الدمشقيون "محرومون" من إحياء "تكريزة رمضان"
"تكريزة رمضان" واحدة من أهمّ عادات الدمشقيين.. ماذا تعرفون عنها؟ ولماذا باتت حلماً للكثير من العائلات الدمشقية؟
-
ارتفاع الأسعار يحرم الدمشقيين إحياء "تكريزة رمضان"
خجولة، حضرت هذا العام واحدةٌ من أهمّ عادات الدمشقيين لاستقبال شهر رمضان المُبارك، وهي "تكريزة رمضان"، بعدما غابت كلياً العام الماضي بسبب الإجراءات الحكومية لمواجهة فيروس "كورونا"، التي قضت بمنع التجمّعات في الأماكن العامة.
و"تكريزة رمضان" نزهة تقوم بها العائلة أو الأصدقاء في الأيام الأخيرة من شهر شعبان إلى غوطة دمشق وبساتينها ومُنتزهاتها، للتمتّع بالنسيم العليل والمناظر الأخّاذة، فيقوم الأطفال باللعب، بينما تنهمك النسوة في إعداد الطعام الذي يختلف نوعه عمّا يؤكَل في رمضان، فيفضّلون شوي اللحوم وطبغ البقوليات وقلي البطاطا والباذنجان والقرنبيط. أما الرجال فيمضون أوقاتهم بين ورق اللعب وطاولة الزهر الضرب على "الدربكة" أو العزف على العود والبزق.
وذهب عدد من الباحثين والمؤرّخين إلى أن كلمة "تكريزة" سورية قديمة معناها الوداع، والبعض اعتبر أن إطلاق تعبير "كزدورة" هو خاطئ، لأنه من المعروف أن "الكزدورة" هي لمشوار قصير المسافة، بينما "التكريزة" لمسافة طويلة.
يعود أبو محمّد (50 عاماً) بذاكرته إلى سنوات ما قبل الحرب ويحكي لـ الميادين الثقافية عن طقوس أيام زمان قائلاً إن: "تكريزة رمضان عادة مُتوارثة وقديمة من عادات أهل الشام، وتكون قبل يوم أو يومين من شهر رمضان المبارك، حيث اعتاد أصحاب المحال أو الجيران في الحيّ أن يخرجوا مع بعضهم في نزهات و"سيارين"، يتشاركون فيها إعداد وتناول وجبات الفطور والغداء والعشاء فتبقى لهم كذكرى جميلة لرمضان القادم".
لم يتح لأبي محمّد أن يستمتع بـ "التكريزة" هذا العام، فهو يفتقد بشدّة لأبنائه الذين سافروا منذ سنوات لكنه يتواصل معهم عبر الإنترنت ويبادلهم الهموم فيقول: "التكريزة سابقاً كانت تكلّف حوالى ألفين إلى ثلاثة آلاف ليرة، أما اليوم فأقلّ تكلفة لها تتراوح بين 300 و400 ألف، فيفضّل الشخص أن يوفر هذه التكاليف لاحتياجاته الأساسية".
يرسم أبو محمّد ابتسامةً قبل أن يسرع ليلحق بباص البلدية قائلاً: "إذا كان بإمكان الإنسان أن يخرج ويتنزّه ويفرح لِمَ لا؟ لا يوجد أجمل من الفرح، عسى أن يمنّ الله علينا بالفرج القريب".
لا قذائف.. لا مال.. لا بنزين
-
ارتفاع الأسعار يحرم الدمشقيين إحياء "تكريزة رمضان"
تخرج أمّ فراس من أحد محلات الحلويات في حيّ الميدان في دمشق ممسكةً بيد حفيدتها بعد أن اشترت لها قطعة واحدة من حلوى "القطايف".
السيّدة الستينية التي تعتبر "التكريزة" بمثابة توديع للملذّات الدنيوية الاعتيادية استعداداً لتهذيب النفس في شهر رمضان، تؤكّد أن الأمر اختلف كثيراً عما كان في السابق وتشرح: "بسبب قذائف الهاون التي كانت تسقط على العاصمة لم نكن نستطيع الخروج إلى البساتين والمُنتزهات، ولم نكد نهنأ بعودة الأمان إلى دمشق حتى بدأت الأوضاع الاقتصادية تصبح أصعب.. أصبحنا نشترى بالقطعة بدلاً من الكيلو".
من الرفاهية اليوم التفكير بإحياء "التكريزة"، خاصة إذا قاربت الموضوع بمعادلة حسابية سريعة. وتقول أمّ فراس :"لو أردنا الذهاب إلى الغوطة والزبداني علينا أن نأخذ بالحسبان التكلفة العالية لاستئجار الحافلة، نتيجة أزمة المحروقات الخانِقة وغلاء المواد الغذائية، عدا عن أن أبسط طبخة اليوم تكلّف خمسة آلاف ليرة من دون التفكير بالأسعار الخيالية للمُنتجعات والمطاعم".
