَفع بمستوى الرواق الغربي.
الأثَر الشريف
أهدى السلطان العُثماني عبد الحميد إلى طرابلس سنة 1308م، شعرتين من أثَر الرسول (ص) وضعتا في علبةٍ من الذهب الخالِص، بُنِيَت لها في الجهة الجنوبية من الرواق الغربي غرفة، تُعرَف اليوم بغرفة الأثَر.
خلال شهر رمضان يحتفل أهل المدينة بزيارة "الأثَر الشريف"، وذلك عقب صلاة آخر يوم جمعة من الشهر، وأيضاً، بعد صلاة الفجر من اليوم السابع والعشرين مع انتهاء ليلة القدر.
المحراب والمنبر
في مُنتصف الجدار الجنوبي (القبلي) للحَرَم، يقوم المحراب الذي يبدو بارزاً عن مستوى الجدار الخارجي للجامع. ويقوم على جانبيّ المحراب عمودان رُخاميان تتوّجهما زخرفة رشيقة، وعلى يمين المحراب ينتصب منبر الجامع الخشبي، وما زال هذا المنبر منذ أن أقيم سنة 1326م، وعند القسم الشرقي المُرتفع من الحرم يقوم محراب ثانٍ من الرخام.
وهناك باب شرقي للحَرَم موازٍ للمدرسة القرطاوية المُلاصِقة للجامع، وهو مُنخفِض عن مستوى الطريق الخارجية.
البرج – المئذنة
المئذنة حالياً ذات أربعة طوابق، ويؤثِر المؤرِّخ تدمري تسميتها ب"البرج". تُشير تشكيلتها البنيانية أنها شُيِّدت على مراحل. الطابق الأول خالٍ من النوافذ، أما الثاني فله نافذتان في جهاته الأربعة، والطابق الثالث به عشر نوافذ. والمئذنة مُستطيلة نوعاً ما، أما قمّتها فتأخذ شكلاً يشبه القمع.
ساعة ومواقيت
في أعلى واجهة الأروقة الشمالية لوحة تُمثّل ساعة شمسية. وقد اتبّع المؤمنون عدّة وسائل لحلول موعد الأذان، نظراً إلى حجم الجامع الكبير، وأبعاده المُترامية. فعند الظهيرة، أو العصر، يتولّى أحد الأشخاص مُراقبة أشعّة الشمس في نقطتين، ومتى بلغت الأشعّة تلك النقطة، أشار المُراقِب إلى شخصٍ آخر ينتظر على مَقْرُبة من المئذنة، ليُعطي بدوره إشارة الأذان للمؤذّن المُنْتَظِر في أعلى المئذنة.
أما تحديد أذان المغرب، فإن المؤذِّن ينتظر في المئذنة لتلقّي إشارةٍ من قلعة المدينة المُرتفعة قُبالته، على بُعدٍ يُناهِز الكيلومتر، ومنها يتثبَّت من مغيب الشمس بدقَّة، فيُعطي إشارة الأذان للمؤذِّن.
محطات
ارتبط إسم الجامع المنصوري الكبير بتاريخ المدينة الحديث فشهد أهمّ التطوّرات والأحداث التي وَسَمَت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، منها مثلاً، أنه بعد تقسيم المنطقة، تشكَّلت تجاذُبات في المدينة، فكان الجامع مُنطلقاً لكل منهما ترويجاً، وحَشْداً لموقفه.
بعد الحرب العالمية الثانية، شهد الجامع العديد من المحطّات الهامّة، مثلاً، يوم عاد القائد الطرابلسي فوزي القاوقجي من حرب1948 قائداً للجيوش العربية، اتّجه إلى الجامع ليلتقي فيه مع جمهورٍ انتظره.
ويوم اندلعت أحداث 1958 على خلفيّة الصِراع بين جمال عبد الناصر وحلف بغداد، في ما عُرِفَ ب"الثورة"، كان المسجد المنصوري مُنْطلقاً لآلاف المُحتشدين المُناصرين للثورة.
التحرّكات التي واكبت ظهور المقاومة الفلسطينية، والمؤيِّدة لها، أواسط الستينات وما بعد، انطلقت من المسجد، والتحرّكات الطالبية والمطلبية انطلقت منه أيضاً، وظلّ الجامع محطّة الالتقاء الأساسية لغالبيّة التحرّكات العامة التي شهدتها المدينة.
تاريخُ الجامع، وموقعه، وحجمه، وتكوينه عناصر تجمَّعت لكي يلعب هذا الدور الهام في نشوء طرابلس وتشكّلها، وقد كان قُبلة أنظار الراغبين بمُمارسة الحياة الدينية والزمنية في آن.