الأسرة السورية تحتاج إلى ثلاثة رواتب لتغطّي سلّتها الغذائية
-
ارتفاع الأسعار يحرم الدمشقيين إحياء "تكريزة رمضان"
يعزو الخبير الاقتصادي شادي أحمد أسباب ارتفاع أسعار المواد الغذائية إلى العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على البلاد فيقول: "يدّعي مشرّعوا هذه العقوبات أنها لا تمسّ قوت المواطن السوري لكنها في الحقيقة، أثّرت على تدفّق العملة الأجنبية إلى سوريا، وقطعت موارد الاقتصاد الوطني منها، حيث أن تصدير النفط كان المورد الأول للدولارات في سوريا، وكان يتمّ دعم المواد الأساسية من خلاله".
لا يستثني أحمد دور شبكات تجّار الأزمة باستغلال حاجات السوريين ورفعهم الأسعار بشكل جشع لتحقيق ربح غير شرعي على، الرغم من عدم وجود أيّ تناسب بين أسعار السلع والمداخيل مؤكّداً لــ الميادين الثقافية أن "الوضع صعب جداً بالنسبة لأية أسرة لا تمتلك ثلاثة رواتب على الأقل، فالسلّة الغذائية السورية عام 2010، كان يمكن تغطيتها بـــ 40 بالمئة من الراتب، اليوم نحن في حاجة لثلاثة رواتب، ونستهلك منها 80% حتى نغطّي نفس السلّة".
تراث الإنسان هو ما يحدّد هويّته
-
ارتفاع الأسعار يحرم الدمشقيين إحياء "تكريزة رمضان"
بعد 10 سنوات من الحرب السورية، تبدلت الكثير من العادات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، التي يرى أستاذ عِلم الاجتماع في "جامعة تشرين" إبراهيم ملحم أنها: "زادت في عُمق الهوَّة بين الأجيال، وأدَّت إلى خلق عادات مُستحدثة كبديل عن العادات التقليدية، حيث أصبح أغلب الشباب في ظلّ الغزو الثقافي والعولمة، أسرى الثقافات الغازية ويتأثّرون بها سلباً عبر استلاب شخصيّتهم الأصلية وتقويضهم لها".
هكذا، لم تتأثر "تكريزة رمضان" بوصفها تراثاً لا مادياً بمفرزات الحرب فحسب، بل تعرضت لهجوم شرس ومحاولات طمس في زمن العولمة والإنترنت والفضاء المفتوح وزوال الحدود أمام تدفّق المعلومات. ولذلك ينصح ملحم عبر الميادين الثقافية أنه: "بعدما لحق بالتراث اللامادي ما لحق به، علينا أن نحميه ونحافظ عليه ونوثّقه، عبر إنتاج برامج تقوم على الحوار، يتمّ فيها استقطاب الشباب وتدريبهم على تطوير علاقتهم في ما بينهم، ومع المجتمع، لأن مسؤولية بناء سوريا وإعادة إعمارها تقع عليهم".
"تكريزة رمضان".. "أونلاين"
على بُعد آلاف الأميال من سوريا، انتهى الشاب عهد الطيّب مُشاطرة عائلته آخر وجبة غداء قبيل حلول الشهر الفضيل عبر شاشة حاسوبه الصغيرة.
وقال: "عندما نأتي إلى أوروبا في الفترة الأولى نكون مُتمسكين ومُرتبطين بالعادات والتقاليد التي تعلّمناها وتوارثناها عن أجدادنا، لكن مع مرور الأيام نندمج بالمجتمع الذي أتينا إليه ونتناسى هذه العادات".
ويُضيف الطيّب الذي يدرس في ألمانيا: "الحياة هنا مُتعبة. فهي عبارة عن عمل ومنزل ولقاءات مع بعض الأصدقاء. التواصُل الاجتماعي الفعلي قليل، وزاد الطين بلّة انتشار فيروس (كورونا)".
وعن سبب اختلاف الأمر بالنسبة للمُتزوّجين وعائلاتهم فيشرح الطيّب أن "جو الأسرة هو الذي يسمح باستمرار هذه العادات والتقاليد ضمن المجتمعات المُستضيفة".
يحاول الطيّب إخفاء غصّته فيما يقول "كلنا نشتاق لأهلنا وأقربائنا وجيراننا، لكننا نضطر لكَبْت مشاعرنا على أمل اللقاء...وإلى ذلك الحين لا يمكننا سوى الانتظار".